الجماعة الإسلامية والحراك في لبنان

شفيق شقير

إن من المعايير التي تُقاس بها أهمية الجماعة الإسلامية وأهمية دورها في محيطها اللبناني أو في السياق العربي والإسلامي، أنها تكاد تكون الكيان اللبناني الإسلامي الوحيد الذي يمارس دورًا سياسيًّا، ويمثِّل شريحةً واسعةً من اللبنانيين السُّنَّة بعد تيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري، وتستدعيها “السُّنِّيَّة السياسية” لتكون إلى جانبها فقط عند تلاقي الديني والسياسي في الصراع الطائفي اللبناني أو في المنطقة(1)، كما أنها جزءٌ من منظومة حركة الإخوان المسلمين، ولو من حيث المرجعية الفكرية والرؤية، وهي الحركة التي قُرن صعودها السياسي بصعود الربيع العربي عام 2011. كما تحمل الجماعة كثيرًا من سمات المحيط العربي وترتبط به، سياسيًّا واجتماعيًّا، والمشرقي منه على وجه الخصوص، وتقدِّم نفسها كأحد الفاعلين المعنيين بما يجري في سوريا وفلسطين، وهي معنيَّة بالحالة الإسلامية وتطوراتها في عموم المنطقة.

إن هذين المعيارين لأهمية الجماعة: الطائفي في سياق النظام اللبناني، والأيديولوجي في السياق العربي والإسلامي بما يتجاوز الوطني، لم يمنعاها من التماهي مع الحراك اللبناني الذي يُطلق عليه بشكلٍ شبه رسمي: “انتفاضة 17 تشرين”، التي اندلعت في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقامت بالأساس كرد فعلٍ على مخرجات النظام اللبناني – الذي قام بعد اتفاق الطائف عام 1990 – وأفضت إلى توزيعٍ طائفيٍّ للقوة والثروة، وكرَّست الفساد والزبائنية فيه. ومن المُلفت أن توزُّع الحراك طائفيًّا وضعَ السُّنة اللبنانيين ومدنهم وقراهم في مقدمة الثائرين، ولكن بدوافع وشعاراتٍ ومطالب وطنيَّة.

ويبدو أن هناك تناقضًا بالضرورة بين الجماعة كمكونٍ طائفيٍّ والحراك كفاعلٍ وطنيٍّ، إلَّا أن اتفاق الجماعة مع الحراك في المطالب وخطاب التغيير إلى حدٍّ بعيدٍ، خلقَ مجالًا من التفاعل الإيجابي سيكون له تأثيره في الجماعة.

الجماعة بين يدي الحراك

جاء صعود الإخوان المسلمين والقوى المحسوبة عليها في سياق الصعود السياسي لقوى الربيع العربي عام 2011، ليفتح آفاقًا سياسيةً أمام الجماعة الإسلامية لم تُتح لها من قبل، وكذلك لتعيد النظر في أدائها وبنيتها التنظيمية بما يؤهلها للعب دور سياسيٍّ مُعتبَر في الساحة اللبنانية. ولكن هذه النافذة ما لبثت أن أُغلقت بالانقلاب في مصر (عام 2013)، وما تلا ذلك من تشكُّل “تحالف عربي مضاد للثورات” ولحركة الإخوان المسلمين ضمنًا، ومحاصرتها على صعيدٍ عربيٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ. فضلًا عن مجيء الأزمة الخليجية (حصار قطر) في صيف 2017، لتزيد الطين بلَّةً على الجماعة التي اعتادت التعامل مع خليجٍ موحَّد، فإذا به منقسم على نفسه، بل هي هدف لبعضه.

لم تكن الجماعة استثناءً مما تعرضت له منظومة الإخوان المسلمين من ضغوط، فلم تعُد الجماعة ولا الجمعيات الرديفة أو الشخصيات المرتبطة بها أو القريبة منها موضعَ ترحابٍ في المملكة العربية السعودية – التي اعتادت احتضان سُنَّة لبنان – ولا في الإمارات إلى حدٍّ ما. كما أن مصر – بحسب اعتقاد قياديين في الجماعة – اتخذت منها موقفًا عدائيًّا، حتى إن السفارة المصرية في بيروت لعبت دورًا في تعقبها سياسيًّا(2)، وظهرت آثار ذلك جميعًا في نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي عُقدت عام 2018، حيث انتهت بخروج الجماعة منها بلا أي مقعد. وتبرِّر الجماعة ذلك بتعرضها لحصار “عربي”، فلم تستطع التفاهم أو التحالف سواء مع تيار المستقبل أو مع سواه من قوى 14 آذار – التي ربطتها بها علاقة خاصَّة بعد اغتيال الحريري منذ عام 2005 -؛ لأن هناك قرارًا عربيًّا بتحجيمها أو إبعادها عن المشهد السياسي(3).

ومن جانبٍ آخر، فإن علاقتها مع محور إيران-حزب الله كانت في طور التدهور بسبب دور إيران في المنطقة العربية، وخاصةً في الحرب السورية (2011)؛ حيث رأت أنه يقوم على “أبعاد طائفية وتوسُّعية” لمصالح إقليمية، ولا “صلة له بالمقاومة”، فتحوَّلت إيران من صديقٍ وحليفٍ محتملٍ – خاصةً في الثمانينيات والتسعينيات- إلى خصمٍ، بل إلى خصمٍ يحظى بالأولوية من حيثُ ضرورة مواجهته لتغيير سلوكه(4). فمعركة “المحور الإيراني” في سورية وحتى في لبنان كان يخوضها تحت عنوان محاربة “الإرهاب”، الذي يضمُّ – بوجه من وجوهه ولو من الناحية الإعلامية والتعبئة العقائدية – “حركة الإخوان المسلمين”. وتعزَّز الانقسام بين الطرفَيْن بخروج “حركة المقاومة الإسلامية” حماس من دمشق عام 2012، ووضعها مسافةً بينها وبين إيران وحزب الله؛ لتفادي التورط في الحرب الجارية في سوريا والمنطقة، أو لتفادي “الاصطفاف ضد شعوبها”.

وعلى الصعيد المحلي، فإن تموضع حزب الله ومحوره في البيئة اللبنانية بما يتناقض مع تموضع الجماعة وتطلُّعات جمهورها على هذا الصعيد، وضع كلًّا منهما في مواجهة الآخر، ليس سياسيًّا فحسب، بل أيديولوجيًّا وطائفيًّا أيضًا(5). فجمهور الجماعة في معظمه لا يزال يرى في حزب الله قوةً مهيمنةً على الدولة، وأنه انتقل من الموقع المقاوم إلى موقعٍ وظيفيٍّ “طائفيٍّ” يقود تحالفًا من “الأقليات” في لبنان والمنطقة ضد الأكثرية ويحرِّض عليها، في حين يضع جمهور حزب الله الإخوان والحركات الإسلامية “التكفيرية” في سلةٍ واحدةٍ من حيثُ مواجهة مشروع “المقاومة”، حتى في الخطاب اللبناني المحلي، وخاصةً بين أعوام (2013-2017) (6).

ولكن لمَّا تحسَّنت علاقة قوى المقاومة الفلسطينية – وتحديدًا حماس – مع “حزب الله وإيران” (عام 2017)، تضاعفت الضغوط على الجماعة لتفي بمسؤولياتها الإقليمية، التي تتقدَّم تاريخيًّا على طبيعتها المحليَّة. فكان عليها أن تواصل التزامها السياسي فيما يتعلَّق بالقضية الفلسطينية، ومراعاة متطلبات “المقاومة” الفلسطينية من محور حزب الله، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، عليها الاستمرار في التزامها بالمسألة السورية التي تتصدَّر اهتمامها منذ عام 2011، وإن كان هذا الالتزام طغى عليه البُعْد الإنساني مؤخرًا، أكثر من الانخراط السياسي. وقد شهدت الفترة التي سبقت الحراك اللبناني اجتماعاتٍ ولقاءاتٍ بين شخصياتٍ أو قياداتٍ من حزب الله والجماعة الإسلامية – لعبت فيها حماس دورًا إيجابيًّا – ساهمت في تخفيف حدَّة الاشتباك السياسي بينهما، لكن بقي كلٌّ منهما في موقعه، مع الحرص على تفادي المواجهة المباشرة وعدم تصعيد الخلافات بينهما(7). وبهذا توزَّعت جهود الجماعة في محاولةٍ لتوازن – في الخطاب والتوجُّه السياسي – بين الالتزامَيْن الفلسطيني والسوري، وبين الإقليمي والمحلي، في بيئةٍ تثير العديد من التناقضات في السياسات والالتزامات.

فقد فرض هذا السياق – بوجهيه الإقليمي والمحلي وما انتهى إليه – على الجماعة ما يقرب من العزلة السياسية (الإقليمية والمحلية) والحصار المالي؛ حيث إن المداخيل الأساسية للجماعة التي كانت تأتي من تبرعاتٍ من الخارج قد تراجعت إلى حدِّ التدهور، وأخذت تعتمد الجماعة – إلى حدٍّ كبيرٍ – على ما تجبيه من أعضائها وبعض الاستثمارات المحدودة(8). أما ما يأتيها من الجمهور اللبناني فيكاد لا يُذكَر؛ لأن التجنيد بطيء لأسباب تنظيمية؛ إذ لا تزال الجماعة نخبويةً نسبيًّا، وهي تستهدف الجمهور السُّني المتدين بالدرجة الأساسية، وضعيفةً نسبيًّا لعدم قدرتها – خاصةً منذ مقتل الرئيس الحريري عام 2005 – على تأسيس خطابٍ يلبي طموحات ساحتها المحليَّة ويواجه التحديات الوطنيَّة لينافس تيار المستقبل على الأقل، فحرمها ذلك من تكوين شريحةٍ مؤيدةٍ من الجمهور السُّني – وتحديدًا من الطبقة الوسطى – لتكون رافعةً اقتصاديةً وسياسيةً لها.

وعلى الصعيد التنظيمي، فإن الجماعة الإسلامية شهدت ما بين الربيع العربي (2011) والحراك اللبناني (2019) مرحلةَ انتقالٍ طويلة في القيادة – ربما لم تنته بعدُ – من الجيل المؤسس إلى الجيل التالي له(9)، وهو ما أحدث تبايناتٍ وخلافاتٍ تنظيميةً لم تكتمها الجماعة. فبوفاة الشيخ فيصل مولوي عام 2011 – أمينها العام منذ عام 1992، وكان يُعَدُّ من فقهاء حركة الإخوان المسلمين ومن الوجوه اللبنانية الدينية البارزة – تراجع أداء الجماعة وتأثيرها نسبيًّا، وتراجعت نسبة قبولها عربيًّا إلى حدٍّ ما. واكتفى خلفه إبراهيم المصري (انتخب عام 2010) – وهو أيضًا من جيل المؤسِّسين – بإدارة المرحلة فقط، والتهيئة لانتقال القيادة إلى الجيل التالي. ولم يأتِ اختيار عزام الأيوبي أمينًا عامًّا للجماعة (2016) خلفًا للمصري بسهولةٍ ويُسْر، خاصةً مع التجديد الثاني للأيوبي (بداية عام 2019)؛ حيث انتخبه مجلس الشورى بفارق صوتٍ واحد، في دلالةٍ على عمق الاختلافات بين أقطاب الجماعة، وعلى تعاظم التحديات التنظيمية، وهو ما يثير أسئلةً حول مدى قدرة الجماعة على تجديد دمائها أو استقطاب الأجيال الشابَّة لصفوفها، فضلًا عن أن تلعب دورًا تغييريًّا في الساحة اللبنانية.

وهكذا جاء الحراك اللبناني والجماعة الإسلامية لم تستقر أوضاعها التنظيمية ولا رؤيتها لمرحلة ما بعد الربيع العربي، وهي تعاني من عزلةٍ وحصارٍ سياسيٍّ وماليٍّ، وتواجه تحدياتٍ محليةً لبنانيةً مفتوحةً على تطوراتٍ إقليميةٍ ليست لصالحها، ولا لصالح البيئة السُّنية ولا “الإسلاموية” التي تنتمي إليها، إقليميًّا ولبنانيًّا، ولأول مرة تشعر بالمسؤولية المباشرة عن طائفةٍ في لبنان والإقليم، أي السُّنة، بالإضافة إلى مسؤوليتها الأساسية، أي رسالتها الأيديولوجية.

استجابة الجماعة للحراك

عمَّت التظاهرات بيروت في يوم 17 تشرين الثاني بمشاركةٍ واسعةٍ من قِبل عموم اللبنانيين، ومن ثَمَّ عمَّت كل المناطق اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب. ورغم ترحيب كل الأحزاب اللبنانية المبدئي بالحراك ومطالبه، فإن الأحزاب الأساسية الفاعلة في النظام وقفت ضد الحراك، مثل الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) والتيار الوطني الحر، أو تحفَّظت عليه وتجنَّبت المواجهة المباشرة معه وربما حاولت الاستفادة منه، مثل تيار المستقبل، في حين أن هناك أحزابًا أيَّدته بالمطلق وبلا شروط، وهي قليلة جدًّا، ومن هذه الأحزاب: الجماعة الإسلامية.

وهو موقف متوقَّع منها في السياق اللبناني الطائفي، لا سيما وأن طرابلس شهدت في هذا الحراك التجمُّعات الأكبر، وحافظت على قوتها رغم تراجع بقية المناطق أحيانًا مع مرور الوقت؛ لأنها من أكثر المتضرِّرين من النظام اللبناني الذي تأسَّس منذ اتفاق الطائف عام 1990. فطبقيًّا تضمُّ طرابلس الشرائح الأفقر(10)، ومذهبيًّا فيها الخزان السُّني الأساسي، الذي ما فتئ يشكو من التمييز الطائفي ضده والتهميش، نتيجةَ تطور الأحداث ضده، سواء محليًّا أو في الإقليم.

ومن حيثُ الرؤية، فإن الجماعة لا تفصل الحراك – كحدثٍ وما يحمله من قيمٍ سياسية – عمَّا شهده العالم العربي من ثورات عام 2011، لا سيما وأن أهداف الحراك الجامعة ليست بعيدةً عن مطالب “الربيع العربي”، التي كانت تدعو لسقوط الأنظمة، ولكن بما يتلاءم مع السياق اللبناني وتعقيداته. فمطالب الحراك تدور حول أربعة أهداف أساسية لا تزال فعليًّا تقوده في غياب أية قيادة محدَّدة له؛ أولها: سقوط الحكومة، وثانيها: حكومة مؤقَّتة لستة أشهر مكوَّنة من تكنوقراط وبصلاحياتٍ استثنائية، وثالثها: إجراء انتخاباتٍ نيابية جديدة، ورابعها: استعادة الأموال المنهوبة(11). ومن الواضح أن الغاية من هذه الأهداف هي تغيير الطبقة الحالية الحاكمة، وإنتاج طبقةٍ جديدةٍ على أمل تكريس رؤيةٍ جديدةٍ للحكم، تُخرج لبنان من أزماته الاقتصادية والانتقال به إلى وضعيةٍ أخرى تسمح للبلد بالنهوض، وليس التعافي فحسب.

رأت الجماعة في هذه الأهداف “فرصةً حقيقيةً لبناء دولة خارج نطاق سيطرة القوى السياسية التقليدية من أحزاب الطبقة الحاكمة منذ عام 1990، أو أن يكون للناس القدرة للضغط عليها على الأقل، من أجل تحقيق مصالحهم، كما أنها تعبِّر عن مطالبها “الإصلاحية” التي تقوم على إلغاء الطائفية السياسية”(12)، الذي تدعو إليه منذ السبعينيات على الأقل(13)، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وإصلاح القضاء، والقضاء على الفساد، وما إلى ذلك من مطالب إصلاحية، كانت قد ضمَّنتها وثيقة عام 2017 التي أطلقت عليها اسم “رؤية وطن”(14).

ولكن هذا لا ينفي – كما يقول نائب الجماعة السابق في البرلمان اللبناني عماد الحوت – أن الحراك قد فاجأ الجماعة كما سواها وأربكها في بداية الأمر، ليس بسبب التحفُّظ عليه، بل للبحث عن كيفية مواكبته؛ إذ لا تساعد بنيتها التنظيمية على ذلك. فاعتماد الجماعة مقاربة “الإطار الشامل” في فهم الإسلام وفي مقاربة العمل السياسي، أي “السعي لجعل الإسلام حاكمًا على كافة مجالات الحياة”، “يجعل من الصعب عليها التعامل مع الشأن العام في بلدٍ متعدِّدٍ دينيًّا ومذهبيًّا كلبنان بمرونة عالية، كما أن النمط التربوي لا يزال يغلب على أدائها، ولكن تأييد الجماعة للحراك وانخراطها فيه سهَّل عليها هذه المهمَّة”.

وجدت الجماعة في الحراك رافعةً لخطابها الإصلاحي، فأحد التحديات التي كانت “تمنعها من تحقيق أهدافها الإصلاحية في الواقع اللبناني، وتعيق استجابة الناس لخطابها السياسي والآليات الاقتصادية التي تدعو إليها، هو النظام الطائفي اللبناني”(15). وبهذا فقد شكَّل الحراك فرصةً لها لتكون جزءًا منه كحركة تغييرٍ شعبية ما دام يحمل بعضًا مما تستهدفه، وبهذا أصبح الحراك والآليات السلمية التي يعتمدها إحدى خطوات التغيير بالنسبة إليها. ولهذا كان مما اتُّهِم به الحراك أحيانًا أن بعض فعالياته ونشاطاته هي من تدبير أو صنيع معارضي قوى 8 آذار، ومنهم الجماعة الإسلامية، ولا شيء يمنع أن الجماعة ربما رأت في الحراك فرصةً لإخراج البلد من هيمنة طرفٍ واحدٍ، وهو قوى 8 آذار(16)، التي تهيمن على مجلس النواب، وعلى الحكومة، وعلى الحياة السياسية اللبنانية.

وقد شارك جمهور الجماعة والمنتمون إليها في التحركات في كل المناطق اللبنانية التي لهم وجود فيها وبتفاوت، كجزء من المجتمع اللبناني وباسمهم الشخصي، “وليس باسم الجماعة كفريقٍ سياسيٍّ ولا بقدراتها التنظيمية؛ لأن الحراك بطبيعته شعبيٌّ، والانخراط بأي اسمٍ تنظيميٍّ – بتقدير الجماعة – كان سيفجِّر الحراك من داخله”.

ومن الأسباب الأخرى العميقة أيضًا التي يجب أخذها بالاعتبار في هذا الشأن، أن تجربة الربيع العربي كانت كُلفتها كبيرة على “حركات الإسلام السياسي” في دول الثورات، وحتمًا لم ترد الجماعة تكرارها في لبنان بأي صورةٍ من الصور. “وهذا لا يعني أن جمهور الجماعة شارك بتلقائية في الحراك، فقرار الجماعة بالمشاركة كان مشجعًا ومطمئنًا له كي يشارك في هذا الخيار”(17)، فكان له حضور ملحوظ في مدينة صيدا الجنوبية، في التجمُّعات وبقية النشاطات بشكلٍ عامٍّ(18). أما في بيروت، فكان حضورهم الأبرز في مجموعة “شباب لبيروت”، وهي مجموعة محافظة دينيًّا وغير منتمية لأيٍّ من الحركات الإسلامية، ولعبت دورًا تعبويًّا، خاصةً في الأسابيع الأولى من الحراك. في حين أن بعض نشاطهم في الشمال تأطَّر على صعيد المشاركة في اللجان المنظِّمة للحراك، بمجموعة تُسمَّى “شباب لطرابلس”، وهي على غرار تلك التي في بيروت؛ ولكن على صعيد المشاركة في “ساحة النور”، مركز الحراك في الشمال، فالجمهور لا يمكن تمييز هويته الأيديولوجية، ولكن يمكن وصفُ شريحةٍ كبيرةٍ فيه بالمحافظة قياسًا إلى الساحات الأخرى، حيث يرفع الأذان للصلاة في بعض المناسبات مثلًا، في رسالةٍ وطنيةٍ تعترف بوجه المدينة المحافظ. ومن المهمِّ التنبيه إلى أن منصَّة “ساحة النور” – على الأكثر – تتولَّاها مجموعة “حراس المدينة”، وهي مجموعة محافظة نسبيًّا، وقد تُحسب على الجماعة خطأً أو من باب التحريض السياسي، لكنها أكثر مرونةً وانفتاحًا على بقية مكونات المدينة وجوارها، و”تحرص على تأكيد استقلالها عن كل الاتجاهات السياسية في المدينة بما فيها الجماعة الإسلامية”(19). كما للجماعة حضور له وزنه في سُنَّة بعض القرى والبلدات في الأطراف، مثل تلك التي في البقاع أو العرقوب (في الجنوب) وسواهما.

وعلى صعيد صياغة الأهداف للحراك، فقد أطلقت الجماعة مبكرًا في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019 مبادرةً تقوم على “إعلان مرحلة انتقالية مدَّتها ستة أشهر، وتقليص فترة الرئاسات الثلاث (البرلمان والحكومة والجمهورية)، ومجالسها الموجودة، وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإقرار قانون انتخابي عصري خارج القيد الطائفي”، و”تشكيل مجلس شيوخ للتمثيل الطائفي (كما ينصُّ اتفاق الطائف)، وانتخاب مجلس نيابي جديد (خارج التمثيل الطائفي كما ينصُّ اتفاق الطائف) ورئيس له، وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة”. كما دعت المبادرة إلى “إقرار سريع لقانون استعادة الأموال المنهوبة”(20). ومن الواضح التشابه بين مبادرة الجماعة والأهداف التي أعلن عنها الحراك، وهو ما دعا بعض قيادات الجماعة إلى التأكيد أن أهداف الحراك – كما انتهت إليه من حيث الصياغة أو بعضها على الأقل – قد استفيدت من مبادرة الجماعة ومن ناشطيها. وقد يصحُّ بعض هذا الادعاء من حيثُ مساهمة الجماعة وناشطيها كما سواهم في بلورة هذه الأهداف حتى باتت مانيفست الثورة، خاصةً في الشهر الأول، إلَّا أن هذه المطالب كانت متداولةً منذ اليوم الأول وسط الناشطين ولو بصيغٍ مختلفة.

واللافت أن وجود الجماعة في الحراك لم يعطها – بوصفها حزبًا – دورًا أساسيًّا فيه، ولم يترك لها ولناشطيها أو لسواهم من الإسلاميين بصمةً قويةً فيه، سواء في البدايات أو مؤخرًا. وربما سبب ذلك أن الحضور الأكبر في الحراك وجمهوره الأعظم الذي أعطاه معناه، كان لشرائح لبنانية غير مؤطَّرة بأي تنظيمٍ سياسيٍّ أو نقابيٍّ أو أيٍّ من منظمات المجتمع المدني، وفي غالبه من جمهور الطبقة الوسطى والفقيرة، وبعض من طبقة ما فوق الوسطى. ولكن بالمقابل، كانت بصمة اليسار اللبناني حاضرةً أكثر من أي جهة أيديولوجية أخرى(21)، ويبدو أن ما فسح له المجال أكثر من سواه هو كونه عابرًا للطوائف بخلاف بقيَّة الأحزاب اللبنانية طائفية الطابع، وبسبب نضاله الاجتماعي الذي يطغى عليه ويجعله كاتجاهٍ أكثر تناسبًا مع المرحلة. مع ضرورة النظر لليسار هنا كاتجاهٍ اجتماعيٍّ للخروج من الطائفية ورفضها، وتكريس قيم الديمقراطية وفق النموذج الغربي. كما أن دور المرأة اللبنانية المتقدِّم في الحراك أعطاه وجهًا أقرب “للتحرُّر” منه للوجه الديني الذي يمثِّل التيارات الإسلامية.

تبقى الخلاصة أن الجماعة دعمت الحراك وشاركت فيه بمناصرين وبأفكار، ولكن بشروط الحراك وليس بشروطها، ولمصلحة الحراك تأكيدًا على تلاقيها مع أهدافه، ولا يمكن الجزم أو إثبات أن هذه المشاركة لها تأثير حاسم في وجهة الحراك أو مساره أو شعاراته. وبالمقابل، يمكن الجزم بأن تأييد الجماعة ودورها فيه سهَّل على الحراك أن يتغلغل داخل البيئة السُّنية في لبنان أكثر من بقية الطوائف وأضافت إليه، لا سيما وأن تيار المستقبل لم يتبنَّ مقولات الحراك، كما أن ممانعة الجماعة للحراك لو حصلت كانت ستُحتسب في اللعبة الطائفية اللبنانية لمصلحة المحور المناوئ له، فكيف لو رفضته، فمن المؤكَّد أن مهمَّة الحراك كانت ستكون أصعب.

تداعيات تفاعل الجماعة مع الحراك

يعتبر الحراك الفاعل الأول في الشارع السُّني – خاصةً في لحظات ذروته – بخلاف دوره في البيئات الطائفية الأخرى متجاوزًا أحيانًا تيار المستقبل جماهيريًّا، وربما كان هذا أحد الأسباب التي سهَّلت من سقوط الحكومة المحسوب تشكيلها طائفيًّا على الموقع السُّني، وسهَّلت من استقالة رئيس الوزراء، سعد الحريري، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، رغم شعبية تياره، أي كأن هذا التغيير حصل بفعل السُّنة ورضاهم ولم تفرضه طائفةٌ أخرى. والجدير بالذكر أنه بدلًا من أن تتشكَّل حكومة بديلة وفق مقاييس مطالب الحراك والشارع، تشكَّلت حكومة مختلطة من التكنوقراط والسياسيين يرأسها حسان دياب، وفق ما تريده قوى 8 آذار، ليبعث كلٌّ منها رسالةً لبيئته: أن الحراك ليس هو المتصرف الأول في طائفته.

بهذا المعنى، فإن تقدُّم الحراك سُنيًّا وفَّر لناشطي الجماعة الإسلامية منصةً سياسيةً بلا مزاحمة من تيار المستقبل، وهو ما لم يحصل سابقًا، فأهم مشاركة جمعت الطرفَيْن بقوة إلى جانب آخرين – أي ما عُرفت لاحقًا بقوى 14 آذار – هي ما سُميت “ثورة الأرز” في أعقاب اغتيال رفيق الحريري (عام 2005)، وكانت مشاركة الجماعة محكومةً سياسيًّا بسقف تيار المستقبل إلى حدٍّ بعيد، بعضها بسبب طبيعة الحادثة وتداعياتها التي تجاوزت المحلي حتى الإقليمي إلى الدولي.

كما وفَّر الحراك لناشطي الجماعة وشبابها “فرصةً للخروج من الإطار التنظيمي الضيق، وهو الذي لم يعتد ولا جمهوره على الاختلاط الواسع في الساحات مع عموم الجمهور اللبناني، ولا هذا الأخير اعتاد على رؤيتهم في وسطه، وشاركوا في النقاشات في تجمُّعات الحراك دون أي هيكلٍ تنظيميٍّ” أو تأطيرٍ فقهيٍّ اعتادوا عليه. وربما مما ساهم أيضًا في ذلك تراجع “الخطاب الفقهي” في الجماعة كضابطٍ تنظيميٍّ صارم، أو اعتماده حيث أُتيح له أن يشتغل على إرث الشيخ فيصل مولوي المتسامح في العلاقة مع الآخر وفي بقيَّة الأحكام، وهو ما ساهم في اندفاع ناشطي الجماعة وجمهورها للعمل مع الحراك.

وبهذا فقد استطاعت الجماعة أن تكرس “وجودها في الهيئات المشتركة للحراك، ليكون مرحبًا بها نسبيًّا وأكثر من أي وقتٍ مضى في كل المناطق”، وقدَّمت نفسها على أنها “لاعب سُنيٌّ ليس له تاريخ سلطويٌّ في الوعي الشعبي الذي عمَّ لبنان”، هذا في الوقت الذي كان يُدفع الحراك نحو “زيادة الدور السُّني في التركيبة العامَّة للبلد”(22)؛ لأسبابٍ وطنيَّة وعابرة للطوائف، وهو الدور الذي في العادة كان يقوم به تيار المستقبل وليس الجماعة.

هذا التقدُّم الذي جاء في بعضه عفويًّا وفي بعضه الآخر بقرارٍ وتنظيمٍ من الجماعة نفسها، لم يعكس تغييرًا حقيقيًّا حتى اللحظة في بنية الجماعة التنظيمية ولا في طريقة عملها، فلا تزال نخبويةً وإحيائيةً دينيةً في جوهرها وفي آلية عملها، فمساحة العمل السياسي لا تزال ضيقةً من حيث الممارسة والفكر، حيث النشاط الدعوي والخيري هو الوظيفة الأولى والأكبر لمنتسبي الجماعة. حتى إن النقاش حول فصل السياسي عن الدعوي الذي عرفته “حركات الإسلام السياسي” الأخرى بعد الربيع العربي وغلب على نقاشاتها، لم تعرفه الجماعة بتلك القوة، بل غلبته الهموم والتحديات التنظيمية الأخرى.

وبالنظر إلى هذا الإيقاع من التفاعل المحسوب والحذر، فليس بالضرورة أن يفضي إلى تعزيز دور الجماعة في الحراك، ولا أن يزيد من شعبيتها أو نفوذها في البيئة السُّنية، فضلًا عن المعادلة السياسية اللبنانية، ولا تبدو حتى اللحظة أنها جاهزة أو راغبة أو بصدد القيام بتغييراتٍ كبيرةٍ في بنيتها أو سياستها من أجله.

وهذا لا ينفي أن الجماعة قد حقَّقت مكاسبَ من الحراك على صعيد إيلاء جمهورها وبيئتها والعمل السياسي المحلي أهميةً أكثر من ذي قبل، وأصبحت جاهزةً أكثر من أي وقتٍ مضى لمزيدٍ من التفاعل مع البيئة اللبنانية المتعدِّدة والمفتوحة على تجارب لها أسئلتها الصعبة بالنسبة إلى الجماعة وخلفيتها الدينية والإقليمية، كما حافظت على مكانتها في ساحتها ولدى جمهورها المعتاد إلى حدٍّ بعيدٍ.

إلَّا أن التغيير الأكبر هو في الوضعية التي انتهت إليها؛ إذ أصبحت الجماعة بمثابة “قوة مراجعة”(23) تريد تغيير الوضع القائم على الأقل بالنسبة إلى قوى السلطة؛ حيث إن دورها في الحراك سيضعها في موقع التحدي للطبقة السياسية التقليدية من الأحزاب الحاكمة، تمامًا كوضعية الحراك الذي تماهت معه، شاءت الجماعة أم أبت، أرادت أم لم ترد، وذلك سواء على صعيد الطائفة السُّنية أو السلطة اللبنانية.

وهذا الأمر له أهميته على صعيد علاقة الجماعة مع تيار المستقبل على صعيد الطائفة، وكذلك العلاقة مع حزب الله كمهيمنٍ في السلطة وصاحب دور في الإقليم، وأي تحولٍ في هذه العلاقات سينعكس على الجماعة ودورها.

أولًا: العلاقة مع تيار المستقبل

يرى تيار المستقبل في الحراك والقوى الفاعلة فيه منافسًا له، وسيتعامل معها على هذا الأساس، ويرى أنها استفادت في تمدُّدها سُنيًّا من حالة الضعف التي عصفت به، والتي من أهم أسبابها أزمة سعد الحريري في علاقته مع المملكة العربية السعودية، وتغيير الأخيرة مقاربتها للشأن اللبناني، وتراجع تيار المستقبل من حيث الأهمية على سُلَّم أولوياتها، فضلًا عن دخول شقيقه بهاء الدين الحريري معترك السياسة اللبنانية من باب النقد لأخيه. وأي عودةٍ قويةٍ لتيار المستقبل إذا ما تجاوز أزمته هذه، فحتمًا ستكون – كما هو ديدن بقيَّة طبقة الأحزاب الحاكمة – تحت عنوان أن “ما يطالب به الحراك هو ما يطالب به التيار”، وسيعمل على استعادة القيادة منه بشتَّى السُّبل، وستكون الجماعة في مقدمة خصوم التيار في الطائفة، لا سيما إذا ما بقي الموقف السعودي من الجماعة الإسلامية على ما هو عليه من رفض، تبعًا لموقفها من عموم حركة الإخوان المسلمين. أو على الجماعة لتفادي المواجهة مع تيار المستقبل أن تعيد صياغة نفسها مرةً أخرى كقوة رديفة أو دون التيار، خاصةً في القضايا الرئيسة التي تهمُّ سُنَّة لبنان، لتبقى مسؤولياتها كما اعتادت، أَلَا وهي “الحفاظ على الجوهر الديني للسُّنَّة، وفي الوقت نفسه تكتفي بدور قوة احتياطٍ سياسية بالنسبة إليهم“(24).

إلَّا أن عماد الحوت يؤكِّد أن الجماعة ليست تابعةً للتيار، لكنها تحرص على تفادي الصراع والنزاع السياسي مع تيار المستقبل، لا سيما داخل البيئة السُّنية، حذرًا مما يمكن أن يجرَّه ذلك من تداعياتٍ سلبيَّة(25).

ثانيًا العلاقة مع حزب الله

لقد بُذلت جهود لتطبيع العلاقة بين الجماعة وحزب الله بعد أن ساءت إلى حدٍّ بعيدٍ بينهما، بسبب موقف حزب الله المبدئي المتحفِّظ على الثورات العربية، وانخراطه في الحرب السورية، فضلًا عن تصاعد الخطاب المذهبي في المنطقة، مما وضع كلًّا منهما في سياقٍ مختلفٍ. وقد بُذلت جهود من الطرفَيْن لتحسين العلاقة بينهما، ولكن لمَّا جاء الحراك عادت وفترت أكثر من ذي قبل. وبحسب أحد القيادات في الجماعة، فإن “بعض الاجتماعات التي كانت تجمع بين الطرفين قد تراجعت إلى حدٍّ بعيدٍ”. وبحسب اعتقاده الشخصي، فإن حزب الله لم يعُد معنيًّا كثيرًا بها على الأقل في هذه الظروف. ويمكن ملاحظة أن أولوية حزب الله – سواء في الشأن اللبناني أو الإقليم – لم تعُد ترتكز على العلاقة مع الجماعة كفصيل إسلامي إخواني. فعلى صعيد الإقليم، فإن علاقة الحزب مع حماس – وهي أكثر ما يعنيه – قد تحرَّرت من شروط علاقة حماس الخاصَّة بالإخوان أو من تحفظاتها على الوضع السوري. وعلى الصعيد اللبناني، فإن المشتركات المحليَّة بينهما ليست كثيرةً وفي تراجعٍ، سواء في تقييم الأوضاع أو تقرير المصالح. فحزب الله رغم إقراره أن الحراك عفويٌّ، خاصةً في اليومين الأوَّلين من عمره، إلَّا أنه يراه في بقيته مطيَّةً لقوى محليَّة معارضة له أو مؤامرة دوليَّة ضده، وهذا يضعه في مواجهة الجماعة. وبالفعل، فقد أرسل بعض المعنيين بتحسين العلاقة بين الطرفين نقدًا من أجواء حزب الله لموقف الجماعة من الحراك(26). ومن الواضح أن الطرفين لا يريدان أن يكونا في الصدارة بمواجهة بعضهما بعضًا؛ ربما لأن الطبيعة الدينية لكليهما تجعل أيَّ مواجهة بينهما تسعيرًا للمذهبية بدرجاتٍ لا يريدانها في لبنان، أو لأن الإكراهات التي قد تجبرهما على التلاقي ما زالت حاضرةً إقليميًّا ومحليًّا، خاصةً في الملف الفلسطيني، وكذلك في الصراع مع إسرائيل؛ حيث تؤكِّد الجماعة علي حقِّ لبنان في “مقاومته”، لكنها تريد “لسلاح المقاومة” أن يكون جزءًا من “استراتيجية دفاعية وطنية” تقرِّرها طاولة حوار وطنية لبنانية، وفي إطار الدولة اللبنانية وليس خارجها(27).

إن علاقة الجماعة مع تيار المستقبل ومع حزب الله، لا تزال تحكمها قواعد النموذج الطائفي اللبناني واصطفافاته، والخلافات الإقليمية بتناقضاتها، وأي تغيُّر فعليٍّ فيها بتأثيرٍ من الحراك يعتمد على مآل الحراك نفسه، وعلى المآل الذي ستنتهي إليه الجماعة في تفاعلها معه.

خاتمة

هناك مجموعة من الدلالات والاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من تفاعل الجماعة الإسلامية مع الحراك، منها أن الجمهور السُّني في لبنان وطنيُّ النزعة إلى حدِّ أن ناشطي حركة إسلامية ذات طابعٍ دينيٍّ (الجماعة) انخرطوا في عملٍ وطنيٍّ (الحراك) باندفاعٍ ودون شروط؛ لأنه مطلب الجمهور (بغضِّ النظر عن غاياتها الخاصَّة)، وهذا يرتِّب على الجماعة مسؤولياتٍ لتكون أكثر وطنيةً (في مقابل الإسلاموية) وأكثر اهتمامًا بمسؤولياتها المحليَّة، وأن تحسم العلاقة – ولو مرحليًّا، إذا لم يكن نهائيًّا – بين العمل الوطني وتكوينها الإسلامي في محيطٍ متعدِّدٍ دينيًّا وطائفيًّا.

ومن الاستنتاجات أن علاقة الجماعة مع القوى اللبنانية الأخرى، لا سيما تيار المستقبل وحزب الله، لن تكون بالضرورة كما كانت قبل الحراك، فربما لم تتضح تأثيرات انخراط الجماعة في الحراك حتى اللحظة؛ لأنه لم يطرأ تغيُّر كبير على العلاقة بينهما، خاصةً أنه ليس للجماعة موقف مؤثِّر في المعادلة اللبنانية بصورتها الراهنة. لكن الجديد أنها قد انخرطت في الحراك وهو مؤثر جدًّا، وبمجرَّد أن تستعيد تلك القوى المتضرِّرة من الحراك المبادرة، فإنها ستستهدفه وتستهدف مراكز القوة فيه أيًّا كانت.

وبهذا فإن على الجماعة أن تختار بين مواصلة دورها كجزءٍ من قوى “التحدي والمراجعة” لطبقة الأحزاب الحاكمة مهما كان تأثيرها ضعيفًا في المعادلة اللبنانية، وتبني على موقفها من الحراك الذي دفعها إلى صدارة التصدي لقضايا الناس والسلطة، لتكون قوةً محليةً صاعدةً بما يوازي دورها في طائفتها، أو أن تتراجع عن ذلك خشيةَ دفع الثمن مع الحراك، وتترك خيبةً لدى جمهورها، بما قد يشبه في بعضه ما حصل لبعض قوى الربيع العربي، وعليها حينها أن تواجه التراجع والمراجعات التي اشتهر بها الإسلاميون في مثل هذه الحالات، ومن ثَمَّ الضمور.

مراجع
  1. شفيق شقير، خريطة الفاعلين السُّنَّة في لبنان: التركيبة والتوجهات، مركز الجزيرة للدراسات، 16 مارس/آذار 2015. (تاريخ الاطلاع: 12 فبراير/شباط 2020).  https://bit.ly/2SiivSO
  2. مقابلة مع أمين عام الجماعة الإسلامية، عزام الأيوبي، بيروت، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
  3. مقابلة عبر الهاتف مع النائب السابق عن الجماعة الإسلامية في البرلمان اللبناني، عماد الحوت، 22 يناير/كانون الثاني 2019. مقابلة عبر الهاتف مع المسؤول الإعلامي في المكتب السياسي للجماعة الإسلامية، وائل نجم، 27 يناير/كانون الأول 2019.
  4. في سلسلة من المقابلات للباحث مع بعض الشخصيات والقيادات في الجماعة الإسلامية في بيروت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أجمعوا على ضرورة مواجهة مشروع إيران في المنطقة حتى تجلس وتحاور وتغيِّر من “سلوكها الطائفي”. ينظر أيضًا: شفيق شقير، الجماعة الإسلامية في لبنان: نموذج مشرقي على التحول في الدور والهوية، لباب للدراسات الاستراتيجية والإعلامية، دورية محكمة تصدر عن مركز الجزيرة للدراسات، العدد 1، فبرير/شباط 2019، ص74-75.
  5. يمكن الاطلاع على المزيد حول التحول الطائفي في هوية الجماعة الإسلامية وحزب الله في دراستَيْن منفصلتَيْن. انظر: شفيق شقير، الجماعة الإسلامية في لبنان، مصدر سابق، ص67 وما بعدها. وانظر: شفيق شقير: حزب الله: روايته للحرب السورية والمسألة المذهبية، (1-2) مركز الجزيرة للدراسات، 28 ديسمبر/كانون الثاني 2017. (تاريخ الاطلاع 6 فبراير/شباط 2020).https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/12/1-171228102923122.html…;  والجزء الثاني نُشر في 17 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الاطلاع 6 فبراير/شباط 2020). https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/01/180117110920994.html
  6. هي السنوات التي خاض فيها حزب الله المعارك الكبرى في سوريا وعلى الحدود مع لبنان، مثل معركة القصير وعرسال والجرود وسواها.
  7. مقابلة عبر الهاتف مع وائل نجم، مصدر سابق. مقابلة مع القيادي في حركة حماس، علي بركة، الضاحية الجنوبية لبيروت، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
  8. مقابلة عبر الهاتف مع وائل نجم، مصدر سابق.
  9. مقابلة عبر الهاتف مع وائل نجم، مصدر سابق.
  10. ينظر مثلًا دراسة الإسكوا التي أطلقتها في يناير/كانون الثاني 2015، وتقول إن 57% من أهلها فقراء، منهم 26% أشد فقرًا. https://www.unescwa.org/ar/node/12315
  11. شفيق شقير، الحراك اللبناني: البواعث والمكونات والتداعيات، مركز الجزيرة للدراسات، 23 يناير/كانون الثاني 2019. (تاريخ الاطلاع: 12 فبراير/شباط 2020). https://bit.ly/31PfSuB
  12. مقابلة عبر الهاتف مع عماد الحوت، مصدر سابق.
  13. ينظر: محسن صالح وآخرون، الجماعة الإسلامية في لبنان منذ النشأة حتى عام 1975، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2009، ص172 وما بعدها. وثيقة رقم 6: بيان من الجماعة الإسلامية تطالب فيه بتعديلات دستورية وحماية لبنان ودعم القضية الفلسطينية، بيان من الجماعة الإسلامية تشرين الأول/ أكتوبر 1974. https://bit.ly/2Bs8KeW
  14. ينظر: “رؤية وطن”، في موقع الجماعة الإسلامية: مؤتمر “رؤية وطن”.. نقطة مفصلية في تاريخ “الجماعة الإسلامية”، الاثنين 15 أيار 2017. (تاريخ الاطلاع: 12 فبراير/شباط 2020). https://bit.ly/39DBMnz
  15. مقابلة عبر الهاتف مع عماد الحوت، مصدر سابق.
  16. أجرى الباحث عدة مقابلات مع ناشطين في الحراك من الجماعة الإسلامية، تعكس رغبتهم الواضحة في التخلُّص من هيمنة قوى 8 آذار، خاصةً في الجانب الأمني و”الميليشوي”، كما يصفه بعضهم. لقاء مع مجموعة في بيروت، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2019. لقاء مع مجموعة في صيدا، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
  17. مقابلة عبر الهاتف مع عماد الحوت، مصدر سابق.
  18. مقابلة عبر الهاتف مع الناشط في الجماعة الإسلامية وفي حراك مدينة صيدا، رامي بشاشة، 27 يناير/كانون الأول 2019
  19. مقابلة مع جمال بدوي، رئيس هيئة الطوارئ في مدينة طرابلس، حراس المدينة، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
  20. يوسف حسين، الجماعة الإسلامية تعلن عن مبادرة لحل الأزمة في لبنان، وكالة أنباء الأناضول، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019. (تاريخ الدخول: 9 فبراير/شباط 2020).
    https://bit.ly/39jDES5
  21. ينظر: شفيق شقير، الحراك اللبناني: البواعث والمكونات والتداعيات، مركز الجزيرة للدراسات، 23 يناير/كانون الثاني 2019. (تاريخ الاطلاع: 12 فبراير/شباط 2020). https://bit.ly/31PfSuB
  22. مقابلة عبر الهاتف مع عماد الحوت، مصدر سابق.
  23. قياسًا على مصطلح (Revisionist Power)، قوى المراجعة التي لا تقبل بالوضع الدولي القائم وتسعى لتغييره، وتوصف روسيا بذلك.
  24. شفيق شقير، خريطة الفاعلين السُّنَّة في لبنان: التركيبة والتوجهات، مصدر سابق.
  25. مقابلة عبر الهاتف مع عماد الحوت، مصدر سابق.
  26. مقابلة عبر الهاتف مع وائل نجم، مصدر سابق.
  27. مقابلة عبر الهاتف مع وائل نجم، مصدر سابق.

 

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/4792

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M