احتضنت محافظة البصرة الجنوبية، التي يطل العراق من خلالها على الخليج العربي، فعاليات دورة «كأس الخليج العربي 25»، بعد انقطاع طويل للعراق عن تنظيم البطولات الدولية. كانت هذه أول مناسبة رياضية، منذ العام 1990، التي يجتمع فيها هذا العدد الكبير من الفرق والمسؤولين والصحفيين الرياضيين الخليجيين، والجمهور القادم من دول الخليج العربية، في مدينة عراقية. وقد أحاط الحدث شعور عام باستثنائية هذه الدورة بفعل التنظيم العراقي لها، وأنّها بوابة جديدة انفتحت في مسار تطوير العلاقات المجتمعية بين العراق والخليج.
علامة فارقة
يُمثِّل احتضان البصرة لهذا الحدث الرياضي الإقليمي علامة فارقة على أكثر من مستوى. فمحلياً، أبرزت البصرة واقعها الخاص وهويتها المتمايزة عن بغداد، وفي شكلٍ يتجاوز النظرة المركزية التقليدية التي تجعل كل الأشياء المهمة تمر عبر بغداد، ويُقوِّي دعاة الحاجة إلى تأكيد هوية البصرة وذاتيها، واستثمار خصوصياتها الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليس فقط في صياغة العلاقة بينها وبين بغداد، بل وأيضاً العلاقة بين العراق وجواره.
ويُمكن هنا ملاحظة الدور البارز الذي بدا أنّ محافظ البصرة، أسعد العيداني، قد أدَّاهُ في المساهمة بدعم الدورة لوجستياً والإشراف على بعض جوانبها التنظيمية، وفي شكلٍ انصب إلى حد كبير في تعزيز رصيده السياسي، سواء تجاه محاولات تقودها بعض أطراف “الإطار التنسيقي” لاستبداله، أو باتجاه تغذية طموحاته بأن يُطرح مرشحاً محتملاً لمنصب رئيس الوزراء مستقبلاً.
تشكُّل سردية مضادة
كما أنّ البصرة التي يعدها البعض معقلاً للنفوذ الإيراني، أو في الأقل محافظة نجح الإيرانيون ووكلائهم في اختراق بُناها الإدارية والأمنية والاقتصادية، كشفت عن رغبة مجتمعية واسعة لإنعاش الهوية الخليجية، ولتعزيز الروابط مع دول الخليج العربية، فيما يبدو نوعاً من المقاومة الناعمة لمحاولات إخضاع المحافظة لمشروع “معسكر المقاومة”، وتكريس المشترك الطائفي مع إيران على حساب المشترك القومي/العروبي مع دول الخليج. فقد أظهر الاحتفاء الجماهيري بالدورة، ومظاهر الضيافة التي عبّر عنها المجتمع المحلي، عن أن الإحساس بالمشترك الأخير لا يزال قائماً، وأنّه قد يُوظَّف بوصفه تعبيراً عن الرفض لمحاولات فرض هوية أحادية تُضعِف الطابع الهجين للبناء الاجتماعي-الثقافي للمدينة.
وبالطبع، فإنّ الاحتفاء الخليجي المقابل بتنظيم العراق للدورة، والذي عبّرت عنه أصوات الجمهور والمعلقين الرياضيين الخليجيين والصحافة الخليجية، فضلاً عن الدور الذي قام به بعض دول الخليج، وبشكل خاص الإمارات وقطر، في دعم تنظيم العراق للدورة، قد قوبل بارتياح مجتمعي في العراق، وخدم في تشكِّل سردية مضادة لتلك التي تروِّج لها الأطراف المقربة من إيران، والتي تتسم بالعدائية أو في الأقل الشك العميق تجاه الخليج، وغالباً ما تستدعي الثنائية الطائفية مخلوطة بأبجدية القاموس التقليدي لـ “معسكر المقاومة”. أظهرت المشاعر المتبادلة التي عُبِّرَ عنها إعلامياً ومجتمعياً بين العراقيين والخليج، أنّ سردية “الأخوة الخليجية” لا زالت قابلة للحياة، وأنّ الاستثمار فيها قد يُسهم في ردم الحواجز التي تشكلت في العقود الماضية، ويسمح للبصرة على الأقل، بتلمُّس البدائل أمامها، والسعي لتنويع علاقاتها، والتحول إلى مصدر لالتقاء المصالح، بدل الذهاب بمسار الانعزال عن جنوبها العربي.
الخضوع لحسِّ الشارع
عدا ذلك، عبّرت الدورة عن رغبة مجتمعية عراقية عارمة باستعادة أشكال الحياة الطبيعية، والخروج من دوامة الصراعات، والحد من سطوة ما هو سياسي على الحياة اليومية. من المعروف أنّ الشباب يؤلفون نسبة عالية من سكان العراق (بحدود 60% من السكان هُم مِن أعمار تقل عن الـ 25 عاماً)، والمشترك بين قسم كبير منهم هو البحث عن عمل، والبحث عن قنوات ترفيه، ولغياب الاثنين معاً دور في انتعاش استهلاك المخدرات والجريمة المنظمة والعنف. لقد قدَّمت دورة الخليج مثالاً على التوق الشبابي لفضاءات الترفيه البديلة، وضرورة هذه الفضاءات لمواجهة البدائل المدمرة، حيث يُمكن للرياضة والفن وصناعة الترفيه، وهي مجالات حققت فيها دول الخليج العربي نجاحات مهمة، أن تضع ركائز للانفتاح على الشباب العراقيين، ومن خلالهم لعموم المجتمع.
كما أظهرت الدورة حاجة مجتمعية عراقية – برزت في مناسبات سابقة – للبحث عن نقاط التقاء وطنية، تتجاوز الهويات الضيقة والصراعية، وفي هذه الحالة كان دعم فريق كرة القدم الوطني تعبيراً عن هذه الحاجة. ولكن كما كان الأمر في احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019، يبدو أنّ المجتمع أكثر تقدماً من الساسة والقوى المهيمنة على المشهد السياسي في إدراك هذه الحاجة، وبالتالي استمرار الافتراق بين مسار الاثنين، بين تأكيد مجتمعي على الخصوصية العراقية الجامعة، وبين تأكيد القوى السياسية المختلفة على الخصوصيات الفرعية. مع ذلك، لوحظ خضوع الأطراف السياسية العراقية لحسِّ الشارع، بما في ذلك اضطرار القوى المقربة من إيران، أو التيار الصدري، إلى عدم تحويل التجمهر في البصرة إلى مناسبة لإبراز شعاراتها ورموزها، بما تنطوي عليه من طابع تفريقي. فـ “الإطار التنسيقي” رأى في نجاح الدورة نجاحاً للحكومة التي شكّلها، بينما حاول التيار الصدري الترويج لفكرة أنّ الاحتفاء الجمعي بالدورة يعكس صوابية نهجه بالمحافظة على علاقات جيدة مع المحيط العربي.
وفي المحصلة، فإنّ مظاهر الاحتفاء بفعاليات بطولة «كأس الخليج العربي 25»، من جانب العراقيين أو الخليجيين، قد تذهب كلحظة عابرة يطويها النسيان، إن لم تنتج عنها مقاربة مختلفة، سواء على صعيد نظرة البصرة لنفسها وهويتها، ونظرة العراق لعلاقاته الخارجية، ونظرة الخليج للفرص الكامنة المتاحة في جواره العراقي.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/ma-aladhi-kashafath-dawrat-alkhalij-fi-albasra