الدبلوماسية الإنسانية.. ما بين الأهداف النبيلة والاستغلال السياسي

د. قحطان حسين طاهر

تسعى الدبلوماسية الإنسانية إلى إقناع صانعي القرار والمسؤولين بالعمل لما هو في مصلحة المتضررين من الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية، بما يضمن احترام المبادئ الإنسانية الأساسية على وجه تام، وتُعد الدبلوماسية الإنسانية أداة من أدوات السلام ونشر المحبة لرفع المعاناة وتصفية الأجواء السياسية وتهدئة النفوس التي تحدث نتيجة الاختلافات السياسية، وكذلك لتلبية الحاجات الإنسانية الماسة للشعوب المنكوبة.

والدبلوماسية الإنسانية هي نشاط يقوم به عدد من الفاعلين مثل الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات الاجتماعية غير الحكومية والأفراد لتقديم المساعدة لمن يحتاجها في المناطق التي تتعرض إلى الأزمات. ويتم تقديم المساعدة عبر الوسائل الدبلوماسية كالتفاوض والتوقيع على اتفاقيات رسمية وغير رسمية مع كيانات حكومية وغير حكومية.

والدبلوماسية الإنسانية ليست حديثة الظهور في السياسة الدولية، بل تجلت كظاهرة منذ مدة ليست بالقليلة، عبر الأعمال الإغاثية التي تقوم بها العديد من الدول لدعم المناطق المنكوبة، سواء بسبب الحروب، أو الكوارث الطبيعية أو غيرها، إذ ساهمت بصورة كبيرة في توطيد علاقة الدول بالشعوب، كما إن الدبلوماسية الإنسانية تعد من أقوى وأنجع المجالات الدبلوماسية كونها هي السبيل الأمثل لتحقيق الأهداف الإنسانية لأي دولة، ولقدرتها على تغيير الواقع على الأرض وتحقيق ما تعجز عنه الدبلوماسية التقليدية أحيانا.

إن الشرط الأساسي في العمل الإنساني هو ابتعاده عن التوظيف السياسي والوقوف على مسافة واحدة من المكونات المختلفة في البلدان التي يتم التدخل فيها لأغراض إنسانية، وينبغي أن يقوم العمل الإنساني الدبلوماسي على مبادئ الاستقلالية والشفافية والحيادية ويتحرك وفق متطلبات الواقع على الأرض، كما يتحتم على الدبلوماسية الإنسانية العمل وفق إستراتيجية هادفة تضع أعمال الإغاثة وضمان حقوق الإنسان في مقدمة أولوياتها، كما تسعى إلى تعزيز ثقافة السّلام ببرامج مشتركة مرتبطة بمصالح مشتركة تعمل بين الشعوب، خاصة الدول المتجاورة، ورعاية هذا النشاط الإنساني محليا وإقليميا ودوليا وبهذا تؤدي الدبلوماسية الإنسانية مهمة نبيلة تسهم في ترسيخ الصورة الإيجابية للدول والجهات الداعمة وترفع من رصيدها المعنوي.

رغم أن الدبلوماسية الإنسانية تمارسها الجمعيات والهيئات والمنظمات المتخصصة في المجال الإنساني، ولكن يبقى دور الدول مهم في تسهيل مهام المنظمات الإنسانية سواء كانت وطنية أم دولية وتأطير عملها نظاميا وقانونيا وحمايتها من الاختراقات الأمنية والسياسية وما قد يشوب بعضها من فساد لتقوم بأعمالها كما ينبغي..

ورغم أن الدبلوماسية الإنسانية توصف بدبلوماسية المسار الثاني إلا إنها لا تقل أهمية عن الدبلوماسية التقليدية في تحقيق مصالح الدول، مما يعني أن العمل الدبلوماسي لم يعد مقصورا على وزارات الخارجية كما جرى العرف عليه في الماضي، بل أصبحت الهيئات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية تمارس عملا دبلوماسيا من خلال المساعدات الإنسانية التي تقدمها للشعوب المنكوبة.

وما يؤسف له استخدام بعض الدول الأزمات الإنسانية واستغلال الفئات ذات الحاجة الماسة للمساعدات من أجل إضعاف الأعداء أو تقوية الحلفاء وذلك من خلال التلاعب في طريقة الاستخدام المباشر للمساعدات الإنسانية لتحقيق أهداف عسكرية، مثل ما قامت به وكالة المخابرات الأمريكية CIA في عام 2011 عندما قامت بحملة تطعيم مزيفة في باكستان من خلال منظمة غير حكومية كان القصد منها إجراء فحص للحمض النووي للمستفيدين لغرض الوصول إلى موقع تواجد أسامة بن لادن، وفي أثناء الغزو الأميركي لأفغانستان، تم توزيع المساعدات الإنسانية كجزء من حملة لاستمالة القلوب والعقول لكسب دعم السكان للقوات الأميركية على الأرض، وفي ظلّ إدارة أوباما، تطوّرت السياسة من محاولة كسب الدعم للقوات الأميركية إلى كسبه للحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة، من خلال تمويل الجهات الفاعلة الإنسانية والإنمائية للعمل تحت إشراف الحكومة الأفغانية.

إن العمل وفق ما يسمى بسياسة (التضامن) أصبح جزءا لا يتجزأ من الدبلوماسية الإنسانية، فخلال مرحلة تفشي وباء كورونا 19 سعت بعض القوى الدولية إلى تقديم الدعم للدول التي تفشى فيها الفيروس بصورة كبيرة، عبر تقديم المساعدات الطبية والدوائية، في الوقت الذي تخلت فيه عنها الدول الأخرى، مثل ما قامت به الحكومة الروسية عندما أعلنت عن استعدادها لتقديم الدعم لإيران، في مواجهة انتشار وباء كورونا، خاصة مع امتداد نطاق المرض إلى كافة الأقاليم الإيرانية، وعلى الرغم من أن سياسة (التضامن) التي تعكس أهدافا إنسانية، إلا أنها تحمل في طياتها غايات وأهداف سياسية، في ظل مقارنة المواقف الدولية تجاه الأزمة، ففي الوقت الذي طغت فيه الحالة العدائية بين الولايات المتحدة من جانب، وكلاً من الصين وإيران من جانب آخر، في التعامل مع تفشي الفيروس، فقد نجحت الحكومة الروسية في توطيد تحالفها معهما، وهو ما يسهم بصورة كبيرة في زيادة النفوذ الروسي في آسيا، وبالتالي مزاحمة النفوذ الأمريكي المتنامي هناك.

ومن الممكن القول، بأن فكرة التضامن الدولي في أوقات الأزمات الإنسانية مثل أزمة كوباء كورونا، تمثل مدخلاً مهما لتعزيز التعاون الدولي، ليس في المجال الإنساني فقط، بل في مجالات أخرى كالجانب الصحي، عبر تبادل الخبرات بين الدول في مجابهة المرض، وفي الوقت نفسه سعت بعض الدول الفاعلة إلى استغلال المساعدات الإنسانية لتعزيز نفوذها الدولي، في ظل نظام عالمي جديد بدأت تتشكل ملامحه، لا يقتصر على قطب واحد، كما هو الحال منذ نهاية الحرب الباردة، والتي وضعت الولايات المتحدة منفردة على قمة النظام الدولي، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، لذلك أصبحت الأزمات الإنسانية بمثابة فرصة مهمة للعديد من الدول لأخذ زمام المبادرة والتفاعل مع الحاجات الإنسانية  في العديد من مناطق العالم والاستفادة من ذلك لكسب ود الشعوب خاصة مع تصاعد دور الجماهير في تشكيل الوجهات الدبلوماسية للحكومات.

إن التجارب في ميدان تقديم المساعدات الإنسانية أثبتت بما لا يقبل الشكّ أن الدبلوماسية الإنسانية قد تم تقديمها بطريقتين: الأولى قامت بها المنظمات الإنسانية لغايات وأهداف نبيلة وذات بعد إنساني حقيقي، والثانية انتهجتها الدول القوية بقصد استغلالها سياسيا وتوظيفها بما يخدم خططها الهادفة إلى مدّ النفوذ في مناطق معينة من العالم، وهذا ما زعزع الثقة بالعمل الإنساني ودفع بعض الدول إلى رفض المساعدات الإنسانية التي تقدمها حكومات معينة خوفاً من وجود نوايا سياسية تختفي وراءها.

 

رابط المصدر:

http://www.mcsr.net/news648

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M