بقلم : فازع صوافطة – أسير في السجون الإسرائيلية وباحث في برنامج دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأمريكية
أظهرت الخارطة السياسية في العقدين الأخيرين تنامي مشروع قوة اليمين المتطرف داخل الكيان الإسرائيلي، ليصبح بذلك قوة شديدة التأثير في الساحة السياسية بما يحمله من أفكار تدعو إلى قتل العرب ومصادرة أراضيهم وإقامة المستوطنات عليها.
فقد بات واضحا أن المواقف المجتمعية المتطرفة التي بدأت تصعد مؤخرا في المجتمع الإسرائيلي تتعارض مع النظام العلماني الإسرائيلي الذي أدار الحياة في إسرائيل منذ قيامها، وهو ما تمثل في الدخول بعمليات مخاض عسيره لحسم معركة الانتخابات بين معسكري اليمين والوسط، وولادة أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفا، وذلك بعد خمسة دورات انتخابية متتالية بدأت أولها في 26 كانون أول/ديسمبر2018، وبالتالي فإن هذه الانتخابات ونتائجها سيكون لها تداعيات على مجمل الواقع الإسرائيلي في كافة الاتجاهات، سيما وأنها المرة الأولى التي يكون للأحزاب الدينية اليمينية المتطرفة دوراً كبيراً في بلورة وتنفيذ سياسات الحكومة.
تعتبر الأحزاب اليمينية المتطرفة التي فازت في انتخابات تشرين ثاني/نوفمبر2022 (الصهيونية الدينية، العظمة اليهودية) امتدادا لأفكار “مائير كهانا”، الذي كان يرأس حركة كاف العنصرية والتي تلاشت قوتها بعد موته بـ 32 عامًا، لكن جذورها وأفكارها بقيت حيةً لدى أنصاره المتطرفين من أمثال باروخ جولدشتاين مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف 25 فبراير/شباط 1994. و”ايجال أمير” الذي قام باغتيال إسحاق رابين عام 1996.
إن مناقشة صعود اليمين المتطرف في إسرائيل يمكن أن ينطلق من الحديث عن مجموعة عوامل سياسية وأيديولوجية واجتماعية وأمنية؛ وكان للعامل الأيديولوجي الديني العامل الأكبر على تغير الخارطة السياسية لصالح الأحزاب الدينية، وترافق ذلك مع خطابات شعبوية من قادة المتطرفين أمثال أتمار بن غفير وقادة المستوطنين، هذه الخطابات والشعارات المحرضة وجدت لها اذاناً صاغية وازدياداً شعبياً وزادت من حماسة المستوطنين والمتدينين ودافعيتهم للحصول على عدد أكبر من الأصوات في الانتخابات الأخيرة.
يناقش هذا المقال الظروف المرافقة لهذا التغيير واجراءاته وتداعياته على الواقع الإسرائيلي الداخلي وعلى القضية الفلسطينية، وعلاقات إسرائيل الخارجية تحديدًا مع الدول الأكثر تأثيرًا مع السياسة الخارجية الإسرائيلية.
الوضع الداخلي إسرائيلياً
يشهد المجتمع الإسرائيلي في العقدين الأخيرين تغيرات جوهرية وتحولات ديموغرافية من جديد؛ فالخارطة السكانية تميل لصالح المتدينين والمستوطنين على حساب العلمانيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية السكانية، والأغلبية الحاكمة، الأمر الذي غير من المجتمع وفرض أولويات جديدة لترتيب اجتماع جديد عكس نفسه على شكل الحكومة الجديدة.
وأظهر هذا التغيير قلقًا خاصة في صفوف العلمانيين واليساريين وتحديدًا بعد إدلاء عدد من أعضاء الكنيست الجدد في تصريحات تحريضية عنصرية ضد فئات مجتمعية أخرى، أو وسائل تحريضية احتضنتها الأحزاب اليمينية والقوائم السوداء التي وضعها حزب الصهيونية الدينية وهو حزب يميني حصل على مقعدٍ واحد فقط في الكنيست وعلى نائب وزير فقط في الحكومة!.
هذه القوائم اشتملت على أسماء سياسيين وإعلاميين وموظفين في وزارة العدل على أنهم (مثليون) الأمر الذي وصفته الصحفية الإسرائيلية “نينا كيدمون” في مقال لها في صحيفة يديعوت أحرونوت 28 كانون أول/ديسمبر 2022 بأنه يحدث لأول مرة في تاريخ إسرائيل ويذكر في أيام سوداء انتهى فيها مصير مثل هؤلاء المذكورين في القوائم بالموت أو الإعدام.
كذلك ما أوردته صحيفة يديعوت احرونوت في عددها الصادر في 29 كانون الأول/ديسمبر2022 من اتفاق بين الليكود والصهيونية الدينية على عدم انضمام رابين لمعاهدة إسطنبول (وهي معاهدة محاربة العنف ضد النساء) في إشارة إضافية إلى التمييز والعنصرية لفكر هذه الأحزاب.
وبالتالي فإن هذه التصريحات أصبحت أكثر خطرًا على المجتمع الإسرائيلي ومنها ستكون سببًا في انقسام حاد داخل المجتمع سببه دخول الأحزاب اليمينية إلى سلطة الحكم والسيطرة على الموازنات والسياسات وضخ الأموال لصالح الأموال للمؤسسات الدينية على حساب المؤسسات العلمانية والفيدرالية وهو ما تعتبره الأحزاب اليمينية نجاحات حققتها.
ويحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي يقود الحكومة في إسرائيل للمرة السادسة في تاريخه أن يهدئ من تصريحات قادة الاحزاب الدينية وممثليهم في الحكومة بعد تنصيبهم بهدف امتصاص حالة الغضب الداخلي.
هذه المحاولات لتهدئة الأوضاع ومنع الانقسام لن يكتب لها النجاح في ظل حالة الاستقطاب الشديد التي بدأت تبرز بشكل مواز مع القوانين ذات الطابع العنصري ومحاولات الأحزاب اليمينية فرض رؤيتها على المجتمع الإسرائيلي بالتركيز على العلمانية الاقدم والأكثر حضورًا في تاريخ هذه الدولة التي لن تستوعب ترك الساحة لما ترى فيهم حفنه من المستوطنين والمتطرفين التي يشكلون خطرًا على وجودها، لذلك يمكن القول: إن الانقسام سيكون أكثر حسرة على المجتمع الإسرائيلي المقبل، ما يشكل حالة صدام كبير بين مكوناته المختلفة وخاصة بين من يمتلك السلطة ومن هو خارجها.
كما أن الاتفاقات الاعتيادية بين نتنياهو والأحزاب اليمينية منحت هذه الأحزاب ميزات اقتصادية كبيرة ستجعل منها أكثر تحكما بالواقع الاقتصادي الإسرائيلي بشكل كبير من خلال ضخ مئات الملايين من الشواقل لصالح الوزارات والمؤسسات التي سيقودها قادة أحزاب اليمين وعلى رأسها المؤسسات والمعاهد الدينية على حساب مدارس ومعاهد التعليم الرسمي؛ فعلى سبيل المثال يشمل الاتفاق بين الليكود وحزب الصهيونية الدينية (بزعامة كريستال ماوكريتش) على تحويل 37 مليون شيقل لبرنامج تقوية التعليم الديني من خلال فتح مؤسسات صغيرة وتعيين حاخامات، بالإضافة إلى 100 مليون شيقل لمساعدة الآباء المتدينين ومؤسسات التعليم في المدارس الثانوية وكذلك يتم تخصيص 250 مليون شيقل على مدار سنة لبناء وتأسيس التعليم الديني.
واتفق الليكود مع حزب (العظمة اليهودية) الذي يرأسه مارك بن جدير، على زيادة ميزانية وزارة الأمن القومي 45 مليار شيقل على مدى 7 سنوات، وكذلك الحال مع حزب هدود هتوراه، وقد دفع الليكود ثمن مقابل حالة سخاء والاسراف في دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة، حيث سيكون هناك اهمال مستمر ومتواصل في دعم ميزانيات المدارس العربية، وبالتالي زيادة وتعميق الفجوة والانقسام بين العرب واليهود داخل إسرائيل.
تأثير العلاقة مع الفلسطينيين
اتخذت الاتفاقات الائتلافية بين الليكود وباقي أحزاب الائتلاف الحكومي انطلاقًا من تمكين قبضتها على الضفة الغربية وعلى وضع قدم لها في المنطقة الأمنية ووضعها على رأس أولويات الحكومة الجديدة.
وبالاطلاع على ما كتبه الصحفي بارك لولونكسير في صحيفة يديعوت احرونوت يوم 29 كانون أول/ديسمبر2022 حول الاتفاقات الائتلافية ومنطقة “يهودا والسامرة”. بينما أولي مصطلح (الخط الأخضر) وأصبح الوضح الأكثر استخدامًا هو دولة ذاتية القومية تحت سيطرة كاملة ومطلقة للشعب اليهودي.
شملت الاتفاقيات الموقعة بين حزب الليكود والصهيونية الدينية على تولي موكريج الإدارة المدنية في الضفة الغربية على ملف البناء في المستوطنات، بينما تتولى اوريك بروك منصب وزيرة (وزارة الاستيطان)، أما حزب العظمة اليهودية فقد حصل على العديد من الإنجازات وأهمها ترأس رئيس الحزب تمار بن غفير وزارة الأمن القومي مع صلاحيات واسعة ووحدة حرس الحدود.
ختامًا يمكن القول أن أعضاء وأنصار الائتلاف الحكومي الجديد يرددون عبارة (قال الشعب كلمته) في دفاعهم عن حقهم في تنفيذ برامجهم وممارسة صلاحياتهم، وبين من يدعو لإعطاء هذه الحكومة فرصتها في الحكم وبين من يعتبرها خطراً وجودياً يجب تعطيل توجهاتها وعدم السماح لها بتنفيذ برامجها، يبقى سلوكها واعمالها هي الامتحان الحقيقي للحكم عليها.
وهنا نستذكر تهديدات وزير الحرب وزير الحرب الإسرائيلي “اڤيغدور ليدرمان” بتدمير غزة وقتل اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في حال فوزه واستلامه لوزارة الحرب، لكن هذه التهديدات ذهبت ادراج الرياح وسقطت في امتحان الواقع، وهذا ما سيكون عليه الحال مع هذه الحكومة ولن تجد معظم تصريحات قادتها رصيداً واقعياً لتنفيذها. الثابت الوحيد في تغير وتبدل الحكومات الاسرائيلية وتدني نهج السياسيات على المدى الاستراتيجي، واختلافها في تنفيذ برامجها تكتيكًيا، خاصة فيما يتعلق بالشق السياسي والامني والعلاقة مع القضية الفلسطينية.
نعتقد أن المجتمع الإسرائيلي مقبل على تغييرات ملموسة وأن الامور تتجه إلى تعميق الانقسام وزيادة الفجوة بين المتدنيين والعلمانيين، وأن مكاتب المتدنيين والمتطرفين ستكون كبيرة في تثبيت اقدامهم في مؤسسات الدولة، وفي تطوير وبناء مؤسساتهم الخاصة في ظل حجم الأموال الكبيرة التي تم تخصيصها لمؤسساتهم الدينية والتعليمية والاجتماعية، مما سيعزز من قوتهم ومكانتهم في المجتمع الاسرائيلي. وباعتقادي انهم سيحققون نجاحات في الوزارات التي ستبقى تحت سيطرتهم، خاصة وأنهم أمام امتحان حقيقي الذي سيبنى عليه حجم قوتهم وشعبيتهم المستقبلية.
أما سياسيًا وأمنيًا فقد اثبت نتنياهو في رئاسته للحكومات السابقة قدرته على عمل توازنات بين رغبات ودوافع اعضاء حكومته وبين الواقع المساحة المتاح له بالتحرك فيها لذا سيستمر المخطط الاسرائيلي باتجاه توسيع وبناء المستوطنات وشرعنتها وتهويد القدس ببطء وحذر حتى لا يؤدي ذلك إلى إشعال المنطقة وتعطيل جهود نتنياهو في محاولته اختراق العواصم العربية من خلال التطبيع.
كما أن ذلك يتناسب مع أولويات الولايات المتحدة التي تحاول الحفاظ على تفردها في السيطرة على العالم ومنع تفكك النظام الدولي وتحوله الى نظام متعدد الاقطاب في ظل منافسة كبيرة مع الصين وروسيا.
رغبة أمريكا في عدم اشعال المنطقة سينعكس أيضاً على علاقة إسرائيل وإيران فالتهديدات بضرب إيران ومفاعلها النووي ليست جديدة وما نعتقد أن الظروف الراهنة ستسمح لإسرائيل بالقيام في مغامرة قد تغير من وجه المنطقة وتركيبتها.
نتنياهو استخدم هذه التهديدات لزيادة رصيده الشعبي لكنه يدرك أن ثمن مغادرة إيران لن يكون سهلا وأن النتائج التي سنتحقق لن تكون كافية لردع إيران ومنعها من تحقيق هدفها في الحصول على السلاح النووي.
لهذا كله نعتقد أن المجتمع الإسرائيلي والمجتمع الدولي سيتعايش مع التغيرات في سيادة الحكومة الجديدة التي سيكون الوضع الداخلي مركز اهتمامها الاكبر.
.
رابط المصدر: