تتميز المواجهة الحالية وهي الرابعة بين غزة وإسرائيل، بأن فصائل المقاومة الفلسطينية هي من أطلقتها وسمَّتها (سيف القدس)، وغايتها كما اتضحت من خطاب قادة حركة حماس، تكريس معادلة جديدة في الصراع، تربط غزة بالقدس، وبالتالي صياغة استراتيجية جديدة تقوم على جمع كافة أشكال النضال ضد الاحتلال والتمييز الإسرائيليين، على كامل أرض فلسطين التاريخية. وجاء تزامن المواجهة الشعبية الفلسطينية للشرطة الإسرائيلية أو للإسرائيليين، مع المواجهة العسكرية من غزة، لتعزز من قابلية هذه المعادلة للتحقق من حيث الإمكان، سواء في هذه الجولة أو لم تتحقق.
وعلى صعيد آخر، فإن هذه المحاولة من المقاومة الفلسطينية-للربط بين غزة والقدس، تثير سؤالا استراتيجيا آخر، حول ما إذا كان هناك سعي من محور إيران أو “المقاومة” لربط المنطقة بغزة، لاسيما أن هذا المحور، الذي تقوده إيران ويضم فصائل مسلحة عديدة في لبنان والعراق واليمن ويمثل حزب الله اللبناني الذراع الأقوى فيه، يجاور إسرائيل من سوريا ولبنان، فضلًا عن البحر المتوسط، وله امتداد بري وعمق حيوي من طهران إلى بيروت.
وجاء إطلاق ثلاثة مقذوفات من جنوب لبنان (في 13 مايو/أيار 2021) إلى إحدى المستعمرات الإسرائيلية ليعزز من هذا السؤال، رغم أنها لم تكن في هذا السياق ولا صلة لها بحزب الله كما أنها لم تُحدث خسائر، لكنها تذكِّر وتؤكد أن احتمال التصعيد من قبل هذا المحور محتملة، لاسيما أن استراتيجيته المعلنة هي الوصول إلى مواجهة شاملة ومتكاملة ضد إسرائيل، وجاء تمدده أو بعضه على الأقل تحت هذا العنوان.
وبالمقابل، هل من المحتمل أن توسع إسرائيل من مساحة المواجهة لتشمل لبنان وسوريا أو هل لها مصلحة في ذلك، لاسيما أنها كانت لا تفوِّت فرصة لتوجِّه التهديدات ضد إيران وضد المنظمات المدعومة من طهران، وهي توجه لها الضربات في سوريا بوصفها تهديدًا وجوديًّا لأمنها. لاسيما وأن الحرب على غزة لم تمنع طيرانها الحربي (في 14 مايو/أيار 2021) من ضرب آلية “مُعَدَّة للتهريب” داخل الأراضي السورية ومحاذية لمنطقة الهرمل في شمالي لبنان، وهي منطقة يحظى فيها حزب الله بنفوذ ووجود قوي.
احتمالات اتساع المواجهة
لا شك بأن احتمالات توسع المواجهة الإسرائيلية مع غزة لتشمل لبنان وسوريا أو أحدهما، ترتبط بمصالح الأطراف المعنية، والمقصود بذلك إسرائيل، ومحور إيران أو “المقاومة” في المنطقة، وبوجه خاص حزب الله الذي يمثل رأس حربة له في المنطقة. وهو ما يتضح من خلال قراءة السياق الذي جاءت وفقه جولة الحرب الحالية، وذلك بالنسبة للطرفين.
أولًا: بالنسبة لإسرائيل: إن مما كان يجمع بين الإدارة الأميركية السابقة برئاسة دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هو التصعيد ضد إيران، وكان خروج واشنطن من الاتفاق النووي، عام 2018، يحظى بمباركة وتحريض من إسرائيل. وبمجيء الرئيس، جوزيف بايدن (يناير/كانون الثاني 2021)، وإعلانه العمل على العودة للاتفاق وإن بشروط مختلفة، فإن إسرائيل كثفت من جهودها لتقنع واشنطن بالعدول عن العودة إلى هذا الاتفاق، وبنفس الوقت كانت تعمل على عدة مستويات لتتعامل مع التحدي الإيراني، منها على الأقل مستويان على صلة مباشرة بهذا التحدي:
المستوى الأول: حملة دبلوماسية دولية مكثفة ضد مشروع إيران النووي ومنظومتها الصاروخية وضد تمددها في المنطقة، خاصة في سوريا حيث أصبحت المنظمات المدعومة من طهران والمعززة بخبراء وعسكريين إيرانيين، تجاور حدودها. وعملت بمساعدة من إدارة ترامب على تمتين أو تطبيع العلاقة مع دول عربية عدة (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان) لمواجهة إيران، وهي الاتفاقيات التي عُرفت باسم “اتفاقيات أبراهام”.
المستوى الثاني: الاستعداد العسكري وتمتين الجبهة الداخلية وتهيئتها لأية مواجهة شاملة مع إيران، واحتمال تمددها في عموم المنطقة. ومن المفارقات أنه في هذا السياق كان من المقرر أن تقوم إسرائيل بأكبر مناورة في تاريخها ولكن جاءت المواجهات الشعبية في إسرائيل والقدس، والعسكرية في غزة، لتصرفها عنها ولتعلن عن إيقافها. إذ كان من المفترض أن تنطلق المناورة في 9 مايو/أيار 2021 لتستمر شهرًا، وكانت ستحاكي حربًا شاملة ضد “حزب الله” وحركة “حماس”، على جميع الجبهات: الشمالية والجنوبية والضفة الغربية، مع إطلاق مكثف للصواريخ من جميع الساحات على الجبهة الداخلية.
بهذا، فإن إسرائيل لم تكن جاهزة أو واثقة من جهوزيتها لحرب شاملة، وكانت لهذا الغاية في طور التدرب والإعداد لمثل هذه المواجهة المحتملة في المستقبل، التي قد تكون بقرار منها أو تُفرض عليها، وجاءت الحرب مع غزة بهذا المعنى من خارج السياق لتعرقل هذا الجهد. وبالتالي، ليس من مصلحة إسرائيل الانخراط في مواجهة لم تستعد لها بعد، لا بل تبدو وكأنها بالكاد تستطيع التعامل مع الجبهات المفتوحة داخليًّا وفي غزة في الظرف الحالي، فكيف ستفتح جبهة جديدة؟! هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن أية مواجهة مع محور إيران أو “المقاومة” بالتزامن مع مواجهة مع غزة تتناقض مع الجهود التي كانت إسرائيل تبذلها لِتَصُفَّ دولًا عربية إلى جانبها فضلًا عن التطبيع معها، فالحرب على غزة أظهرت رأيًا عامًّا عربيًّا طاغيًا متعاطفًا مع الفلسطينيين ورافضًا للتطبيع، وحرب شاملة في هذا السياق لن تسهم حتمًا بعزل إيران ومحورها شعبيًّا وإن كان هذا المحور لا يلقى ترحابًا كما في السابق من الجمهور العربي والإسلامي بسبب أدائه في المنطقة. كما أن أولوية إدارة بايدن المتمثلة بتحقيق الاتفاق النووي مع إيران والانصراف لمواجهة الصين، تجعل إسرائيل غير واثقة من مدى ومستوى الدعم الأميركي إذا ما احتاجته في خضم مواجهة كهذه.
ثانيًا: بالنسبة لمحور إيران أو “المقاومة”: لا يبدو أيضًا أن له مصلحة في توسعة المواجهة، في هذا الظرف على الأقل، وذلك لأسباب عدة، منها:
أولًا: على صعيد سوريا: إن روسيا ستعمل على منع انتقال التدهور إلى الحدود الإسرائيلية-السورية، وهي أصلًا تعمل على ذلك؛ وهو أمر تعلنه موسكو على الدوام، وذلك لحماية وجودها في سوريا والمرشح لأن يكون طويل الأمد، ولحماية جنودها ومصالحها. ولديها لهذه الغاية تنسيق مع إسرائيل، ولم توقف غارات هذه الأخيرة لطمأنتها رغم أنها أصبحت -أي إسرائيل- تستهدف الإيرانيين أنفسهم مؤخرًا، فضلًا عن استهدافها للمنظمات المحسوبة على إيران. كما أن توسع المواجهة لتشمل سوريا ستغير جذريًّا من المعادلة المعقدة التي أرستها روسيا وسمحت لإيران وحلفائها بتعزيز دورهم عسكريًّا للمحافظة على نظام الرئيس بشار الأسد في مواجهة المعارضة السورية.
ثانيًا: يعاني لبنان من أزمة اقتصادية ومالية وسياسية لم يشهد لها مثيلًا في تاريخه حتى إنه مهدد بالانهيار، ولا يمكن أن يتحمل في هذا الوقت تداعيات أي حرب جديدة، وهذا ليس في مصلحة أي من الأطراف اللبنانية ومنهم حزب الله وحلفاؤه. وحتى بالنسبة لبيئة حزب الله الخاصة، فإنه سيكون مهددًا بخسارة تضامنها معه واحتضانها له أو التفافها حوله، إذا ما انخرط في حرب شبيهة بما كانت عليه في عام 2006، وما شهده لبنان من تدمير لاسيما الضاحية الجنوبية، في حين لا تزال إسرائيل تهدد بتكرارها في أية مواجهة مقبلة مع حزب الله، تحت ما تسميه بـ”عقيدة الضاحية”.
ثالثًا: أن إيران -رأس المحور- منخرطة في مفاوضات مع واشنطن في فيينا، وحرصت منذ مجيء بايدن على ضبط نفسها لتفوِّت على إسرائيل فرصة نسف المفاوضات، وقد بلغت قبيل هذا التصعيد مرحلة متقدمة نسبيًّا، وأي تصعيد لن يكون في صالحها وسيوقف هذه المفاوضات لا بل قد ينسفها.
خاتمة
لا مصلحة لأي من الأطراف المعنية بحرب شاملة في المنطقة، ولا تبدو الإدارة الأميركية معنية بمثلها خاصة في هذه الظروف بل تريد تخفيض النزاعات. ولكن كما أن سوء تقدير إسرائيل لقضية حي الشيخ جراح ولعواقب محاولة سيطرتها على الأقصى قد قادها إلى جولة الحرب الحالية، فلا شيء يمنع إذا ما استمر قادتها في نفس النهج، من الانزلاق لحرب أوسع لنفس السبب، خاصة أن إسرائيل تعاني أزمة حكم، ونتنياهو يواجه اتهامات فساد تهدد مصيره السياسي، ويهيمن اليمين على الحياة السياسية في إسرائيل. أما بالنسبة لمحور إيران، فمن الناحية النظرية، يعلن استعداده للوقوف إلى جانب فصائل المقاومة إذا ما دعت الحاجة لذلك مع تأكيده على أن لا حاجة لذلك، وأنه مستعد لخيار المواجهة.
وبقدر ما قد تزيد إطالة الجولة الحالية، من المواجهات الشعبية والحرب على غزة، من مخاطر الانزلاق نحو مواجهة شاملة، لخطأ في التقدير أو بسبب قراءة خاطئة ما من قبل إسرائيل أو حلفاء إيران بالمنطقة، إلا أنها بنفس الوقت تقلِّل من استعداد إسرائيل لمثل هذه المواجهة الشاملة في المستقبل. فإسرائيل الآن تُضرب جبهتُها الداخلية بالصواريخ، وجيشها يُستنزف في حرب مكررة لا أفق لها، وكل جهودها للتطبيع مع العرب بغرض مواجهة إيران تُنسف، لا بل هي تحتاج لتطبيع العلاقة مع فلسطينيي الداخل الذين يحملون جنسيتها بعد انكشاف عنصرية إسرائيلية ممنهجة ضدهم.
.
رابط المصدر: