الثقافة الإسلامية في المؤسسات الخدمية

جميل عودة ابراهيم

 

يعمل في البلاد الإسلامية الآلاف من المواطنين في المؤسسات العامة كموظفين دائمين وغير دائمين، بدوام كلي أو جزئي. وآخرون يزيدون عنهم يعملون في مؤسسات القطاع الخاص كالشركات والمصانع والمحلات التجارية وغيرها، بالإضافة إلى العاملين في المنظمات المجتمعية التطوعية. ومهمات هؤلاء جميعا هي تقديم الخدمات الإدارية والمالية والاقتصادية والتعليمية والصحية، وخدمات البلدية والماء والكهرباء والاتصالات وغيرها من الخدمات العامة والخاصة التي يحتاجها أفراد المجتمع.

وقد جرت العادة أن مؤسسات الخدمة العامة والخاصة تسعى عموما إلى كسب رضا المتعاملين بهدف جذب المواطنين إلى شراء منتجاتهم وخدماتهم. والقاعدة الذهبية التي تحكم علاقة مؤسسات الخدمة بالمواطنين هي إنه كلما حسنت هذه المؤسسات من منتجاتها وخدماتها، وزادت من جودتها أقبل الناس على منتجاتها وخدماتها، وكلما حسن موظفوها طرق تعاملهم مع الزبائن الذين يتلقون خدمات مؤسساتهم أشاد الناس بالمؤسسة وبموظفيها، وزادت رغبتهم في التواصل معهم.

والسؤال هنا لما كان هدف كل مؤسسة هو كسب رضا المتعاملين والزبائن بهدف ترغيبهم للحصول على منتجاتها وخدماتها، ولما كان الإسلام قد شرع قواعد وضوابط وطرق للتعامل فيما بين الناس، وفي الإحسان إليهم عموما، ومنها تنظيم العلاقات الخدمية والتجارية على وجه التحديد. ورتب على ذلك جزاء في الدنيا وجزاء في الأخرى، فلماذا لا تعمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية على إدخال قواعد الإسلام الأخلاقية في ضمن القواعد الإدارية والقانونية المعتمدة لديها لتحسين المنتجات والخدمات وتنظيم طرق تعامل المؤسسات وموظفيها مع المتعاملين والزبائن؟

في الواقع أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى طرح سؤالين آخرين هما:

1. ما هي حاجة المؤسسات العامة والخاصة والمنظمات التطوعية لمثل القيم الأخلاقية في الإسلام، ففي الغالب، تكون هذه المؤسسات ملتزمة بقواعد قانونية وإدارية تعتمد عليها في شرعية وجودها وتأسيسها، وتحكم أهدافها ونشاطاتها وخدماتها، وموظفو هذه المؤسسات ينبغي أن يتقيدوا بهذه القواعد والضوابط في أداء أعمالهم ونشاطاتهم، ويتعرضوا للعقوبات الإدارية في حال التقصير في تنفيذها أو مخالفتها؟

2. ما هي تلك القيم والقواعد الأخلاقية التي جاء بها الإسلام والتي تساعد مؤسسات الخدمة على تحسين علاقتها مع المتعاملين والزبائن، والتي يمكن بسببها أن يحصل المتعاملون على منتجات وخدمات ذات جودة عالية؟

نعم؛ يوجد في أغلب المؤسسات العامة والخاصة قواعد إدارية وقانونية مكتوبة أو عرفية (نظام داخلي) تنظم أصل وجودها وتعاملاتها، ويرجع إلى هذه القواعد في حال واجهت مشكلات داخلية وخارجية، وهي ضرورية لتنظيم عمل تلك المؤسسات، ولكن رغم وجود الأطر القانونية والإدارية في جميع المؤسسات الخدمية الحكومية وغير الحكومية، سواء من جهة تأسيس هذه المؤسسات أم من جهة العلاقة بينها وبين موظفيها، أم من جهة طبيعة خدماتها ومنتجاتها، إلا أن هذه الأطر -لاسيما في المؤسسات الحكومية- تظل حبرا على ورق، ولا يُعمل بها إلا نادرا. إذ في الغالب تعمل المؤسسات اعتمادا على رؤية مديريها، وعلى سلوك موظفيها وتتقيد بالقواعد العرفية التي يسنونها، بغض النظر عن مطابقتها للأطر الإدارية والقانونية للمؤسسة أو مخالفتها.

ففي بُعد المنتج (مثلا) فان الكثير من المؤسسات الإنتاجية لا تتقيد بالمواصفات القياسية لمنتجاتها، كالأبعاد، والأوزان، والأحجام، والخواص الطبيعية، والكيميائية والهندسية للمنتج، وطريقة الإنتاج، وطرق القياس والمعايير المطلوبة لاختبار المنتج أو المواد اللازمة، وكيفية التخزين والتداول، وتحقيق الأمن والسلامة الصحية والبيئية وغيرها.

وفي بُعد الخدمات (مثلا) نجد أن أكثرية مؤسسات الخدمة تفتخر أنها تقدم خدمات ذات جودة عالية للزبائن وأسعار ملائمة إلا أن خدماتها وأسعارها على ارض الواقع ليست كما تدعي هي، والمواطنون إما يعزفوا عن شراء تلك الخدمات، أو يضطروا إلى شراءها رغم رداءتها كما يحصل عندنا في شراء خدمات الاتصالات كون شركات الاتصالات المزودة للخدمة حصرا على ثلاثة شركات فقط.

وفي بُعد التسويق والدعاية للمنتجات أو الخدمات (مثلا) فان الكثير من المؤسسات العامة والشركات الخاصة لا تتقيد بالمصداقية في الترويج لبضائعها وخدماتها، وتبالغ كثيرا في المواصفات الإيجابية لتلك المنتجات والخدمات بقصد التأثير على المواطنين للحصول عليها. فعلى سبيل المثال تروج شركات إنتاج المشروبات الغازية لمنتجاتها على أنها تمنح الإنسان السعادة والانتعاش مع أنها من الناحية العلمية تضر بمتناوليها. وتروج شركات إنتاج السكائر لمنتجاتها بأنها تساعد الإنسان على تخطي أحزانه وهمومه مع أنها تزيد من معاناة الناس وخسارتهم البدنية والمالية. وكثير من الشركات ترويج لبضائعها على أنها أجود المنتجات وأفضلها مع أنها بضائع رديئة، ولا تحظى بالجودة، ولا تخضع للمعايير القياسية المعتمدة.

وفي بٌعد التعامل مع الزبائن (مثلا) حيث تأخذ المؤسسات الحكومية الراعية للخدمات العامة حيزا واسعا من هذا البعد، فليس ثمة شك أن غالبية المؤسسات الخدمية الحكومية في بلادنا مع أنها وضعت قواعد واضحة للتعامل مع المواطنين مبنية على أساس التعامل المهني والأخلاقي والإيجابي مع المواطنين إلا أن الواقع يؤكد أن من بين الأماكن التي يفقد بها المواطن إحساسه بالكرامة هي مؤسسات الدولة الخدمية، وذلك بسبب الإجراءات الروتينية المعقدة، وبسبب سوء تعامل موظفي هذه المؤسسات مع المواطنين بقصد ابتزازهم.

كل ذلك وغيره يدفعنا إلى طرح فكرة (إدخال منظومة الثقافة الإسلامية الأخلاقية في المؤسسات الحكومية) التي يمكن لو طبقناها تطبيقا علميا ستحد بشكل كبير من الإشكالات التي ذكرناها آنفا. إلا أن هناك سؤال مازال يدور في الذهن وهو أن إدارة المؤسسة وموظفيها لم يتقيدوا أصلا بالقواعد الإدارية والقانونية للمؤسسة، والتي يترتب عليها عقوبات إدارية مباشرة في حال التقصير في أداءها أو مخالفتها؛ فكيف يمكن أن يتقيدوا بالقواعد الأخلاقية الإسلامية التي لا يترتب عليها عقوبات مباشرة لإدارة المؤسسة وموظفيها؟

في الواقع؛ يخضع كل إنسان منها إلى نوعين من الرقابة، الأولى هي (رقابة خارجية) وهذه الرقابة يمكن أن تفرضها الدولة على سبيل المثال لدفع الناس على الالتزام بالقوانين والأنظمة، ويمكن أن تفرضها المؤسسات الخاصة لدفع الموظفين على الالتزام بها، ويمكن أن يفرضها العرف الاجتماعي والتقاليد المحلية مثل ضرورة احترام الجار وعدم إيذاءه، ومثل احترام كبار السن ومساعدتهم وغيرها. وفي كل الأحوال يجد الإنسان نفسه ملزما بها وملزم بتطبيقها ولو ظاهريا، سواء آمن بها أو لم يؤمن إلا تعرض إلى عقوبة السلطة أو عقوبة المجتمع.

والثانية هي (رقابة داخلية) وهي رقابة الإنسان على ذاته، وهذه الرقابة أبلغ أثرا من الرقابة الخارجية، لأنها تحصل وتنفذ بمحض إرادة الإنسان من دون أن يكون هناك تأثير عليه لا من السلطة، ولا من المجتمع. فيشعر الإنسان من أعماق ذاته أنه مؤمن بهذه الرقابة وملزم بتطبيقها وإذا ما خالفها سيؤنبه ضميره قبل أن يحاسبه المجتمع مثل ضرورة احترام الأبوين وتقدرهما ومساعدتهما، فان كل واحد منا يشعر ذاتيا أنه ملزم باحترام أبويه، وإذا تطول عليهما سيشعر بالندم وتأنيب الضمير، قبل أن يعاتبه الآخرون. مع ذلك لا تحصل (الرقابة الذاتية) ما لم يكن هناك مبادئ وقيم أخلاقية يتربى عليها الإنسان ويتعود عليها منذ صغيره، وهذه القيم يمكن أن تكون القيم الإسلامية الأخلاقية التي ندعو إلى اعتمادها في المؤسسات العامة والخاصة.

ولعل من بين القيم الإسلامية الأخلاقية التي يمكن إدخالها في ضمن القواعد التنظيمية للمؤسسات الخدمية هي:

1. الوظيفة أمانة: الوظيفة في الإسلام أمانة، عامة كانت أم خاصة، والمسلم مطالب بحفظ هذه الأمانة وصيانتها لحين تسليمها، قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إّنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيراً و(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)

2. الوظيفة إتقان وإخلاص: يدعو الإسلام كل مسلم أن يخلص في عمله المكلف به، وأن يتقنه على الوجه الصحيح، دون أن يقصر أو يغش فيه، وعد ذلك صفة من الصفات الحميدة فقد جاء في الحديث النبوي المشهور (رَحمَ اللهُ امرء، عَملَ عملاً فأتقنهُ) وجاء أيضا عنه (ص) أنه (من غشتا فليس منا).

3. الوظيفة تواضع وتعامل حسن: قد ركز الإمام علي (ع) على جانب التعامل مع الناس من قبل موظفي الدولة ومسئولي الأجهزة الحكومية في عهده لمالك الأشتر حينما ولاه مصر، حيث كتب له قائلا “وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق” حيث إن الناس بطبيعتهم يستثقلون القوانين والأنظمة بشكل عام، وإن كانت ضرورية لتنظيم الأمور، فإذا ما أضاف الموظف بسوء أخلاقه عليهم ثقلا آخر، فإن ذلك يحدث في نفوسهم السخط والنقمة، وينفّرهم من النظام والقانون.

4. الوظيفة مسؤولية: أشارت الكثير من الدراسات أن الموظفين عموما لا يلتزمون بالأوقات المحددة للعمل، وغالبا ما يحتالون على الإدارة، وقد بلغت نسب هذه الاحتيالات ملايين الدولارات، رغم وجود القوانين والأنظمة الصارمة عند بعض المؤسسات ويتضح ذلك جليا في المؤسسات الحكومية التي يكثر فيها الموظفون عن حاجة المؤسسة. لذا فمن الناحية الشرعية يعد الموظف ملتزما بعقد يؤدي بموجبه عملا معينا ليستحق عليه أجرة محددة. وإن التقصير في القيام بمهام الوظيفة والعمل بسبب الكسل وحب الراحة، والانشغال بالأمور الشخصية في وقت العمل هو حرام شرعا لما فيه من تفويت لمصالح الناس، حيث يعاني الكثير من المواطنين من مماطلة بعض الموظفين وتأخير إنجاز معاملاتهم، وإيذائهم بتكرار مراجعاتهم للدوائر، مع إمكان إنهاء المعاملة فورا وبوقت أقصر وأسرع. وإلى جانب حرمة تفويت مصالح الناس وإيذائهم، فإن هناك إشكالا شرعيا فيما يستلمه من راتب وأجر مقابل هذا الوقت المضاع، إن كل يوم من أيام العمل وكل ساعة من ساعاته، يتغيّب فيها العامل أو يهدرها دون عذر مشروع، فإن المبلغ الذي يقابل ذلك الوقت من راتبه لا يحل له شرعا

5. الوظيفة حسن الاختيار: من أجل أن يؤدي الجهاز الإداري والتنفيذي دوره على أحسن وجه، لابد من حسن الاختيار وخاصة لذوي المراتب المتقدمة، والمناصب العليا، وتركز النصوص الدينية على صفتين رئيستين يجب أن تتوفرا في الموظف المسؤول: صفة الأمانة وصفة الكفاءة. والأمانة تعني أن يحافظ على الإمكانات التي تكون تحت يده فلا يُصرف شيء منها إلا في موارده المقررة، وأن لا يسيء استخدام موقعه وصلاحياته تبعا لرغباته وميوله، وتنفيذا لمآربه الشخصية وانتماءاته. والكفاءة تعني الجدارة والأهلية للمسؤولية الملقاة على عاتقه، يقول تعالى عن لسان نبيه يوسف (ع) حينما رشّح نفسه لإدارة الاقتصاد في مصري: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) لقد وصف نفسه بصفتين اعتبرهما مبررا لأهليته وصلاحيته للمنصب: أنه حفيظ أي أمين مؤتمن يحفظ ما يكون تحت يده من ثروات وإمكانيات، وعليم أي صاحب معرفة وكفاءة تمكنه من تحمّل المسؤولية وأداء المهمة.

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/organizations/27740

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M