الجهد الاستخباري وطريق الوصول إليه

بهاء النجار

تعاني الدولة العراقية بعد 2003 من واقع أمني متردي بشع أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء وأضعافهم من الجرحى وتلوعت بمصابهم الملايين من الأمهات والآباء والإخوان والأخوات والأبناء والأعمام والأخوال و ….. ، وكانت من أهم الأسباب المباشرة لتلك الجرائم هو ضعف الجانب الاستخباري الذي يكشف الجريمة قبل وقوعها ويجنب الدولة والشعب العراقي تلك المصائب العظيمة ، هذا رغم الدعم المفترض من قبل الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها راعية التحول في العراق ، وعلى الرغم من أن الشعب أخذ بزمام الحكم من خلال ممثليه الذين صوّت لهم في أكثر من عشر ممارسات انتخابية بين تشريعية ومحلية واستفتاءات .
فمتى يعود الجهد الاستخباري الى سابق عهده ويخلص الشعب من هذه المحن المتوالية والمتتالية ؟! وحتى نجيب على جزء من هذا السؤال نأخذ تجارب الدول في العمل الاستخباري حتى نعرف ما الذي ينقصنا لإتمام هذا الجهد الحيوي الذي صار بتماس مع حياة المواطن العراقي .
إن الدول التي تتمتع بجهاز استخبارات فعال تنقسم أنظمتها السياسية الى قسمين :-
الأول / النظام الدكتاتوري
الثاني / النظام الديمقراطي العريق

فالنظام الدكتاتوري يحكمه حزب واحد وشخص واحد وأي معارض يلقى في السجن أو يُعدم ، وبالتالي فهذا النظام يسمح لرئيس الدولة أن يضع كل تفاصيل دوائر الدولة الرسمية من رأسه حتى أخمص قدميه مثل التعيينات ونهج تلك الدوائر التي يجب أن تكون في خدمة النظام لا غير ، وبالتالي فالاستخبارات أولى بالاهتمام من قبل راس الهرم في الدولة باعتبارها من أهم الدوائر التي تحفظ النظام وهيمنته ومعرفة خصومه في الداخل وعلى أساس تقاريره تُحرك قواته الأمنية القمعية للقضاء على أي تمرد بل أي تحرك يفكر أن يؤثر على النظام من قريب أو بعيد .
لذا نجد رئيس الدولة يشرف بنفسه على جهاز الاستخبارات ويعيّن أقرباءه والكادر المتقدم من حزبه حتى يضمن الولاء له ، وبالنتيجة فإن حفظ النظام يكون من أولويات هذا الجهاز ، لذلك لا نجد أي خلل أمني يصيب تلك الدول إلا أن يكون من تخطيط رأس الدولة ورئيسها ، وهذا ما لمسناه جلياً أثناء حكم المقبور صدام وما نجده في أكثر من نظام سياسي في العالم مثل كوريا الشمالية وكوبا وغيرهما .

أما القسم الثاني وهو النظام الديمقراطي العريق الذي أصبحت الديمقراطية فيه ثقافة متجذرة لدى الشعب الذي يحكمه ، وأصبح استقرار الدولة أمنياً وسياسياً واقتصادياً مسؤولية الجميع ، لأن الجميع يعلم جيداً أن الإخلال بهذا النظام سينعكس سلبياً على حياة المواطن أولاً ، وهذه الثقافة انعكست على سياسة الأحزاب الحاكمة التي بأصوات مواطنيهم وصلوا الى المناصب التشريعية والتنفيذية ، وهذه الأحزاب على علم أن أي محاولة (علنية) لإخلال النظام سيكون مصيره الى السقوط نهائياً من الحياة السياسية .
وهذه الثقافة التي تجذرت في مواطني تلك الشعوب جاءت بعد سنين من التجارب العملية التي ولّدت نتائج كارثية وحروب أهلية بسبب ضياع الهوية الوطينة مثل ما حدث في الولايات المتحدة بعد الاستقلال من الاحتلال البريطاني ، فنظام سياسي يعتمد على الشعب في حكمه وعمره عشرات بل مئات السنين بالتأكيد سيولّد هذه الثقافة التي انتقلت من جيل الى جيل ، وأصبح ابن هذا الشعب يحكم ويعلم جيداً أن أي محاولة للابتعاد عن الهوية الوطنية سيكون هو أول الخاسرين ، لذا سوف لن يكون أمام السياسيين في تلك الأنظمة سوى المحافظة على أمن الدولة واستقرارها سياسياً واقتصادياً ، وليس من السهل أن يكون السياسي عندهم عميلاً يوماً ما ، لأنه يدرك أن العمالة خيانة لنفسه ، فرب البيت لا يمكن أن يساعد اللص على سرقة بيته ، وسياسيو تلك الأنظمة أصبحوا أرباب البيوت بسبب تلك الثقافة التي تأصلت لدى شعوبها .
بعد هذا كله أنتوقع أن تكون دوائر الدولة عموماً وجهاز الاستخبارات خصوصاً في تلك الأنظمة السياسية في غير خدمة الشعب ؟! وهل يمكن أن يعمل عضو الاستخبارات لصالح حزبه على حساب أمن بلده ؟! أو أن يساعد رجل الأمن العصابات الإرهابية في اختراق مدنه ؟! أو أن يقوم موظف الدولة بتمرير صفقة خاسرة لأجهزة كشف المتفجرات فاشلة الى شوارع بلده ؟! بالتأكيد لن نتوقع حصول مثل هذه الحوادث المخزية في تلك الأنظمة العريقة .

أما العراق فهو – بحمد الله – ليس نظاماً دكتاتورياً ولا نريد له الرجوع الى تلك الحقبة المظلمة فليس من الحكمة أن نستبدل النظام السياسي الذي سيرثه أبناؤنا وأحفادنا باستقرار أمني شكلي غايته أمن النظام وليس أمن الدولة ، ولكن للأسف العراق أيضاً ليس نظاماً ديمقراطياً حقيقياً متكاملاً ، فهو ما زال يحبو ويحاول أن يكون ضمن الأنظمة الديمقراطية الأصيلة ، فديمقراطيته عرجاء كما يسميها البعض لأنها بطيئة متعثرة ، وأنا أسميها عوراء لأنها تنظر للأمور بعين واحدة ، فالمسؤول ينظر للمنصب على أنه مكسب ولا ينظر على أنه تكليف لخدمة الناس ، والمواطن يرى أن كل المسؤولية على السياسي ولا مسؤوليته عليه ونسى – بل تناسى – أن المسؤول يصعد الى كرسي الحكم بفضل صوته .
في النتيجة فالجهد الاستخباري متأثر بشكل أساسي بالنظام السياسي ، وكما بينا فإن أقوى الأجهزة الاستخبارية نجدها في الدول الدكتاوتورية والدول ذات الديمقراطية العريقة ، أما العراق فليس من هذه الدول ولا تلك وبالتالي فإن الخلافات السياسية تعكس بظلالها على كفاءة جهاز الاستخبارات وحتى على نزاهته ، لأننا نعلم أن جهاز الاستخبارات يعتمد السرّيّة في عمله بدرجة كبيرة ، ولا يمكن أن يكون الأمر سرياً بين أطراف متنازعة ومتصارعة ، فأزمة الثقة بين السياسيين تؤثر تأثيراً مباشراً على أداء هذا الجهاز الحيوي ، وربما نرى العكس يتحقق في العراق فكل طرف سياسي يحاول من خلال جهاز الاستخبارات أن يعرف كيف يتحرك الطرف الآخر ليوقعه ، وجهاز استخبارات يميل لجهة على حساب الوطن لا يمكن أن ينجح ، ولا يمكن لجهاز استخبارات أن يضع المعايير الوطنية في عمله إذا لم يكن السياسيون أول من يضع تلك المعايير .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M