الحرب الأوكرانية تشعل الخلاف التاريخي بين روسيا والمسألة اليهودية

 إيهاب عمر

 

في توتر هو الأول من نوعه منذ حرب يونيو 1967، انتقدت وزارة الخارجية الإسرائيلية تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأن “ديانة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اليهودية لا تمنع انتماءه إلى النازيين الجدد الذين يحكمون أوكرانيا”، وأشار الوزير الروسي إلى مزاعم تاريخية حول بعض الأصول العائلية للمستشار الألماني الأسبق أدولف هتلر.

الانتقادات الإسرائيلية وحتى الأوكرانية أشارت إلى ما أسمته “عداء السامية” المتجذر في الثقافة الروسية. وردت الخارجية الروسية على الانتقادات الإسرائيلية، على لسان المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بالقول “سأقول شيئًا لا يرغب السياسيون الإسرائيليون في سماعه على الأرجح لكن قد يفيدهم.. في أوكرانيا يقف المرتزقة الإسرائيليون جنبًا إلى جنب مع مقاتلي آزوف”.

روسيا والمسألة اليهودية

تحمل الثقافة الغربية، سواء المسيحية الكاثوليكية أو المسيحية الأرثوذكسية، تاريخًا من طرد ونبذ الأقليات اليهودية في أوروبا، وجرت في ألمانيا وفرنسا والمجر وإنجلترا مجازر ضد يهود أوروبا، أطلق عليها في كتب التاريخ الحملة الصليبية الألمانية عام 1096، German Crusade of 1096 وفي بعض الكتب الأخرى مصطلح مجازر راينلاند Rhineland massacres.

وفي عام 1320 اندلعت ثورة شعبية ضد الملكية الفرنسية وتم قتل المئات من اليهود في فرنسا وإسبانيا على يد الغوغاء. ثم راحت الفرمانات الملكية الواحدة تلو الأخرى تطرد اليهود من أوروبا، وكلما عادوا يتم طردهم. ممالك وولايات ألمانيا طردت اليهود سبع مرات أعوام 1276 و1348 و1442 و1473 و1499 و1519 و1551، سويسرا عام 1392، وإسبانيا عام 1492 والبرتغال عام 1497.

ومن ممالك وولايات إيطاليا ثماني مرات أعوام 1288و1293 و1491 و1495 و1510 و1547 و1593 و1597، وخمس مرات في فرنسا على يد فيليب أوغسطس عام 1182 ولويس التاسع عام 1254 وتشارلز الرابع عام 1322 وتشارلز الخامس عام 1359 وتشارلز السادس عام 1394، ومن إنجلترا في زمن إدوارد الأول عام 1290.

ولم يكن الطرد بريئًا، بل كانت الشعوب تطارد اليهود داخل بيوتهم، وتقوم بذبحهم وتقوم السلطات بمصادرة الأراضي والأموال، وفى بعض الأحيان كان تجار العبيد في انتظارهم لسرقة أطفالهم ونسائهم والزج بهم في أسواق العبيد.

وفى أوروبا الشرقية، جرت مذابح أوكرانيا حيال يهودها بقرارات من قياصرة روسيا ما بين عامي 1648 و1654، ثم مذابح قياصرة روسيا حيال يهود روسيا وآسيا الوسطي وأوروبا الشرقية ما بين عامي 1881 و1914، وما تلاها من مصادرة للمال والممتلكات اليهود وفقًا للمؤرخ جون كيلر في كتابه “ديالوج العنف” dialogue of violence عن مذابح قياصرة روسيا بحق يهود الإمبراطورية الروسية. وقد أدى اضطهاد روسيا القيصرية لليهود، إلى انخراط النشطاء الروس المنتسبين للدين اليهودي إلى المعارضة الماركسية الساعية للثورة على الحكم الملكي الامبراطوري.

ومع استيلاء البلاشفة الماركسيين على السلطة في روسيا، حاول بعض المتطرفين الروس الادعاء بأن اليهود يقفون خلف الحكم السوفيتي، وهو ادعاء رد عليه التاريخ بأن اغلبية معارضي فلاديمير لينين مؤسس الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي السوفيتي كانوا يهودًا؛ إذ حينما جرى انقسام داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي قبل الثورة، و انقسموا إلى حزب البلاشفة الذى يرى في العنف الثوري الحل الوحيد بقيادة فلاديمير لينين وليون تروتسكي، فإن المناشفة (التيار الاشتراكي اليساري المعارض للعنف الشيوعي) كان أغلبه يهودًا بقيادة اليهودي يوليوس مارتوف .

محاولة الاغتيال الوحيدة التي تعرض لها لينين في 30 أغسطس 1918 كانت على يد ناشطة يهودية بالحزب البلشفي تدعي ” فانيا يفيموفا كابلان ” (1890 – 1918) والتي أعدمت بعد محاولة الاغتيال بأربعة أيام رميًا بالرصاص في ساحة الكرملين، ورصاصات كابلان راحت تنحر صحة لينين حتى كانت السبب في وفاته عقب بضعة سنوات. أما الزعيم الثاني للاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين، فكتب عنه المفكر والكاتب بيريتز ماركيش Peretz Markish :” هتلر أراد إبادتنا جسديًا في حين أن ستالين أراد إبادتنا روحيًا”.

وإذا كان ستالين قد أنشأ عام 1934 مقاطعة بيروبيجدان ذات الحكم الذاتي على الحدود الشرقية للصين مع الاتحاد السوفيتي. لتكون منطقة خاصة باليهود، بعيدًا في أقصى الشرق السوفيتي، في الواقع المنطقة لم يكن فيها يهود أبدًا، ولكن منذ ذلك الوقت بدأ إرسال اليهود المتحمسين إلى هناك لبناء مؤسسات الحكم الذاتي والمصانع، أي أن منطقة الحكم الذاتي لليهود داخل الاتحاد السوفيتي كانت في واقع الأمر منفى أو “جيتو” سوفيتيًا ليهود عموم الاتحاد السوفيتي.

ازدهرت أحوال المنطقة في الفترة الأولى؛ إذ وصل إلى هناك حوالي 19 ألف يهودي، ولكن بنتيجة مزاج ستالين المتغير وحملات التطهير الدورية بدأت هجرة مضادة ليبقى من اليهود حوالي 8 آلاف شخص. في الثلاثينات وصل عدد اليهود إلى 30 ألف، واليوم يشكل اليهود في بيروبيجدان حوالي 5% فقط.

ستالين أصدر مجموعة قرارات لتقليص الحضور الثقافي لليهود في المجتمع السوفيتي فور بدء الحرب العالمية الثانية أواخر ثلاثينات القرن العشرين، وجرى حظر الكتب بلغة جيديش، والتي كانت لغة التعامل اليومي لليهود، من المكتبات وأغلقت الكثير من المؤسسات والمعاهد والمدارس والجرائد التي تستخدم لغة الجيديش.

بعد الاجتياح الالماني للاتحاد السوفيتي عام 1941، تشكلت في الاتحاد السوفيتي العديد من “لجان معاداة الفاشية” كأدوات دعاية موجهة للحلفاء، ومنها لجنة يهودية معادية للفاشية عام 1942. منذ عام 1943 بدأت حملة تطهير لليهود من أجهزة الدولة والجيش. كانت هذه الحملات تحدث بدون الإشارة إلى الأصل اليهودي للمشمولين بها، أي أن لجنة معاداة الفاشية التي يفترض أن تطهر الاتحاد السوفيتي من الهوى الألماني النازي أو الإيطالي الفاشي ركزت في واقع الأمر على اليهود!

ولعل مربط الفرس في هذه “المسألة” أن اليهودية ديانة وليست أيدولوجيا أو قومية، وبالتالي فإنه يمكن لليهود الانتساب إلى أي أيدولوجيا حول العالم، وفى نظام الحكم السوفيتي حيث يصبح سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي هو حاكم الدولة، بينما المسؤول التنفيذي هو رئيس الوزراء، بينما الرجل الثالث في الدولة هو رئيس الاتحاد السوفيتي بصلاحيات شرفية، فإن هذا المنصب كان حكرًا على البلاشفة اليهود في بادئ تاريخ الاتحاد السوفيتي، حيث كان ثلاثة من أول أربع رؤساء للاتحاد السوفيتي هم ساسة يهود لهم تاريخ عريق في الحركة اليسارية الروسية هم: ليف كامينيف وياكوف ميخائيلوفيتش سفيردلوف وميخائيل كالينين.

ستالين ونشأة إسرائيل

نظر جوزيف ستالين، سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي رئيس الوزراء وزير الدفاع السوفيتي، إلى الحركة الصهيونية بوصفها حركة اشتراكية عمالية، وذلك على ضوء سيطرة نشطاء وكوادر حزب العمل الإسرائيلي على المشهد الصهيوني العام منذ الأربعينيات وحتى سبعينيات القرن العشرين. وعلى ضوء انهيار الدور الإمبراطوري لبريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، فإن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية تقاتلا على تقسيم تركة وإرث الإمبراطوريات القديمة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

وسعى ستالين إلى تقارب الاتحاد السوفيتي مع الحركة الصهيونية واليهود الأجانب في فلسطين، وكانت رؤية السوفييت وقتذاك أن اغلب يهود الأراضي الفلسطينية هم من أصول روسية سوفيتية، وبالتالي فإن موسكو أمام فرصة تاريخية لتدشين جمهورية سوفيتية في قلب الشرق الأوسط.

والحاصل أن تاريخ الاضطهاد الروسي والسوفيتي لليهود جعل قادة الحركة الصهيونية يتخوفون من الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى أن المشروع الصهيوني واليهودية السياسية كانتا في الأساس ابتكارًا غربيًا، وبالتالي بقي المشروع في يد الكتلة الغربية، بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية.

ولكن قادة الحركة الصهيونية في ذلك الوقت، كانوا يستغلون جهل السوفييت بالارتباط الوثيق بين الحركة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية منذ عشرينيات القرن العشرين، وأن المسألة بالنسبة للصهيونية الدولية ليست استبدال أمريكا ببريطانيا، ولكن الحاصل أن أمريكا كانت حاضرة في ترتيبات صناعة الانتداب البريطاني في فلسطين، وصوت الكونجرس الأمريكي لصالح تمكين يهود العالم من صناعة وطن قومي في فلسطين في عشرينيات القرن العشرين.

وعلى ضوء هذا الجهل، لعب الاتحاد السوفيتي دورًا رئيسًا في تأسيس دولة إسرائيل وقبولها بالجمعية العامة للأمم المتحدة. وأثناء حرب فلسطين 1948 قام الاتحاد السوفيتي بمد إسرائيل بجسر جوي من الأسلحة المتقدمة سُمي جسر تشيكوسلوفاكيا، وكان السوفييت في تلك الحرب ينظرون إلى الدول العربية بوصفها وكلاء الاحتلال البريطاني في الشرق الأوسط، على ضوء احتلال بريطانيا لمصر والعراق، وهيمنة بريطانيا على السعودية واليمن، والنفوذ البريطاني القوي –بحسب الرؤية السوفيتية– في سوريا ولبنان عقب الجلاء الفرنسي.

المؤرخ الروسي ليونيد مليتشين أصدر عام 2005 كتابه الشهير “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟” مشيرًا إلى أن ستالين رأى في إسرائيل أول دولة اشتراكية سوفيتية يمكن صناعتها في الشرق الأوسط، وأنه يمكن أن ينقل لها يهود الاتحاد السوفيتي ويمدها بالسلاح بوجه جيرانها الموالين لبريطانيا وفرنسا وأمريكا!

وتكشف وثائق المخابرات السوفيتية –في الكتاب المشار إليه– أن الاتحاد السوفيتي اقترض خلال الحرب العالمية الثانية من جهات أجنبية موالية للولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه الديون وفرت لواشنطن فرصة للضغط على موسكو في الفترة ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) واندلاع الحرب الباردة (12 مارس 1947 – 26 ديسمبر 1991) من أجل توطين بعض اليهود في جمهورية القرم السوفيتية وإعلانها وطنًا لليهود.

ولكن تتار القرم ثاروا ضد القطارات التي كانت تصل محملة بيهود أوروبا والاتحاد السوفيتي، وهكذا وجد ستالين أن ارسال السلاح والدعم الدبلوماسي لصالح اليهود في فلسطين مقابل تسوية الدين السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية هو الحل، وهو ما حدث بالفعل.

وبالتالي فإنه إلى جانب التأصيل الأيديولوجي ومسعى ستالين لتحويل الفكرة الصهيونية إلى فكرة اشتراكية، فإن الدعم السوفيتي لإسرائيل كان من أجل التخلص من بعض الديون الأجنبية على الاتحاد السوفيتي، وتحديدًا الديون التي كان يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تتحكم بها، وهو أمر انتهى عام 1949 بنهاية حرب فلسطين وتسوية هذا الملف الاقتصادي.

وعقب الحرب، فهم الاتحاد السوفيتي أن إسرائيل اختارت الانتماء للكتلة الغربية وليس الكتلة الشرقية، وبدأ الاعلام السوفيتي في نعت إسرائيل بالدولة الرأسمالية، وفى يونيو 1945 أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بيانًا لبدء حملة ضد “الكوزموبوليتانية الفاقدة للجذور” والمقصود بها الأقليات السوفيتية بوجه عام واليهود على وجه التحديد.

وفى عام 1953 قطع الاتحاد السوفيتي علاقته الدبلوماسية مع إسرائيل، إذ أعلن في يونيو من عام 1953 أن تسعة أطباء سوفييت، منهم ستة يهود، قاموا بمؤامرة لقتل قائد الدولة السوفيتية ومن بين هؤلاء كان هناك الطبيب الشخصي لستالين.

ورغم أن التحقيقات لم تثبت اتصال الأطباء اليهود الست بإسرائيل، بجانب أن وفاة ستالين المفاجئة أغلقت القضية، ولكن سرت أقوال في النخبة السوفيتية الحاكمة بموسكو أن ثمة مؤامرة أمريكية إسرائيلية خلف هذه القضية، وأنه ليس من الحكمة إعلان تفاصيلها حتى لا تبدو الدولة السوفيتية بهذا الاختراق أمام شعوب الكتلة الشرقية، إضافة إلى تورط بعض الأسماء السوفيتية الكبرى في تلك القضية.

يمكن القول إنه عقب حرب فلسطين 1948 قرر الاتحاد السوفيتي الرهان على القوميين العرب والشيوعيين العرب أو اليسار العربي بدلًا من إسرائيل في دوائر الشرق الأوسط، وظلت العلاقات متوترة بين موسكو وتل أبيب إلى أن عادت بشكل باهت عام 1987 قبل تفكيك الاتحاد السوفيتي.

وعقب سقوط الاتحاد السوفيتي، لعب رجال الأعمال اليهود ومزدوجي الجنسية، الروسية –الإسرائيلية، دورًا مهمًا في التحول الروسي من الاشتراكية إلى النيوليبرالية. ولكن مع تولي فلاديمير بوتين الحكم، بدأ الأخير في تقليص دور الشخصيات اليهودية المشبوهة على الساحة الروسية، وحظر تنظيمات “شهود يهوه” اليهودية.

وقد حاول بوتين تحسين هذه الصورة بالتقرب من إسرائيل وساستها خاصة الذين ينتمون إلى أصول روسية مباشرة مثل افيجدور ليبرمان، إضافة إلى التنسيق المستمر مع تل أبيب مع بدء التدخل الروسي في سوريا بطلب من الحكومة السورية.

هذا التاريخ من التوتر، الذي تتخلله علامات استفهام حول دور السوفييت في قيام إسرائيل وحرب فلسطين 1948 وشبهات الصفقة الأمريكية السوفيتية إبان حرب يونيو 1967، إضافة إلى تاريخ عداء القياصرة والبلاشفة لليهود، خرج دفعة واحدة للعلن عقب تصريحات سيرجي لافروف في أبريل 2022.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/69585/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M