بدأ الصراع الروسي الغربي الدائر على الأراضي الأوكرانية يأخذ منحىً تصاعديًا متسارعًا وخطيرًا منذ أواخر العام 2021. ولقد تعقدت الأوضاع بشكل أكبر بعد دخول القوات العسكرية الروسية إلى أوكرانيا في 24 فبراير من العام الجاري. وبات العالم أجمع أمام سيناريوهات مستقبلية مظلمة، أكثرها تفاؤلًا يشير إلى نتائج غير محمودة لن يسلم منها أي طرف، قريب أو بعيد، في حالة وقوعها.
وفي ظل تعقد المشهد الراهن، وجد مُتابعون كُثُر حول العالم أنفسهم أمام ساحة شاسعة تموج في حالة من ضبابية المشهد ناجمة عن تضارب الأخبار المتداولة، وتوسعت ساحة المواجهة حتى اشتملت على الفضاء المعلوماتي والإخباري كذلك. لذلك، أجرى “المرصد المصري” حوارًا مع الدكتور/ ألكسندر بوجمولوف مدير المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية التابع للرئاسة الأوكرانية، وهو أحد الشخصيات البارزة في السياسة الأوكرانية؛ في محاولة للتعرف على وجهات نظر النخبة السياسية الأوكرانية حيال الأوضاع الراهنة.
ما هو الخط الفاصل بين الهويتين الروسية والأوكرانية؟ وما هو هدف السلطات الأوكرانية من حربها الثقافية مع روسيا؟
الرد على هذه النقطة يحتاج إلى محاضرة طويلة عريضة؛ نظرًا لانتشار مفاهيم خاطئة مبنية على سوء فهم للوقائع التاريخية أو الثقافية أو الحضارية بفعل الدعاية الروسية المستمرة في هذا الصدد. يعيش في أوكرانيا بالفعل أناس ناطقون بالروسية، وآخرون بالأوكرانية. ويوجد حول العالم نحو خمسة وستون مليون شخص من الناطقين بالأوكرانية، يوجد العدد الأكبر منهم بالفعل في أوكرانيا، والبقية في صورة جاليات كبيرة تعيش في دول بالخارج.
ومن الضروري أن نفهم أن اللغة الروسية المستخدمة في أوكرانيا تختلف عن نظيرتها في روسيا، وتحديدًا في موسكو. دليل على ذلك، أن الجنود الروس عندما ارتدوا ملابس أوكرانية محاولين التخفي في أوكرانيا للقيام بعمليات تخريب سرية، تم التعرف عليهم على الفور، بسبب لهجتهم الروسية الواضحة والتي يستطيع أي أوكراني التعرف عليها وتمييزها. وذلك ببساطة لأن معظم الأوكرانيين، من مزدوجي اللغة، يتحدثون ويفهمون اللغتين.
لكن جدير بالذكر أيضًا أن اللغة الأوكرانية هي لغة لها تاريخها، ومن ناحية المرادفات، أقصد في قاموسها، هي لغة تميل بشكل أكبر إلى اللغتين البولندية والسلوفاكية، وتشتمل بالفعل على الكثير من الكلمات المتشابهة مع هاتين اللغتين؛ فهي تعد واحدة من لغات أوروبا الوسطى.
من يعش في أوكرانيا يتحدث بطبيعة الأمر اللغتين، لكن الأوكرانيين الذين يعيشون في الجاليات الخارجية لا يعرفون سوى الأوكرانية ولا يفهمون الروسية. والعكس صحيح، نجد أن الروس لديهم صعوبة في فهم اللغة الأوكرانية بطريقتها المحكية به حاليًا، وتحديدًا في مناطق أوكرانيا الوسطى. بمعنى أدق، الأوكرانية تعد واحدة من شجرة اللغات السلافية.
وفي سياق الحديث عن حرب ثقافية ضد الروس في أوكرانيا، أؤكد أن أي أحاديث واردة بخصوص انتهاك حقوق الناطقين بالروسية في أوكرانيا تُعد جزءًا لا يتجزأ من المبررات التي يتم استخدامها في هذه الحرب. إنهم يريدون الظهور وكأنهم قاموا بالحرب وغزوا أوكرانيا للدفاع عن الناطقين بالروسية. وهذا حديث ليس له أساس من الصحة، ويعد دليلًا على عدم قدرتهم على قراءة الأجواء الاجتماعية في الداخل الأوكراني الذي لا يعاني من أي تعصب قومي أو عرقي ولا أي شيء من هذا القبيل.
لقد حاولت روسيا في دعايتها الداخلية ضد أوكرانيا أن ترسم أوكرانيا بشكل قبيح للغاية في التلفزيون الروسي على امتداد السنوات الأخيرة، وهو الأمر الذي حققت فيه نجاحًا نسبيًا. حتى فيما قبل بداية الحرب، أقصد فيما قبل العام 2014، عكف الرئيس الروسي أكثر من مرة على تكرار حقيقة أن الشعب الأوكراني والشعب الروسي عبارة عن شعب واحد. وكل هذه تعد دعاية تمس الهوية بشكل رئيس.
لكن بالنسبة للهوية، والتمييز فيما بين الهوية الروسية والأوكرانية، أقول إن أهم شيء هنا ليس عامل العِرق، ولا اللغة، إنما مفهوم الاستقلال ومفهوم الحرية، وهي المفاهيم التي حققت فيها أوكرانيا نجاحًا كبيرًا على امتداد سنوات ما بعد استقلالها؛ حيث تطورت بلادنا كدولة ديمقراطية وكدولة أوروبية، على خلاف روسيا، التي رجعت إلى الوراء؛ إنها دولة أوتوقراطية تعاني من تمركز مفرط في السلطة حول قيادة تتألف من شخص واحد، أو عدد قليل جدًا من الأشخاص الذين يتخذون كل القرارات. نشير من هؤلاء إلى رجال الأعمال الروس من ذوي الصوت المسموع في الكرملين، الذين يوكل إليهم الكرملين تنفيذ العديد من المشروعات في الخارج.
أما في أوكرانيا، فالأوضاع هنا مختلفة، وهذا شيء واضح بالنسبة للسياح الروس الذين كانوا عادة يزورون أوكرانيا قبل الحرب. كان هؤلاء عادة ما يقولون “إننا نأتي إلى أوكرانيا، ونتكلم بالروسية كما يحلو لنا، وعلى خلاف روسيا، نشعر أننا في أوروبا”.
أود أن أشير هنا إلى أن طباعة الكتب باللغة الأوكرانية كانت محظورة أثناء حقبة روسيا القيصرية -القرن التاسع عشر- وكان ذلك الحظر يتم بموجب مجموعة من القرارات القانونية والشرعية آنذاك. لذلك، من الأجدر القول، إنه فيما يتعلق بالحرب الثقافية، فإن روسيا هي التي كانت تشن حربًا ثقافية على أوكرانيا.
أما بالنسبة لروح المواطنة الأوكرانية، وانتمائها الفعلي إلى أوكرانيا، أقول إن الدليل الفعلي على ذلك هو المقاومة والصمود الأوكراني أمام الغزو الروسي؛ هذا دليل على أن الأوكرانيين شعب حر، شعر من تلقاء نفسه أنه ينبغي عليه مقاومة الاحتلال.
أنظر إلى هؤلاء المواطنين الذين لا يخافون من السلطة ويعرفون أن سلطات بلادهم يجب أن تكون منتخبة بشكل ديمقراطي. وراجع التاريخ، لتعرف كيف يتعامل الشعب الأوكراني مع أي محاولة للعودة إلى الأوضاع القديمة التي كانت موجودة في ظل حكومة الرئيس الأوكراني الرابع، فيكتور يانوكوفيتش، والذي انتفض الناس ضده واضطر للفرار إلى خارج البلاد وهو حاليًا يعيش في روسيا. إن التعريف الحقيقي للهوية الأوكرانية هو الحرية، الحرية والاحترام والكرامة، وهذا هو الفارق بين القيم الروسية المعاصرة والقيم الأوكرانية.
ما هو تقييمك لمسار المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا؟
توجد دائمًا أسباب لدى الأطراف المتنازعة تدفع كلًا منهم إلى الذهاب إلى طاولة المفاوضات. أقصد أن كل طرف يذهب لتحقيق مصالحه الخاصة. وفي كل النزاعات دائمًا ما تسير المفاوضات على هذا المنوال. والسؤال هنا، لماذا ذهبت روسيا إلى المفاوضات؟ الرد: لكسب الوقت. إنهم يريدون كسب الوقت بسبب عدم وجود قدرة قتالية لمواصلة الهجوم. لذلك، هُم بحاجة إلى المفاوضات حتى تكسب روسيا المزيد من الوقت باستخدام المفاوضات كستار تخفي من ورائه عمليات التعبئة المستمرة والتجنيد.
أقول ذلك لأنهم حتى الآن لم يتخلوا عن فكرة دخول المدن الكبرى، العاصمة تحديدًا. لذلك يحاولون جمع كل المجهود وحشد كافة المساعدات الممكنة من الخارج تحديدًا. لأنهم يشعرون بالخوف من الأوضاع الداخلية السيئة التي لحقت بهم من وراء العقوبات الاقتصادية الخارجية القوية وما إلى آخره. كذلك، من وراء حتى عدم رغبة الكثير من الجنود الروس المشاركة في العملية العسكرية. دليل على ذلك، أن غالبية الجنود الروس الذين تم أسرهم في أوكرانيا قالوا “إننا لم نكن ندري ما سبب الحرب، وسبب وجودنا هنا”. وعلى هذه الخلفية، اضطر الروس إلى الذهاب إلى طاولة المباحثات.
أما بالنسبة للأسباب التي دفعت أوكرانيا إلى الذهاب إلى طاولة المفاوضات. أقول، إن أصدقاءنا شاركوا في المباحثات الحالية من أجل الحفاظ على أرواح الناس، من أجل محاولة الوصول إلى اتفاقيات بشأن الممرات الآمنة لخروج المدنيين، في مدن كثيرة مثل ماريوبول على سبيل المثال، وفي مناطق أخرى مثل شمال غرب كييف، أو المناطق التي تعرضت للاجتياح أكثر من مرة ودارت بها معارك على أشدها.
وذهب المفاوضون الأوكرانيون كذلك بهدف جس النبض، وقد دلّ جس النبض على عدم وجود استراتيجية خروج لدى القيادة الروسية (Exit strategy)، وكانوا على تمام الثقة في قدراتهم العسكرية بوصفهم أقوى ثاني جيش في العالم، أو نستطيع القول إنهم لا يستحقون هذا اللقب، لقب الجيش الثاني، لأنهم فشلوا في القتال خلال العشرين يومًا الماضية، وبات فشلهم أمرًا واضحًا للعيان. وبخصوص المباحثات ومسارها الحالي، أقول إنها تظل في مرحلة بدائية للغاية، وليس عندي قدرة على التنبؤ بأنها ستحقق أي شيء جدي؛ لأن الجانب الروسي لا يُبدي جدية في المفاوضات.
ما هي في تصورك سيناريوهات خروج أوكرانيا من الأزمة الحالية؟
هذه ليست أزمة وإنما حرب بمعنى الكلمة، والخروج من الحرب له مخرجان: إما انتصار أحد الطرفين، أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوقيع على هدنة أو اتفاقية للسلام إذا لم يكن لدى الطرفين رغبة في مواصلة القتال. والوضع الراهن يشير إلى أننا لا نمر بهذه المرحلة من المباحثات التي تفضي إلى توقيع اتفاقية سلام، وذلك على الرغم من وجود تطورات ميدانية تشير إلى عدم إمكانية روسيا مواصلة الغزو؛ نظرًا لأن هناك دلائل تشير إلى أن خطة الغزو الروسية تم بناؤها في الأساس على دعائم خاطئة.
لقد كانت الاستراتيجية الروسية في شن الحرب مبنية على قراءات غير صحيحة للسياسات الأوكرانية، وللأجواء الاجتماعية في أوكرانيا. علاوة على ذلك، كان التفكير العسكري الروسي لا يُطابق الواقع على المستويين العسكري والسياسي. فالاستراتيجية الروسية بُنيت على أساس أن في أوكرانيا زُمرة من الناس الذين أطلق عليهم الروس صراحة أسماء مُذلة للغاية، تشير إلى عدم احترام هؤلاء الناس الموجودين في الحكومة وفي السلطة الأوكرانية.
كان الروس يعتقدون أن هؤلاء الموجودين في السلطة الأوكرانية لا يتمتعون بأي شعبية، وليس لديهم أي تأييد من قِبَل الشعب الأوكراني. لذلك كان في تصور القيادة الروسية أن الجماهير الأوكرانية سوف تقابلهم بكل ترحيب فور دخولهم إلى البلاد. غير أن أحداث العشرين يومًا الأخيرة تؤكد أن معتقدات الروس خاطئة، بل من الأجدر القول إنهم اقترفوا خطأ فادحًا فيما يتعلق بتقييماتهم لما قبل قرار الحرب.
والسبب في هذه التقييمات الخاطئة هو أنه من الصعب على الحكومة الديكتاتورية الاستبدادية الأوتوقراطية بأخف تعبير، والتي هي بالطبع روسيا، أن تتفهم طبيعة الدولة الديمقراطية والقيادة الأوكرانية الحالية التي هي بالتأكيد قيادة منتخبة. والحديث بالمثل، ينطبق على القيادات من كافة المستويات في حكومتنا، سواء كانت هذه القيادات على مستوى السلطة المركزية أو السلطة المحلية، سنجد أن جميع القيادات في بلدنا هي منتخبة وديمقراطية.
وما يحدث في الواقع على الأرض الآن هو خير دليل؛ نظرًا لأن القيادات المنتخبة المحلية هي التي تُدير المعارضة، وتدير الاحتجاجات، وتدير المقاومة المسلحة ضد العدو الغازي وما إلى آخره. وكل هذه أدلة على مدى حيوية النظام الديمقراطي في أوكرانيا، وقدرته على التحدي.
أما بالنسبة للتفكير العسكري الروسي، فهو كان مُخطئًا فيما يتعلق بقرار العملية العسكرية التي كان من المخطط لها أن تتم باستخدام أسلوب الحرب الخاطفة. فحسب خطتهم، التي باتت معروفة الآن للجميع، كان من المتوقع أن يتم دخول العاصمة في غضون فترة تتراوح ما بين يومين إلى أربعة أيام على الحد الأكثر. وكان من المخطط أن يتم من هناك القيام بعمل عرض عسكري في منتصف المدينة وما إلى آخره.
لكن ما حدث في الحقيقة، كان تعرض الهجوم الروسي للاختناق من أول يوم، ولا تزال التحركات العسكرية الروسية تسير على نفس الخُطى حتى اللحظة الراهنة. فقد تم تدمير نسبة كبيرة من القدرات القتالية الروسية. بمعنى، أن نسبة 40% من القدرات القتالية الهجومية الروسية أصبحت مفقودة، سواء كانت هذه القدرات في صورة بشرية أو في صورة عتاد. ويوجد عندي الكثير من المعلومات في هذا الصدد، أوردها إليكم في شكل الصورة الموضحة أدناه.
فضلًا عن أن نحو 13% من الجنود الروس قد تعرضوا للقتل، وتم أسر نحو ألف جندي روسي. وفي هذا السياق، يتوارد إلى ذاكرتي كلمات أحد القادة العسكريين المشهورين في العالم القديم، تحديدًا من القرن التاسع عشر، أتحدث عن “نابليون بونابرت”، ومقولته الشهيرة: إن الفوز في المعركة أو الفوز في القتال يعتمد على الروح المعنوية بنسبة 90%، وعلى المُعدات بنسبة 10%.
وهذا هو تحديدًا ما أود أن أثيره هنا، نظرًا لوجود دلائل كثيرة جدًا على انعدام الروح المعنوية لدى أفراد الجيش الروسي الذي دخل إلى الأراضي الأوكرانية. فهناك حالات هرب بين الكثير منهم، وخاصة المجندين الجُدد وطلاب المدارس العسكرية، الذين يهربون ويتركون مُعداتهم خاوية. ويوجد كذلك فشل في تنظيم الإمدادات، فالجنود الروس يدخلون إلى عمق الأراضي الأوكرانية ثم يتوقفون، إما بسبب عدم جاهزية العربات القتالية وعدم وفرة البترول، أو بسبب عدم توافر المؤن الغذائية، وعندها يتركون العتاد ويهربون باتجاه الغابات، محاولين الهرب نحو الأراضي الروسية عبر الحدود.
ومع ذلك، تظل القيادة الروسية متمسكة بنفس أهدافها من وراء هذه الحرب غير مقتنعة بعدم جدواها. ومن هذا المنطلق، أرى أنه ينبغي علينا إلقاء نظرة عن كثب على طبيعة الأهداف الروسية من وراء الهجوم حتى نستطيع أن نُفرق بين الأهداف المُعلنة، والأهداف الحقيقية. فالأهداف المُعلنة، في الصحف والتحليلات السياسية جميعها تتعلق بالمخاوف الروسية من توسعات حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا وانضمام أوكرانيا إليه. لكن أوكرانيا في الحقيقة لم تكن ستنضم إلى الحلف بتوقيت بداية الغزو، ولا حتى في خلال المستقبل القريب.
أقول ذلك رغم أن الانضمام إلى الحلف يعد ركنًا مهمًا من السياسات الأوكرانية. بجانب أن بعض دول أوروبا الشرقية التي كانت في السابق في أيام الاتحاد السوفيتي أعضاء في حلف وارسو، انضمت بالتالي إلى حلف شمال الأطلسي، ولكن انضمامهم لم يتم بإرادة من حلف الناتو، ولم يكن الحلف هو صاحب المبادرة في انضمامهم، بل بالعكس، كل هذه الدول بذلت أقصى مجهود حتى يتم قبولهم في الحلف رغم عدم رغبة الحلف آنذاك في قبولهم.
وعلاوة على ذلك، حلف الناتو ليس حلفًا عسكريًا فحسب في الأساس، إنما هو عبارة عن مجموعة من الدول الديمقراطية التي أبرمت اتفاقًا فيما بينهما للحفاظ على مبادئها وقيمها الديمقراطية والدفاع عنها. وأوكرانيا، منذ اليوم الأول لحصولها على الاستقلال، لطالما كانت ترغب في العودة إلى العائلة الأوروبية من خلال الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ومن يُعيد قراءة الأوراق التاريخية ليحسب الخطوات التي اتبعتها كل الدول الراغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي، سيجد أن الطريق العملي لإتمام هذه الخطوة كان دائمًا يبدأ من عند بوابة الناتو. مثال دامغ على ذلك هو انضمام بولندا أو ليتوانيا فكليهما انضم أولًا للحلف ومن ثم للاتحاد الأوروبي كمرحلة ثانية. ونحن أيضًا أردنا أن نتبع نفس الطريق. أما بالنسبة للجانب العسكري والدفاعي والأمني من الانضمام للحلف، فلطالما كانت هذه المسألة مطروحة للنقاش أكثر من مرة.
وأود الآن أن أعيد إلى الأذهان أن بداية الحرب مع روسيا ليست في شهر فبراير من العام الحالي، إنما الحرب الحقيقية قد بدأت في 2014، عندما هاجمت روسيا الأراضي الأوكرانية، واحتلت شبه جزيرة القرم، وحاولت ضمه أو بمعنى أدق، تم بالفعل ضمه إليها بموجب القوانين الروسية. وبعد ذلك، أشعلت روسيا حربًا بالوكالة في إقليم دونباس المؤلف من محافظتي دونيتسك ولوهانسك. وهناك، شكلت روسيا مجموعات من المقاتلين المحليين تحت قيادة روسية.
وهؤلاء المقاتلون ظهروا أمام العالم في صورة متمردين، رغم أن مفهوم التمرد لم يظهر من قبل في تاريخ أوكرانيا بهذه الصورة من قبل 2014. لكن روسيا، بهذه الطريقة، عكفت على خلق دويلتين شكليتين، لكنهم في الحقيقة ليسوا دويلات، لأنهم واقعون بالفعل تحت السيطرة الكاملة لروسيا. وبالتالي، من الأجدر القول إن الحرب الروسية الأوكرانية بدأت في عام 2014، عندما كانت أوكرانيا بالفعل دولة موجودة في وضع قانوني دولي محايد.
والحقيقة الواجب ذكرها أيضًا، أن دولة أوكرانيا سبق واتخذت وضع الحياد بشكل قانوني منذ فترة حكم الرئيس الرابع لأوكرانيا، “فيكتور يانوكوفيتش”، الذي سبق وأن وقع قانونًا يُطلق عليه (أسس السياسة الداخلية والخارجية)، وينص هذا القانون في واحدة من فقراته على أن أوكرانيا دولة محايدة. ولقد تمت الموافقة على هذا القانون من قِبَل البرلمان الأوكراني في العام 2010، أثناء رئاسة “يانوكوفيتش”. لكن مع ذلك، حيادية أوكرانيا لم تمنع روسيا من تنفيذ الغزو في عام 2014.
وبخصوص السيناريوهات المطروحة للخروج من الحرب، وفقًا للمعطيات الراهنة، فإن الأوضاع القائمة، وبكل أسف، لن تحسم خارج ميدان القتال. وينبغي على الجانب الروسي الاعتراف بما فعله، ولا أقصد هنا الأخطاء التي تكلمت عنها في البداية فحسب، الأخطاء السياسية والاستراتيجية وما إلى آخره. لكن يُضاف إلى ذلك، اختراق روسيا للقانون الدولي، ولمواثيق الأمم المتحدة، وللاتفاقيات الموقعة بين روسيا وأوكرانيا؛ والمقصود هنا الضمانات التي قد سبق وقدمتها روسيا بالفعل لأوكرانيا، خاصة في عدد من الاتفاقيات السابقة، أذكر منها على سبيل المثال، اتفاقية نزع السلاح النووي عام 1994، واتفاقية بودابست لعام 1994، عندما وعدت روسيا أوكرانيا أنها سوف تعمل على ضمان سيادتها وسلامة أراضيها. وهذه الاتفاقية تم اختراقها بالفعل من قِبَل الجانب الروسي بشكل واضح في عام 2014، وفي العام الجاري كذلك.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن الروس وبعد أن عرفوا أن هجومهم العسكري القائم على فكرة الحرب الخاطفة قد تعرض للاختناق، أصبحوا يلجؤوا إلى نفس التكتيكات التي تدربوا عليها وتعلموها في الأراضي السورية، والتي ترمي في الأساس إلى تدمير البنية التحتية، الطرق والمطارات، المصانع والمرافق الصناعية، بالإضافة إلى تدمير المباني السكنية؛ بهدف إحداث الفوضى، وتحقيق التدمير الاقتصادي لأوكرانيا، وخلق تيارات كبيرة من اللاجئين. لذلك، لا ننسى هنا أن نذكر أن الهجوم الروسي أوقع الكثير من القتلى في صفوف المدنيين الأوكرانيين خلال العشرين يومًا الماضية، وأن عدد القتلى من بين المدنيين يفوق عد الجنود الذين قضوا في الحرب.
كيف تقيم كييف الجهود التي يبذلها الغرب في مساعدتها؟
في تقييمي، هذه جهود مهمة جدًا. إن حلف شمال الأطلسي أبدى موقفًا مُحددًا، والاتحاد الأوروبي كذلك، جيراننا، أبدوا موقفًا محددًا. ولا ننسى الدور المهم جدًا الذي لعبه جيراننا الآخرون، أقصد تركيا. ويوجد هناك تعاون عسكري فني يجمع بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي من جهة، وتركيا من جهة أخرى. وهذا تعاون مهم للغاية بالنسبة لنا، تحديدًا فيما يتعلق بالدور الذي لعبته الطائرات المسيرة التركية التي تم استيرادها منذ فترة ما قبل بداية الحرب، وهذه طائرات لعبت دورًا كبيرًا في إدارة القتال.
وعند هذه النقطة، من المهم أن نفهم السبب في حصول أوكرانيا على هذا النوع من المساعدات. وهو أن هذه حرب، وهي بالتأكيد ليست حربًا بين أوكرانيا وروسيا فحسب، إنما هي حرب إقليمية منذ يومها الأول. ويشارك بها ثلاثة دول، ليس روسيا فقط. بل هناك دولة ثالثة تشارك في الحرب بشكل مباشر وهي بيلاروسيا؛ إنها تشارك في الحرب بالصواريخ التي تخترق أجواء أوكرانيا وتقصف المدن المسالمة الأوكرانية كل يوم. والكثير من الضربات العسكرية تأتي من القواعد البيلاروسية، وليس فقط من السفن الروسية الموجودة في البحر الأسود.
هذا فضلًا عن أن روسيا تتوجه بالكثير من التشديدات لدول الجوار المسالمة، مما يجعلها تشعر بخطر بالغ؛ لذا، نفهم أن روسيا وضعت أوروبا ككل في خطر كبير جدًا بعد فترة طويلة من السلام عاشتها القارة بعد الحرب العالمية الثانية. ما أود أن أقوله، أن ما نحصل عليه من مساعدات ليس لأجل “عيون أوكرانيا” كما يقولون. ولكنها تأتي دفاعًا عن أوروبا بالكامل، وعن المبادئ، وعن النظام الأمني الأوروبي كما هو قائم ومعروف. وذلك لأن روسيا اخترقت كل القوانين والأعراف الدولية، مما يجعل من مصلحة أي دولة مجاورة أو أي دولة في العالم أن تعمل على مواجهة هذا التحدي. لهذا السبب هم يرسلون المساعدات، سواء في صورة عتاد أو في صورة مساعدات إنسانية، وما إلى آخره.
ما هو تقييمك للدور الأمريكي في الحرب؟
الدور الأمريكي، في تقييمي، مهم للغاية؛ فقد أبدت الإدارة الأمريكية الحالية قدرات فعالة في زعامة حلف شمال الأطلسي، ولعبت الدبلوماسية الأمريكية بالفعل دورًا كبيرًا في تنظيم الحلف الذي يتألف من ثلاثين دولة، وتوحيد الصفوف والأفكار.
وأود أن أنوه هنا، أن الولايات المتحدة لم تفعل ذلك من وازع دورها كدولة كبرى، لكن على خلفية شعورها بوجود مصلحة مشتركة في ردع روسيا. لأن أوروبا لم يسبق وأن عرفت حربًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخاصة مع حرب على هذا المستوى من الوحشية، بوجود هذا النوع من التهديدات الواردة لكل الدول الأوروبية المجاورة والبعيدة على حد سواء.
وأود أن أشير إلى أن أكبر دليل على فشل السياسات الروسية بوجه عام، هو أنه كان يوجد هناك دول محايدة لا ترغب بالانضمام إلى حلف الناتو مثل فنلندا، لكننا نجد اليوم أن نحو 65% من الناخبين الفنلنديين يرغبون بالانضمام إلى الحلف بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ما هو تقييمك للجهود التي بذلها الغرب في مساعدة أوكرانيا على استرداد شبه جزيرة القرم قبل بدء الحرب الحالية؟
بالنسبة لاسترداد شبه جزيرة القرم، أجد أن الجانب الغربي لم يبذل مجهودات كبيرة. إنما من الجدير بالذكر أنه لا يوجد أي دولة اعترفت بضم روسيا لشبه الجزيرة، سواء من الغرب أو غير الغرب. تركيا، على سبيل المثال لم تعترف بالضم.
هل ترى أنه من الأفضل لمستقبل أوكرانيا أن تصبح في وضع حياد أم أن تستمر في رغبتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟
أرى أن الحياد بمعنى عدم الانضمام أو عدم الانحياز إلى حلف الناتو هو أمر غير مطروح في الوقت الراهن لأنه لا يضمن لأوكرانيا أي شيء. فهناك وقائع تدل على أنه سواء استمررنا في مساعينا للانضمام إلى حلف الناتو أو ظللنا في حالة الحياد فإن هذه جميعها أشياء لا تشتمل على حلول للوضع القائم. ولذلك يجب أن نفهم الهدف الحقيقي غير المُعلن للغزو الروسي، والذي بالتأكيد ليس هو عدم السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى الناتو أو غيرها من التكتلات الدولية، إنما هي في الحقيقة حرب إمبريالية الهدف الأساسي منها هو الاحتلال والسطو على موارد أوكرانيا.
وذلك نظرًا لأن أوكرانيا هي أرض غنية بالموارد، تحديدًا الزراعية منها. دليل على ذلك، أن دولة كبيرة مثل الصين تعتمد على القمح الأوكراني بنسبة 30%، وحتى الدول العربية بما في ذلك مصر ولبنان وما إلى آخره، جميعها تعتمد على واردات القمح الأوكرانية. بجانب أن أوكرانيا لديها قدرات صناعية، أتحدث تحديدًا عن الصناعات الزراعية. ووفقًا لآراء الخبراء، فإن أوكرانيا بإمكانها أن تُغذي عددًا يتراوح بين 600 إلى 700 مليون شخص حول العالم. وفيما يتعلق بالموارد المعدنية التي تحتوي عليها أوكرانيا، نجد أنها دولة غنية بمعادن مهمة مثل الحديد والتيتانيوم واليورانيوم، بالإضافة إلى قائمة طويلة من الموارد المهمة والمتوفرة بغزارة في الأراضي الأوكرانية.
ونفهم من كل ما سبق أن الفكرة الرئيسة المسيطرة على السياسات الروسية، سواء داخليًا أو خارجيًا، منذ لحظة سقوط أو اضمحلال الاتحاد السوفيتي، لطالما كانت هي إعادة بناء الإمبراطورية الروسية ومواصلة الوجود الروسي في صورة دولة قطب من أقطاب العالم. غير أن هذا الفكر السياسي يتعارض مع حقيقة الحالة الاقتصادية الروسية، ولا يتوافق مع واقع ما يعانيه الاقتصاد الروسي من ضعف. وأسباب معاناته كثيرة، نورد منها فشل جميع مشروعات ومحاولات تطوير وتحديث روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واضطرارها لأن تعيش حتى الآن على أرباح صادراتها في مجال الطاقة.
ومن الضروري أن نشير هنا كذلك إلى العديد من الكتابات والتحليلات السياسية الروسية التي تؤكد أنه ليس من الممكن إعادة بناء روسيا إلا عن طريق الحصول، بشكل من الأشكال، أو ضم أوكرانيا ووضعها تحت السيطرة، سواء بشكل سياسي أو اقتصادي أو عسكري. لذلك، فضم أوكرانيا لطالما كان هو الهدف الرئيس من وراء هذه الحرب، وليس هناك ثمة أي أسباب أخرى. مما يجعل من كل الكلمات الواردة في خطابات القيادة الروسية منذ أوائل القرن الحالي، ولا سيما في السنوات الأخيرة بعد عام 2014، عبارة عن مجرد مبررات كاذبة وليست حقيقية البتة، والهدف الحقيقي منها هو إسدال ستار على الحقيقة حتى تختفي من أمام أعين الناس.
ما هو تعليقك على التصريحات المستمرة التي يصدرها قادة غربيون بشأن رفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو؟
لم يكن يوجد أبدًا إجماع من قِبَل الدول الأعضاء في حلف الناتو على انضمام أوكرانيا إليه. تُرى ما السبب؟ ردًا على ذلك، أقول إن أسباب عدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف تعود إلى مواقف بعض الدول الأعضاء في الحلف، تحديدًا ألمانيا، التي كانت غير راغبة في قبول أوكرانيا بحكم علاقاتها مع روسيا.
ماذا لو انتهت الحرب الآن.. كيف في اعتقادك ستقوم أوكرانيا بإعادة الإعمار؟
هذه صراحة مشكلة، هذه قضية كبيرة للغاية. لأن الحرب بوجه عام، أو تحديدًا الحرب بالطريقة التي تُمارس الآن في أوكرانيا من قِبل روسيا، الهدف الحقيقي منها هو تدمير الاقتصاد. ولا شك أن أوكرانيا تمتلك بالفعل عددًا من الموارد الصناعية والزراعية والبشرية، والتي سبق وأشرت إليها أعلاه.
لكن هناك مسار آخر يجري الآن، فقد دخلت أوكرانيا في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بهدف المسارعة في الانضمام إليه. وإذا تم هذا الأمر، فهو بالتأكيد سيسهل علينا الكثير. بمعنى، إذا أصبحنا جزءًا من الاتحاد الأوروبي، فسيكون هناك طرق أسهل وأيسر للحصول على القروض والمساعدات التي مما لا شك أن أوكرانيا ستكون بحاجة إليها خلال فترة إعادة الإعمار فيما بعد انقضاء الحرب.
وقد تم بالفعل رفع عدد من القضايا أمام المحاكم الدولية ضد روسيا، التي تُعد هي المسؤول الأول والأخير عما لحق ببلادنا من دمار، أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى أطروحات مماثلة في بُلدان عدة. فروسيا هي المسؤولة عن هذا الإجرام، لذلك ينبغي عليها التعويض عنه، وهذا بالتأكيد شيء واضح وسوف يحدث في المستقبل. نحن بالتأكيد لا يمكننا التنبؤ بما سيحدث في المستقبل، لكن ما أود أن أقوله، أن روسيا هي الجانب المعتدي مما يجعلها مسؤولة من الناحية القانونية والشرعية عن تعويض الجانب المتضرر من الحرب.
كيف يمكن أن تتخلص أوكرانيا من المرتزقة الأجانب الذين حضروا إلى البلاد من الطرفين؟
نحن ليس عندنا مرتزقة أجانب؛ من حضروا إلى أوكرانيا هم عبارة عن مجموعة من المتطوعين الأجانب. وصحيح إنهم ليسوا مجموعة كبيرة، لكن وجودهم مهم ورمزي، إن مجرد وجودهم يرمز إلى التأييد الذي تحصل عليه أوكرانيا من قِبَل الأحرار حول العالم وخاصة في دول الجوار الأوروبي. وهذا التأييد أمر وارد، ليس فقط على مستوى التأييد العسكري، وإنما التأييد السياسي الكبير.
عند هذه النقطة، أود أن أشير إلى أنه لا توجد في العالم دول أيدت الغزو الروسي على أوكرانيا سوى أربعة فقط، وهؤلاء هُم بيلاروسيا، واريتريا، وسوريا، وكوريا الشمالية. هذه الدول التي أيدت السياسات الروسية إما على مستوى العالم أو على مستوى الأمم المتحدة، هي إما دول هشة وفاشلة أو دول ليس لها أي وزن دولي، وتعتمد على المساعدات الروسية ليس أكثر. حتى أن هناك عددًا كبيرًا من الدول المتحالفة مع روسيا أو مؤيدة لها وسبق وأن أيدت بعض قراراتها على مستوى الأمم المتحدة؛ لم تؤيد روسيا في حربها على أوكرانيا، مثال على ذلك كوبا، وكذلك أرمينيا التي تعتمد على روسيا في كل شيء تقريبًا.
فيما يتعلق بالمرتزقة الأجانب القادمين عبر الجهود الروسية، فإن روسيا بالفعل حاولت تجنيد مواطنين من الشرق الأوسط، تحديدًا من سوريا، والدافع وراء ذلك هو أن النظام الروسي يدرك أن هجومه على أوكرانيا قد اختنق، ولا تمتلك وحداته العسكرية قدرة هجومية كافية لإتمام الحرب، وكل القوى البشرية الروسية التي كانت مستعدة للغزو قد استُنزفت بعد أن دخلت أوكرانيا، وهرب جزء كبير منهم، وراح 40% منهم بين قتيل وجريح وأسير، ومن يتبقون غير كافين أو قادرين على الاستيلاء على مدن كبرى أو أجزاء مهمة في أوكرانيا.
لذلك يعكفون الآن على تدمير بعض المدن بالمدفعية الثقيلة بسبب عدم إمكانيتهم للاستيلاء على هذه المناطق. مثال على ذلك، تم اجتياح الضواحي الشمالية الغربية لمدينة كييف، وتم تدمير الموانئ بالمدفعية الثقيلة في بحر آزوف في مدينة ماريوبول. بجانب أنهم دمروا البيوت ودور العبارة، وكان هناك مسجد تركي يختبئ فيه الناس وتم تدميره وقتل العديد من الناس الذين كانوا يحتمون بداخله. ووفقًا للمعلومات الأخيرة التي وردت إلينا، فقد دمروا مسرحًا كبيرًا كان يختبئ بداخله ألف شخص، لست أدري هل ما زالوا على قيد الحياة أم لا.
كل هذه دلائل على فشلهم العسكري الممتد على الكثير من المحاور، أو تقريبًا في كل المحاور الرئيسة؛ بسبب عدم ترتيب العملية العسكرية بشكل صحيح، وبسبب عدم وجود الإمدادات، وكذلك بسبب المقاومة الأوكرانية القوية التي لا تُعد فقط مقاومة يضطلع بها الجيش النظامي، لكن الشعب الأوكراني كله قام ضد الاحتلال.
لذلك كانت فكرة إعلان حالة الحرب في الداخل الروسي أمرًا مطروحًا لتجنيد المزيد من المدنيين. لكنهم خائفون حتى الآن من اتخاذ هذه الخطوة. حتى أنه ممنوع تمامًا استعمال كلمة حرب، أو انتقاد الحرب. لقد اتخذوا قوانين جديدة صارمة جدًا تمنع الناس من استعمال كلمة الحرب او انتقادها. وإذا قام شخص ما في روسيا بانتقاد الحرب أو محاولة وصف ما يجري في أوكرانيا بكلمة حرب، فمن الممكن أن يتلقى حكمًا بالسجن لمدة تصل إلى 15 عامًا.
ولهذا السبب لجأوا في البداية إلى طريقة تجنيد خفية، يتم استدعاء الناس إلى مراكز التجنيد بحجة التدريب، ثم يتم إرسالهم بعد ذلك إلى أوكرانيا. وبعد ذلك، حاولوا القيام بتجنيد مواطني بعض المناطق المسلمة التي تعاني من الفقر، مثل داغستان. فعرضوا على المتطوعين الراغبين في المشاركة بالأعمال القتالية مبالغ كبيرة تصل إلى مائتي ألف روبل في اليوم الواحد. وعلى نفس المنوال، حاولوا تجنيد السوريين، والسبب الرئيس كما قُلت هو عدم امتلاكهم للقدرة العسكرية اللازمة لإدارة القتال أو للهجوم أو لتنفيذ الخطة العسكرية المطلوبة منهم.
وردًا على كيف ستتمكن أوكرانيا من التخلص من المرتزقة؟ أقول، مع الأسف الشديد مصير السوريين الذين دخلوا إلى الأراضي الأوكرانية أو غيرهم سيكون بصراحة شديدة غير مشرق. وإذا كان الجيش الأوكراني النظامي الذي يدافع عن أراضيه بشكل شرعي وقانوني ومسموح به في القوانين الدولية قد نجح في القضاء على 40% من أصل مائة وخمسة آلاف عسكري روسي كانوا محتشدين في البداية عند الحدود، فماذا سيكون تصرفه إذًا مع هؤلاء القادمين من خارج أوكرانيا؟ علمًا بأنهم يفتقرون إلى أي معرفة بالظروف المحلية للبلاد، وليس لديهم أي مستوى جاهزية في القتال، ولا يمكن مضاهاتهم بأي شكل مع أفراد الجيش النظامي الأوكراني.
أنا في الحقيقة شديد الاندهاش من هؤلاء الراغبين في المشاركة في هذه الظروف المماثلة. ونفس الحال ينطبق على الشركات العسكرية الروسية، على سبيل المثال، شركة فاجنر. يوجد هناك العديد من أفرادها راحوا ضحية هذه الحرب، ولقي عدد كبير منهم حتفه. ومن المؤكد أن نفس المصير ينتظر المرتزقة الأجانب الذين تجلبهم روسيا إلى أوكرانيا.
كيف ستتعامل كييف -فيما بعد الحرب- مع التسليح الشعبي لمواطنيها؟
صحيح أن الشعب الأوكراني مُسلح في الوقت الراهن، ويُعد هذا عاملًا مهمًا في مقاومة العدو. وفي البداية أود أن أشير إلى أنه يوجد في أوكرانيا عدد كبير من المتحدثين باللغة الروسية، وهؤلاء الناس يشاركون في المقاومة، هؤلاء الناس كذلك جزء من المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الروسي، على خلاف ما تزعمه الدعاية الروسية بأن الناطقين بالروسية هُم مؤيدون للروس، أو للاحتلال الروسي.
علاوة على ذلك، يوجد الآن جزء كبير من مواطني أوكرانيا أصبحوا على درجة عالية من التسليح، ومندمجين في أنشطة مقاومة الاحتلال. وقد صدر مؤخرًا قرار من محكمة العدل الدولية يؤكد على انتصار أوكرانيا بالفعل. فقد أعلنت محكمة العدل الدولية قرارها بضرورة وقف روسيا لجميع الأعمال العدائية في الأراضي الأوكرانية. وقد تضمن قرار المحكمة أن الشعب الأوكراني له كل الحق في الدفاع عن نفسه وعن أراضيه ضد العدوان الروسي.
وفيما يخص مسألة التسليح الشعبي، هي أمر مطروح دائمًا في كل الحروب وكل النزاعات، وتوجد بالتأكيد طرق لمعالجتها. ما يهم ذكره هنا، هو أن الشعب الأوكراني بالكامل عبارة عن شعب مسالم للغاية ولا يرفع السلاح إلا فقط في حالة مواجهته لخطر كبير. وأنا متأكد أننا لن نواجه مشكلات كبيرة في نزع السلاح من المدنيين المشاركين في الدفاع عن أراضيهم.
وأود أن أنوه إلى أنه يوجد بالفعل لدينا نظام أمني للدفاع عن الأراضي، وهذا النظام يتكون من مجموعات من المدنيين تحت قيادة ضباط أو ضباط متقاعدين. وتوجد كذلك وحدات مدنية تحت قيادة أفراد من السلطات المحلية المنتخبة، إنه شيء مثل مجموعات (الفدائيين) التي عرفتها بعض الشعوب العربية من قبل. هؤلاء بالفعل، مسلحون، والكثير منهم بالمناسبة استحوذ على العتاد المتروك من الروس الفارين، مثل الدبابات. وليس ثمة شك أنه بحلول نهاية الحرب سيكون هناك عدد كبير جدًا من حملة السلاح من المدنيين. لكنني لا أعتقد أن بلدنا ستتحول إلى واحدة من هذه الدول التي تعاني من حروب ونزاعات مسلحة طويلة الأمد مثل أفغانستان أو اليمن.
إنها ببساطة مسألة فنية، لن تكون الأوضاع أبدًا مثل ليبيا. إن مسألة نزع السلاح كبيرة وصعبة للغاية في البيئات الاجتماعية التي تعاني من روح طائفية أو نزعة تنافسية بين عصابات مختلفة، مثل الصومال مثلًا. أقصد هذا النوع من الدول الذي يعاني من نزاعات شعبية لها جذور تاريخية عميقة تدفع بعض القبائل أو بعض مكونات المجتمع إلى محاربة بعضهم البعض، ومحاربة النخبة كذلك.
لكن جميع هذه الظروف لا تنطبق على الأوضاع الاجتماعية في أوكرانيا. ونحن لم يسبق لنا أبدًا وأن عاصرنا هذا النوع من النزاعات. حتى في أثناء الثورات الأوكرانية السابقة، كان الشعب يتصرف بطريقة شديدة السلمية، ولم يكن يتم كسر ولا نافذة واحدة لدينا. نحن شعب له ثقافة سلمية ومنظمة، ولذلك أنا لا أخشى أبدًا من أي مشكلات متوقعة بخصوص عملية نزع السلاح. كل ما بالأمر أن تنظيم هذه العملية سيتطلب منا بعض الإجراءات الحازمة، وتوفير برنامج منظم لنزع وتجميع السلاح.
كيف تقيم قرار الرئيس الأوكراني بالإفراج عن مجرمين جنائيين للانضمام إلى صفوف المقاومة؟ وكيف يمكن التراجع عنه مستقبلًا؟
المشاورات بشأن هذا القرار لم تحدث خلال الفترة الأخيرة، لكنها حدثت في أول أيام الحرب. كان هناك حديث عن تحرير بعض نزلاء السجون سواء كانوا مجرمين أو غير مجرمين. كان الحديث يدور عن السماح لهم بالانضمام إلى صفوف المقاومة المسلحة. وكانت هناك عدة خيارات مطروحة قيد النقاش، وهذا الأمر كان مطروحًا ليس بخصوص كل المعتقلين، لكن فقط هؤلاء المجرمين الذين تم احتجازهم على خلفية جرائم خفيفة، وليس القتلة، وليس المسؤولين عن الإجرام بمعنى الإجرام.
أقصد أن المشاورات بخصوص هذا القرار كانت تمس المحتجزين لأسباب تتعلق ببعض المخالفات البسيطة وليس المجرمين المحترفين أبدًا. ووفقًا لمعلوماتي، هذا القرار لم يُطبق، لقد كان ذلك مجرد نقاش عادي. ولا شك أن روسيا تقوم بتضخيم مثل هذه الأنباء في الخارج، وتعمل على تسليط الضوء عليها بمساعدة العملاء الروس الموجودين في الخارج، هؤلاء الذين يقوموا بعمل شيء من اللا شيء.
في تصورك، لو انتهت الحرب الان، كيف ستدير أوكرانيا علاقاتها المستقبلية مع موسكو؟
من المهم أن ندرك أن روسيا -حتى لو نجحت بالفعل في تدمير أوكرانيا- ستخرج من هذه الأزمة أضعف بكثير مما كانت عليه سابقًا؛ فقد كانت القيادة الروسية تهدف من وراء هذه السياسات الفاشلة إلى تقوية روسيا وإعادة بناء الإمبراطورية، لكن الواقع لا محالة سيكون عكس ذلك.
ندلل على ذلك أن روسيا في بداية الحرب كانت تمتلك الجانبين العسكري والأمني من ناحية، وجانب النفط وصادرات الطاقة بوجه عام من جهة أخرى. وبالنسبة للجانب العسكري، من الواضح أن هناك فشلًا كبيرًا. أما بالنسبة للأشياء الأخرى، فإن اختراق القانون الدولي تسبب في توحيد الصفوف ليس فقط بين الدول الكبرى، لكن بين الدول الأخرى كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تخترق فيها روسيا القانون الدولي. لقد سبق وفعلت الأمر نفسه في سوريا، وهي تمارس الآن نفس الأسلوب الذي يرقى إلى أن يتم وصفه بجرائم الحرب في أوكرانيا. لذلك، نعرف أن مصير روسيا بكل صراحة لن يكون مشرقًا، وهذا شيء يعرفه جيدًا الروس أنفسهم، تحديدًا المثقفون الروس الذين يبدون علانية أو من خلال مراسلاتهم مع الأوكرانيين، أو في أثناء وجودهم في بعض الندوات الدولية أنهم متفهمون لهذا الوضع الذي أوقعت روسيا نفسها فيه ولا يوجد أي مخرج ملائم منه. فحتى لو دمرت روسيا أوكرانيا، لن تخرج من هذا التدمير سليمة وقوية، ستخرج منه في صورة أمه مجرمة، وهذا مصير أشفق عليهم منه.
أطلق الرئيس زيلينسكي تصريحه الشهير “نخوض حربًا نيابة عن العالم المتحضر”، ما هو تفسير كلمة العالم المتحضر في هذا التصريح؟
عبارة عن العالم الحر الديمقراطي، كان هذا هو المقصود ولا شيء غير ذلك.
.
رابط المصدر: