الخطاب النخبوي في العراق: متاهات على الخريطة

عدنان أبوزيد

 

من يقود القطيع؟ ولماذا يتغلب الواعظ على المثقف والمفكر الذي يطلق على نفسه اسم “التنويري”، المثقف ينحسر دورا وحضورا في الميدان، الا في التواصل الاجتماعي والنوافذ الثقافية بقدر محدود، وفي الجلسات الخاصّة التي يحضرها جمهور لا يتجاوز عدد أصابع اليد، فيما المحلل السياسي والاجتماعي، والنائب والسياسي يحضر في الفضائيات، نجما “دراميا”، ولا مفاعيل له في أرض الواقع.

أقول ان السياسي والمثقف والمفكر العراقي لا يزال نخبويا، عاكفا في المختبر، ولا يجيد استخدام أدوات الواقع، فهو ينتمي الى صفوة لا تستطيع أن تحشّد في منتدياتها ودعواتها الحزبية، والثقافية والأدبية والسياسية – إذا ما نادت – أكثر من عشرين شخصا جلّهم من الأصدقاء والندماء ليس غير، في حين يجمع مدوّن بثقافة شعبوية متواضعة، مئات الآلاف من الأتباع، وينطبق الأمر على واعظ دينيّ يحصد من الأنصار، المئات، ان لم يكن الآلاف.

يسْري الأمر على فصيل من كتاّب ينتجون نصا متعال، يتداولونه مع أنفسهم والخلان فحسب، في أمسيات النوادي وشلة الندماء. فلا غرو أن أغلب هؤلاء غير معروفين للناس، ولا تثق بهم شِيَعٌ، لم ينجَع فيها القولُ والخِطابُ، ولم يقدموا خطاب ثقافيا شعبيا، يوجّه الناس وينتشلهم من الواقع، غلب عليه الجهل والسحر والخرافة والفساد والأمية.

مشكلة بعض النخب الثقافية و”المتعلّمة”، وبعض الذين يطلقون على انفسهم “مدنيو التنوير”، تتلخص في عقدتين متحمتين، أولهما اغتراب داخلي، بعدما وجدوا أنفسهم أمام مأزق التطور، التقني والسياسي، فبدلا من الاقتراب من الشعب انزوى البعض في برجه “الفكري”، ولم يستطع التماهي مع خطاب الشعبوية الجديد بمعناها الإيجابي.

والعقدة الأخرى، هي معضلة خطاب انفصامي، شاع فيه الضعف، شيوع الصَّدْعُ في الزُّجاجة، فلم يمتلك النخبوي العراقي يوما جمهورا حقيقيا مقارنة بالخطيب الديني، فإذا ما قرأ نصا أو أقام مسرحا، أو نسج بحثا، فليس بين جمهوره من أَخْلاطُ الإِنسان لا يتجاوز عدده أصابع اليد ويزيد قليلا، سوى ندماء وأصدقاء مهنة ليس غير.

بينما تخترق الشعبوية السياسية في خطابها جمهورا واسعا هو خليط من مستويات.

وللناس على اختلاف مستوياتها الفكرية والثقافية، الخيار، وهي إن انكفأت عن سماع أو قراءة ما يكتبه أصحاب الأدب المتعالي، فليس لعلة فيهم، بل الخلل يكمن في خطاب لا يتعدى صداه سطور الورق.

يجب التخلص من نرجسية فكرية، وشخصية غير مؤثرة، والتماهي مع الناس، والتزام “منهجية” في الحياة اليومية بدلا من فوضوية اقترنت بالترف الفكري، الذي لا يؤثر في الناس.

في زمن الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988) أجبرت الدولة، نخب الشعب، على الإنتاج للقادسية ومعارك القائد الضرورة، بل واجبرتهم على ارتداء بدلة الكاكي، متناسين معاناة الناس وآلامهم، حتى اذا ما انهارت الدكتاتورية، فشلت النخب في انتاج خطاب واقعي يكسب الناس ويضخ الوعي فيهم وتركتهم لقمة سائغة لأصحاب السطوة الفكرية والمادية.

بعد العام 2003 اثبتت النخب الفكرية والثقافية فشلها في تسيّد الموقف وكسب الجموع على رغم الانفتاح ومؤاتاة الفرصة، والمشهد اليومي يدل على أمسيا أدبية، وقراءات تحليلية، سياسية واجتماعية، لا يتعدى عدد مرتاديها أصابع اليد.

وعلى رغم أن الأمر يتعلق أيضا بانحسار الاهتمام الجمعي بالثقافة في مختلف البلدان، إلا أن شأنا آخر ينطبق على العراقيين، ليس لأنهم شعب يقرأ، ففي هذا مغالطة كبرى، بل لأن الكثير من نخب العراق، أدعياء في قدرتهم على التغيير والتأثير، وليس همهم اليوم سوى طباعة الكتب والروايات ومجاميع القصص التي لا تقرأ، اما السياسي والنائب فقد تحول الى مغرد ومدون، يمطر الناس بالعشرات من الأفكار المجترة، أسبوعيا، من قرأ كتبك ومن استمع الى خطابك، وكم عددهم.. أقول لك من أنت.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/mediareports/23399

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M