التجاني بولعوالي
من خلال متابعتي للنقاش الذي أثاره قرار تحويل متحف “آيا صوفيا” لاحظت أن هذه القضية غالبا ما تخضع للتوظيف الإيديولوجي، لاسيما من قبل بعض وسائل الإعلام والسياسيين والمثقفين المؤدلجين. كما أنه يهيمن لدى شق مهم من المتلقين العاديين نوع من التماهي الواعي تارة، والانجرار العفوي واللا واعي تارة أخرى، نحو أحد الطرفين اللذين يحركان خيوط اللعبة، تماما كما يحرك المهرج القراقوز بحسب الهدف الذي يرسمه هو لا الجمهور. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القراقوز في الأصل كلمة تركية! ويمكن تفسير هذا التماهي الواعي أو الانجرار اللاواعي بغياب المعرفة التاريخية والواقعية الدقيقة بملابسات تحويل معلمة “آيا صوفيا” إلى مسجد.
انقسمت الآراء والتفسيرات فيما يخص تحويل متحف “آيا صوفيا” في إسطنبول إلى مسجد يرفع فيه الآذان، وتؤدى فيه الصلوات الخمس المكتوبة، وفي الوقت نفسه يُسمح للجميع زيارته؛ سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم سياحا عاديين. وقد جاء هذا بناء على قرار المحكمة العليا في تركيا الذي صدر يوم الجمعة 10 يوليوز 2020، ويقضي بإلغاء قرار أتاتورك الذي يعود إلى سنة 1943 التي شهدت تحويل مسجد “آيا صوفيا” إلى متحف. تاريخيا شيدت “آيا صوفيا” ككنيسة في القرن السادس، وبالتحديد عام 537 من طرف الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، وعندما فتح العثمانيون مدينة القسطنطينية عام 1453 من قبل السلطان محمد الفاتح، تم تغيير اسمها إلى إسطنبول، كما تم تحويل كنيسة “آيا صوفيا” إلى مسجد خضع لترميمات وتعديلات متنوعة أثناء الحقبة العثمانية، كما أضيفت إليه مختلف المباني والمنارات. وما لا يعرفه البعض أن الجمعية المعنية بالأوقاف والمعالم التاريخية التركية رفعت منذ 2008 دعوى قضائية أمام مجلس الدولة ضد القرار الأتاتوركي القديم.
ولا يمكن استيعاب ما يحصل الآن في تركيا إلا بالعودة إلى الجذور التاريخية لهذه القضية، حيث تم تحويل معلمة “آيا صوفيا” إلى مسجد في سياق استثنائي كان مطبوعا بالصراع الصليبي الإسلامي، الذي زاد احتداما جراء ما كان يجري آنذاك في الأندلس من ملاحقة للمسلمين واليهود، وتحويل آلاف المساجد والبيع اليهودية إلى كنائس وممتلكات خاصة. فشكلت بلاد المغرب والدولة العثمانية ملاذا للموريسكيين واليهود الهاربين من جحيم محاكم التفتيش المسيحية. ومن الراجح أن يكون تحويل كنائس معينة (ومنها “آيا صوفيا”) في البلدان التي فتحها المسلمون آنذاك بمثابة رد فعل على المجازر البشعة التي كان يتعرض إليها الأندلسيون في تلك المرحلة، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن مسلمي الأندلس استغاثوا بالسلطان محمد الفاتح، غير أنه كان منشغلا بمواجهة التحالف الصليبي الأوروبي الشرس ضد دولته. ثم استنجد الموريسكيون لاحقا بالسلطان بايزيد الثاني الذي بعث رسولا إلى البابا يهدده بأنه سوف يعامل المسيحيين بالمثل في إسطنبول.
ويظهر أن هناك فئة ترفض القرار الرسمي التركي بتحويل كنيسة “آيا صوفيا” قديما عام 1453 إلى مسجد على يد محمد الفاتح، ثم حديثا من متحف إلى مسجد على يد طيب رجب أردوغان تحت ذريعة احترام الآخر والتسامح الديني، وهي تُغيب السياق التاريخي القديم الذي شهد تحويل الكنيسة إلى مسجد، في ظل التحالف الصليبي على الدولة العثمانية من جهة، والتنكيل الهمجي بالمسلمين في الأندلس من جهة ثانية. لذلك فمن اللامعقول أن نضع لهذه القضية مقدمات واهية نتذرع فيها بقيم الحرية الدينية والتسامح والحوار، لأن النتائج سوف تكون لا محالة باطلة وغير مؤسسة. لا يمكن أن نحاكم التحويل القديم لكنيسة واحدة إلى مسجد في الوقت الذي كانت تُحول فيه آلاف المساجد في الأندلس إلى كنائس وإسطبلات للحمير والبغال.
على هذا الأساس، لا يمكن أن نفسر ما حصل لكنيسة “آيا صوفيا” في منتصف القرن الخامس عشر انطلاقا من سياقنا المعاصر الذي يختلف جذريا عما كانت عليه الظروف السياسية والأمنية آنذاك. ينبغي أن نستوعب هذه المسألة ضمن شروطها التاريخية الأصلية لا ضمن شروط واقعنا المعاصر المختلفة.
ثم إنه لا يمكن التذرع دوما بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالحرية الدينية، وتأويل الأحكام بشكل حرفي متى دعت الضرورة، دون النظر الفقهي والواقعي في المناطات والمآلات. إن ظروف الحرب تطرح تحديات جديدة يمكن أخذها بعين الاعتبار في التعامل مع غير المسلمين الذين تربطهم آصرة العقيدة مع العدو. حقا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الاقتراب من الكنائس والبيع أثناء الفتوحات والحروب وإعفاء الرهبان والقساوسة إلى جانب النساء والأطفال والشيوخ من ضريبة الجزية، لكن هذا لا يمكن أن ينطبق على أولئك الرهبان الذين كانوا يناصرون العدو ويقفون في الصفوف الأمامية ضد الإسلام والمسلمين. وهذا ما كان يسري على الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر، حيث كان يوجد المسلمون بين مطرقة التهديدات الصليبية وسندان محاكم التفتيش الكاثوليكية في الأندلس.
في غياب هذه الخلفية التاريخية سوف يكون كلامنا مجرد سفسطة أو هرطقة لا طائل من ورائها. وهذا ما يُلمس في جانب من النقاش الحامي الوطيس الذي يشهده مؤخرا المجال التداولي العربي، لاسيما عبر الشبكات الاجتماعية، كأن ما يجري هناك في تركيا يهم بالدرجة الأولى العالم العربي الغارق في فوضاه العارمة وحروبه التراجيدية.
ولا يمكن تفسير هذا التوجه الجماهيري إلا بنظرية القطيع كما قعّدها المفكر ناعوم تشومسكي، حيث يخضع جزء كبير من “القطيع العربي” منذ مدة طويلة للتنويم المغناطيسي الذي تمارسه عليه الأنظمة المستبدة، فلا يلتقط إلا ما ترسمه له على شاشات الإعلام المؤدلج، ولا يؤمن إلا بما تحقنه به من قيم فاسدة وأفكار مزيفة. وهكذا يصرف عن قضاياه الحقيقية إلى ما لا يعنيه من قضايا لا تهم مجتمعه في شيء.
وقد ترتب عن ذلك أن الكثيرين صاروا يُنظّرون لمسألة معقدة؛ تاريخيا وقانونيا وسياسيا، ولا يمكن استيعاب حيثياتها إلا عبر البحث العميق والتقصي الشمولي. فتناسلت التأويلات الذاتية وتشعبت القراءات الإيديولوجية لحدث يقتضي تعاطيا واقعيا أولا وقبل كل شيء. ويمكن الحديث في هذا الصدد عن ثلاثة توجهات عامة طبعت مواقف المتابعين عن بعد لما يحصل الآن في تركيا.
موقف التعاطف المطلق مع القرار التركي بتحويل المتحف إلى مسجد، وتُحرّك هذا الموقف إما مشاعر دينية صرفة، إذ يرى أصحابه في ذلك نوعا من إعادة الاعتبار للحضور الإسلامي الذي كان قد أجهضته العلمانية الأتاتوركية منذ 1925 جراء علمنة تركيا على حساب هويتها الإسلامية الحقيقية، ما أدى إلى اضطهاد المواطنين المسلمين وتجريدهم من حقوقهم الدينية وطمس هويتهم الأصلية. وإما تحركه مشاعر سياسية ترى في أردوغان زعيم المرحلة الحقيقي الذي يمثل الأمل لاسيما بالنسبة للشعوب العربية؛ ذلك الأمل الذي بزغ مع قيام ثورات الربيع العربي، غير أن دول الثورة المضادة وقفت له بالحديد والنار، فدُمرت سوريا على آخرها، واغتيلت الديمقراطية في مصر، وأشعل فتيل الحرب في ليبيا واليمن، وهددت دول أخرى في استقرارها وأمنها.
ولا يمكن إنكار فضل تركيا التي شكلت إلى حد اليوم ملاذا آمنا للاجئين السوريين وغير السوريين. ثم إن التدخل التركي في ليبيا يمكن وصفه بحصان طروادة الذي بعثر أوراق الجنرال حفتر وحلفائه من داعمي الثورة المضادة بأموال البترودولار والإعلام المؤدلج. ولعل هذا ما جعل هذه الفئة تتعاطف مع القرار التركي، وترى في الرئيس أردوغان نوعا من التعويض السيكولوجي على أمجاد المسلمين الضائعة.
في مقابل ذلك، يسود موقف الرفض المطلق الذي يتسم بالانجرار الإيديولوجي الجارف. وهذا ما يُلمس في طبيعة الخطاب الذي يسود لدى شريحة مهمة من المتابعين، إذ منها من يصرح جهارا بالكراهية العارمة للأنموذج التركي الحالي بسبب دعمه لثورات الربيع العربي وتبنيه أطروحات الإسلام السياسي، التي لا تختلف كثيرا عن التوجه الإخواني العربي في مصر وتونس وليبيا وسوريا وقطر والمغرب والأردن وفلسطين. ويحسب هذا التوجه على خطاب الثورة المضادة الذي أصبح يسخر جيشا من المثقفين والإعلاميين والكتاب، بل وتمكن أيضا من التغلغل إلى شق مهم من القاعدة الشعبية التي تنشط عبر الشبكات الاجتماعية. والجدير بالذكر أن المشكلة الأساسية لدى هذه الفئة لا تتعلق بتحويل متحف “آيا صوفيا” إلى مسجد، بل تتخذ من ذلك مطية للضرب في التوجه التركي الجديد الذي يهدد المصالح السياسية والاستراتيجية للدول المحسوبة على الثورة المضادة وبعض حلفائها الخارجيين. وإلا فلماذا لم يقف هؤلاء الموقف نفسه من التدنيس المتكرر الذي يطال المقدسات الإسلامية في مناطق وبلدان أخرى؟
علاوة على ذلك، يمكن الحديث عن موقف التحفظ الذي يستند أصحابه إلى جملة من المبررات كالحرية الدينية والتسامح الإسلامي. وهذا موقف يبدو في ظاهره إيجابي، لأنه يدعو إلى قيم الحوار والتقارب واحترام الآخر، التي يعضدها الدين الإسلامي نفسه؛ قرآنا وسنة وتاريخا. لكن يظهر أحيانا أن هذا الموقف غير مؤسس، لأنه يفسر قضية تحويل كنيسة “آيا صوفيا” قديما إلى مسجد دون العودة إلى جذورها التاريخية وملابساتها السياسية والعسكرية من ناحية، ويرتكز على نصوص من القرآن والسنة الخاصة بالتعامل مع أهل الكتاب في تغييب لمناطاتها ومآلاتها التي لا يستقيم الحكم إلا بالنظر فيها والأخذ بها من ناحية أخرى. ثم إن هناك من يستحضر في هذا الجدل الجانب القانوني المتعلق بوثيقة شراء كنيسة “آيا صوفيا” من طرف السلطان محمد الفاتح، ويرى أنها لا تعني بالضرورة الشراء الفعلي للكنيسة.
خلاصة القول، أعتقد شخصيا أن الرفض المتعلق بتحويل متحف “آيا صوفيا” في تركيا إلى مسجد في أغلبه موجه إيديولوجيا. فالأمر لا يتعلق بمعلمة “آيا صوفيا” في حد ذاتها، بل بالتوجه السياسي التركي الذي يعتبر شوكة في حلقوم دول الثورة المضادة، وإلا فماذا لم يتم التعاطي بالحدة نفسها مع المقدسات الإسلامية التي تتعرض للتدنيس في أماكن ودول أخرى؟ ثم هل سوف سيكون التعامل نفسه لو كانت تركيا في صف تلك الدول المعارضة لها؟
رابط المصدر: