في ظلال المعارك التي دخلت عامها الأول في أوكرانيا، باتت الروابط التي تربط فعاليات وتداعيات هذه الأزمة بملفات دولية أخرى أوضح مما كانت عليه في السابق، بشكل يمكن من خلاله القول إن القذيفة أو الصاروخ الذي يتم إطلاقه في جنوب أو شرق أوكرانيا يُسمع صداه في نطاقات جغرافية أخرى حول العالم، على رأسها بحر الصين الجنوبي ومحيط جزيرة تايوان، وهي الساحة التي تشهد خلال السنوات الأخيرة ملامح سباق تسلح نوعي، انخرطت فيه حتى الآن العديد من الدول التي ظل بعضها لعقود خاضعًا لقيود داخلية وخارجية تتعلق بحجم التسليح ونوعه، مثل اليابان.
تبقى تايوان في هذا الإطار بمثابة حالة شديدة الخصوصية؛ بحكم قربها الشديد على المستوى الجغرافي من الأراضي الصينية، واستمرار حالة التوجس المستمرة من جانب السلطات التايوانية من النوايا -المعلنة أحيانًا- من جانب جمهورية الصين الشعبية لإعادة ضم تايوان، التي تعرف أيضًا باسم “جمهورية الصين” أو “تايبيه الصينية”. علاقات الأخيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية على كافة المستويات وعلى المستوى العسكري بشكل خاص كانت دومًا مبعثًا للتوتر بين بكين وواشنطن، حيث ترى الأولى في هذه العلاقات تدخلًا أمريكيًا سلبيًا في المجال الحيوي الصيني، في حين تحاول الثانية انتهاز الفرص المتاحة للحيلولة دون تحرك صيني متوقع لفرض أمر واقع جديد في تايوان.
بطبيعة الحال، تزايدت خلال السنوات الأخيرة مخاوف تايبيه وواشنطن من إمكانية حدوث هذا، خاصة بعد العملية الخاطفة التي ضمت فيها موسكو شبه جزيرة القرم، ثم “الوثبة العسكرية” الحالية للجيش الروسي في جنوب وشرق أوكرانيا، والتي تضمنت ضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى الاتحاد الروسي.
من هذا المنطلق يمكن فهم تأثيرات التغيرات الحادثة حاليًا في شرق أوروبا على الوضع في النطاق التايواني، وهي لا تقتصر فقط على تعزيز فرضية “الهجوم الصيني المرتقب” على الجزيرة، بل تشمل أيضًا ملف التسليح الأمريكي للجيش التايواني، حيث شاب هذا الملف تضارب واضح في التوجهات، بين رغبة أمريكية وتايوانية في توسيع الهامش النوعي فيما يتم تقديمه من أسلحة إلى تايبيه، وبين معوقات لوجيستية وأخرى استراتيجية لتحقيق هذا الهدف، تتراوح بين الخشية من استفزاز بكين، وبين عدم القدرة على توريد أنواع معينة من الأسلحة، بسبب حاجة الجيش الأوكراني لها في التوقيت الحالي.
في ضوء هذا الوضع، جاء إعلان وزارة الدفاع الأمريكية أوائل الشهر الجاري عن تصديقها على صفقة لبيع ذخائر جوية لصالح سلاح الجو التايواني، بقيمة 619 مليون دولار، تشمل نحو مئة صاروخ مضاد للإشعاع الراداري من نوع “AGM-88B” المعروف باسم “هارم” ومئتي صاروخ للاشتباك الجوي متوسط المدى من نوع “AIM-120C” المعروف باسم “إمرام”، بجانب أنظمة قتالية أخرى تشمل صواريخ للتدريب الجوي.
صواريخ “هارم” في أوكرانيا
من حيث الشكل، تعد هذه الصفقة التاسعة من نوعها في عهد الإدارة الأمريكية الحالية، أما على مستوى المضمون فرغم أن عدد الصواريخ الذي تتضمنه الصفقة ليس كبيرًا فإنه على المستوى النوعي يمكن ملاحظة نقطة مهمة تتعلق بحقيقة أن صواريخ “هارم” وصواريخ “إمرام” تعد من أنواع الصواريخ الجوية التي تتزود بها حاليًا أوكرانيا، فالنوع الأول، الذي يتخصص في عمليات إحباط الدفاعات الجوية المعادية -التي تعرف باسم “SEAD”- زودت به الولايات المتحدة الأمريكية سلاح الجو الأوكراني بداية من أغسطس الماضي، وتم دمجه بنجاح على المقاتلات الأوكرانية ذات المنشأ الشرقي مثل “ميج-29″ و”سوخوي-27”.
في حين تزودت أوكرانيا بالنوع الثاني من دول مثل بلجيكا والمملكة المتحدة، ولكن كانت النسخة التي حصلت عليها من هذا النوع هي النسخة المطلقة من الأرض، وتحديدًا تلك الخاصة بمنظومات الدفاع الجوي متوسطة المدى “ناسامز”، التي تصنعها بشكل مشترك كل من النرويج والولايات المتحدة الأمريكية، وتم تزويد الجيش الأوكراني بها للمرة الأولى في أكتوبر الماضي.
اللافت للنظر في هذا الصدد هو حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية شرعت في هذا التوقيت في تزويد الجيش التايواني بكلا النوعين، رغم أن الجيش الأوكراني سيحتاج بالقطع لهذه الصواريخ في المدى المنظور، ناهيك عن أن الصفقة الأولى التي تم الإعلان عنها في أغسطس 2021 بين واشنطن وتايبيه خلال حقبة الإدارة الأمريكية بقيمة 750 مليون دولار تم إلغاؤها لاحقًا بسبب حاجة الجيش الأوكراني لما تضمنته هذه الصفقة من أسلحة، وعلى رأسها نحو 40 مدفع هاوتزر ذاتي الحركة من نوع “M-109” النسخة “A6-Paladin”، ونحو 1700 حزمة توجيه بالأقمار الصناعية خاصة بذخائر هذه المدافع.
ما سبق يطرح بشكل كبير تساؤلات حول دلالات توقيت ومضمون الصفقة العسكرية التي تم إعلانها منذ أيام بين الولايات المتحدة وتايوان.
الصفقات العسكرية… أداة للمناكفة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين
الاختراقات الصينية لمنطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية
تعمل الولايات المتحدة الأمريكية منذ إقرار قانون “العلاقات مع تايوان” عام 1979 على تزويد تايبيه بأسلحة دفاعية تمكنها من امتلاك قدرات كافية للدفاع عن أراضيها، وهو ما كان سببًا أساسيًا في تجدد الجدل والتوتر بشكل شبه دوري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، مع كل إعلان عن توقيع صفقات عسكرية جديدة لصالح تايوان.
بات ملحوظًا أن الولايات المتحدة ما بين الفينة والأخرى تقوم بتسريب معلومات إلى الصحافة حول تفاصيل صفقات عسكرية محتملة بينها وبين تايوان، وذلك قبل أشهر عديدة من التوقيع الفعلي على هذه الصفقات، وفي بعض الأحيان يتم تأجيل عقدها أو تجميدها. خلال حقبة الإدارة الأمريكية السابقة، كان هذا النهج ملحوظًا بشكل كبير، ومن أمثلة ذلك الإعلان في سبتمبر 2020 عن احتمالية توقيع تايبيه وواشنطن سبعة صفقات تسليحية كبيرة، تشمل شراء الطائرات الهجومية المسيرة “MQ-9 Reaper”، وهو ما لم يتم تنفيذه فعليًا، حيث لم يتم توقيع سوى ثلاثة عقود فقط، بلغت قيمتها الإجمالية سبعة مليارات دولار.
لم تتضمن هذه الصفقات طائرات مقاتلة بدون طيار، لكنها حملت ملامح نوعية مهمة يمكن من خلالها اعتبار هذه الصفقات بمثابة نقطة تحول أساسية في ذهنية واشنطن لتسليح تايوان، بحيث يغلب الطابع الهجومي على معظم المنظومات التي تسلمتها تايبيه من ذلك التاريخ، بجانب أن هذه الذهنية تضمنت أيضًا توسيع قاعدة الخيارات الهجومية لتصبح شاملة للوسائط البرية والجوية والبحرية.
صفقات هذه الفترة لوحظ فيها تركيز واشنطن على رفع وتيرة التسليح الجوي التايواني، حيث شملت الصفقات الثلاث نحو 50 صاروخًا مضادًا للإشعاع من نوع “هارم”، بجانب صاروخ يعد من أهم الصواريخ التي نقلت التسليح الجوي التايواني إلى مستويات نوعية ألا وهو الصاروخ الجوال “AGM-85H”، حيث تضمنت هذه الصفقات حصول الجيش التايواني على 135 صاروخًا من هذا النوع أعطت للقوة الجوية التايوانية القدرة على الاستهداف الدقيق لمواقع محددة داخل الأراضي الصينية دون الاضطرار إلى الوجود الفعلي في المجال الجوي الصيني، حيث يبلغ مدى الصاروخ الواحد من هذا النوع بين 270 و300 كيلو متر، وهي قدرة لم تكن متوفرة سابقًا لسلاح الجو التايواني.
حفل تسليم أولى مقاتلات “إف-16” التايوانية المحدثة
عام 2020 شهد أيضًا تطورًا مهمًا فيما يتعلق بسلاح الجو التايواني، تمثل في الإعلان في شهر أغسطس بشكل رسمي عن تعاقده مع الولايات المتحدة الأمريكية على شراء 66 مقاتلة من نوع “F-16″من النسخة الأحدث المسماة “BLOCK-70 VIBER”، وهي صفقة وإن كان قد تم الإعلان عنها عام 2020 فإن التوقيع عليها عمليًا كان عام 2019.
بلغت قيمة هذه الصفقة الإجمالية نحو 62 مليار دولار، وتم بموازاتها توقيع اتفاقية أخرى لتحديث الأسطول العامل في سلاح الجو التايواني من مقاتلات “F-16″، الذي يبلغ 142 مقاتلة، بقيمة تصل إلى خمسة مليارات دولار، ضمن برنامج لتحديث هذه المقاتلات تمت تسميته “Phoenix Rising”، يشمل تغيير الرادارات الخاصة بالمقاتلات العاملة في الخدمة ليصبح من فئة رادارات مصفوفة المسح الإلكتروني النشط “AESA”.
وقد دخلت أولى الطائرات المحدثة إلى الخدمة مرة أخرى في سلاح الجو التايواني في نوفمبر 2021، علمًا بأن تايبيه تمارس منذ فترة ضغوطًا جدية على واشنطن كي تسرع تسليمها المقاتلات الـ 66 الجديدة، حيث كان من المفترض أن تتسلم اول دفعة من هذه المقاتلات العام الجاري، لكن يتوقع ان تتأخر عمليات التسليم نتيجة للتعقيدات المالية واللوجيستية التي نتجت عن الحرب في أوكرانيا ومن قبلها جائحة كورونا.
صفقات عام 2020 تضمنت أيضًا تزود الجيش التايواني للمرة الأولى بإحدى عشرة قاذفة لمنظومة الصواريخ التكتيكية “HIMARS”، وهو ما وفر للقوة البرية التايوانية القدرة على استهداف الأراضي الصينية، خاصة أنه تبين لاحقًا مدى نجاعة هذه المنظومة الصاروخية خلال المعارك في أوكرانيا، وبالتالي كانت هذه الصفقات بمثابة “توسيع للخيارات” الهجومية المتاحة للجيش التايواني.
مقاتلات “إف-16” التايوانية حاملة صواريخ “هاربون”
شهد العام التالي -2021- تطورًا مهمًا على المستوى البحري، يتعلق بدخول النسخة الساحلية من الصواريخ المضادة للقطع البحرية “Harpoon” ضمن القدرات المتوفرة لدى جيش تايوان فيما يتعلق بالدفاع البحري والساحلي. امتلكت تايوان منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي صواريخ “Harpoon” البحرية بنسختين الأولى كانت مخصصة للإطلاق من على متن القطع البحرية، والأخرى كانت مخصصة للعمل من على متن مقاتلات “F-16”.
لكن النقلة النوعية تمثلت في امتلاكها في سبتمبر 2021 منظومات “HCDS” المخصصة لإطلاق صواريخ “Harpoon” من الساحل نحو القطع البحرية المعادية، وهو ما مثل إكمالًا لمنظومة الدفاع الساحلية التايوانية، خاصة في ظل بدء مقاتلات سلاح الجو التايواني منذ منتصف عام 2019 في تسيير دوريات جوية حاملة لهذا النوع من الصواريخ.
جدير بالذكر أن تايوان تلقت دفعة جديدة من الصواريخ الخاصة بالنسخة البرية من منظومة “Harpoon” العام الماضي ضمن صفقة بلغت قيمتها الإجمالية 355 مليون دولار، تضمنت 60 صاروخًا من هذا النوع، ومئة صاروخ للاشتباك الجوي قصير المدى، تم توقيعها بعد شهر واحد من الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان.
يعتمد التكتيك العسكري لوحدات الدفاع الجوي التايواني على استخدام سلاح الجو ووحدات الدفاع الجوي في آن للتصدي للتهديدات الجوية المعادية. وعلى الرغم من الاهتمام المكثف من جانب تايبيه بسلاح الجو فإن وحدات الدفاع الجوي نالها نصيب من الصفقات العسكرية بينها وبين واشنطن؛ ففي يناير من العام الماضي، أعلنت وزارة الدفاع التايوانية عن عزمها خلال الأعوام المقبلة شراء بطاريات إضافية من منظومة الدفاع الجوي الأمريكية “Patriot PAC-3″، لتنضم إلى سبعة بطاريات من هذه المنظومة، حصلت عليها بين عامي 2010 و2015. كذلك حصلت تايوان بين عامي 1998 و2020 على دفعات متعددة من الصواريخ المحمولة على الكتف المضادة للطائرات “Stinger”، ومازالت تنتظر تسلم كميات إضافية منها.
هنا يظهر مرة أخرى تأثير الحرب في أوكرانيا على الإمدادات العسكرية الخاصة بتايوان، حيث تأخرت الولايات المتحدة في تنفيذ صفقة تم توقيعها عام 2019 لبيع 250 صاروخًا من هذا النوع إلى تايوان، وتزايدت وطأة هذا التأخير نتيجة لبدء العمليات في أوكرانيا، واضطرار الولايات المتحدة لإرسال كميات من هذا الصواريخ إلى الجيش الأوكراني. يمكن أيضًا تطبيق نفس هذا الوضع على بطاريات “Patriot” التي لا يتوقع أن يتم تلبية طلبات تايوان بشأنها في المدى المنظور؛ لنفس الأسباب السالف ذكرها.
سلاح الجو الصيني من جانبه يحاول منذ أواخر عام 2020 تحديد حجم التغيرات التي طرأت على سرعة استجابة المقاتلات التابعة لسلاح الجو التايواني، وعلى التغطية الرادارية وقدرات القيادة والسيطرة الخاصة بوحدات الدفاع الجوي في تايوان، لذا يقوم بشكل شبه دوري بتنفيذ عمليات اختراق جماعية لمنطقة تحديد الدفاع الجوي التابعة لتايوان، وتحديدًا الطرف الجنوبي الغربي من هذه المنطقة.
خريطة توضح نمط الاختراقات الجوية الصينية لمنطقة الدفاع الجوي حول تايوان
تزايد حجم ونطاق هذه الاختراقات خلال الأعوام التالية لدرجة أن عام 2022 شهد اختراق ما مجموعه 1737 طائرة تابعة لسلاح الجو الصيني لهذه المنطقة، وهو عدد أكبر من العدد الذي تم رصده خلال الفترة بين عامي 2019 و2021.
الجانب السياسي في هذه الاختراقات كان ملحوظًا بطبيعة الحال، حيث تم استخدامها كوسيلة للرد على أي إعلان عن صفقات تسليحية جديدة بين تايوان والولايات المتحدة الأمريكية، وكذا كرد آني على بعض التحركات الأمريكية مثل زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان عام 2022، ولعل أبرز وأحدث مثال على هذا النهج ما قامت به 47 طائرة عسكرية صينية متنوعة، في الخامس والعشرين من ديسمبر الماضي، حين اخترقت بشكل جماعي منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية، ردًا على رصد واشنطن مبلغ عشرة مليارات دولار لتحسين القدرات الدفاعية لتايوان.
برنامج الصواريخ التايواني، والرغبة في إكمال النقص التسليحي والاستراتيجي
عملت تايبيه -مثلها في ذلك مثل اليابان وكوريا الجنوبية- على التوسيع التدريجي لقدراتها الصناعية على المستوى العسكري؛ بهدف سد الثغرات التسليحية الناتجة عن عدم قدرتها في بعض الأحيان على الحصول على الأنظمة النوعية التي تحتاجها من الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة حسابات جيوسياسية واستراتيجية معينة تحكم العلاقة بين واشنطن وبكين.
هذا الواقع الذي اتسمت به البيئة الاستراتيجية المحيطة بتايوان دفع تايبيه إلى العمل على التصنيع المحلي لبعض المنظومات العسكرية التي تحتاجها لسد النقص في تسليح قواتها المسلحة، خاصة فيما يتعلق بالدفاع الجوي، وكذلك العمل قدر الإمكان على امتلاك قدرات صاروخية تسمح للجيش التايواني بتقليص الفوارق الكمية والنوعية بين تسليحه والقدرات العسكرية الصينية.
هذه الاستراتيجية عملت تايبيه على تطويرها بشكل دوري من خلال مراجعة دفاعية يتم إجراؤها كل أربعة أعوام منذ عام 2009، ومن خلالها اتضح لصانع القرار في تايبيه أن تايوان أصبحت على مدار العقود الماضية مقيدة بعدة قيود فيما يتعلق بتسليحها، أهمها هو حقيقة أنها تعتمد بشكل شبه كامل على واشنطن لتلبية متطلباتها في ما يتعلق بهذا الأمر، وهي استجابة تكون بشكل رئيس متعلقة فقط بالأسلحة الدفاعية، بجانب أن معظم الدول الرئيسة في مجال تطوير التقنيات القتالية، تتفادى عرض منتجاتها على تايوان؛ منعًا لاستفزاز بكين.
هذا الواقع اتضح بشكل أكبر للعلن عام 2020 بعد أن تم الكشف عن وثائق تتحدث عن التعهدات التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان للصين في سياق البيان المشترك الذي أعلنه الجانبان في أغسطس 1982، وكان مفادها أن نوعية الأسلحة التي سيتم تصديرها من الولايات المتحدة إلى تايوان لن تكون هجومية، بل ستقتصر على المنظومات الدفاعية فقط.
عمليًا بدأت تايبيه في ثمانينيات القرن الماضي في بحث إمكانية امتلاك برنامج صاروخي متنوع محلي الصنع، وهو البرنامج الذي حققت خلاله تايوان نجاحات معتبرة رغم مصاعب فنية ولوجيستية عديدة واجهتها خلال مراحل تطويره. تولى مهمة التطوير والإنتاج في برنامج الصواريخ التايواني، معهد “تشونغ شان” للعلوم والتكنولوجيا، وكان محور هذا البرنامج في البداية يتعلق بالصواريخ البحرية المضادة للسفن، حيث أسس المعهد سلسلة صواريخ “Hsiung Feng” كأول سلسلة صاروخية محلية الصنع، وانتجت النسخة الأولى منها تحت اسم “Hsiung Feng-1” بناء على التصميمات الخاصة بصواريخ “جابريال” الإسرائيلية، وبلغ مدى هذه النسخة نحو 40 كيلو مترًا، وزودت برأس حربي بلغت زنته 200 كيلو جرام، وتم اختبارها للمرة الأولى عام 1977، ودخلت إلى الخدمة الفعلية عام 1980، وظلت حتى عام 2012 بمثابة التسليح الرئيسي للمدمرات التايوانية من الفئة “Yang”.
حاولت تايوان خلال فترة الثمانينيات الحصول على صواريخ “Harpoon” البحرية من الولايات المتحدة الأمريكية، لكن لم تنجح هذه المحاولات حينها، فأكملت تايبيه العمل على برنامجها الصاروخي، وأنتجت صاروخ “Hsiung Feng-2” العامل بالوقود الصلب، وقد وصل مداه الأقصى إلى 120 كيلو مترًا، واحتوى على رأس حربي بلغت زنته 225 كيلو جرام.
عمليات تطوير هذه النسخة بدأت عام 1983، وتمت تجربتها للمرة الأولى عام 1998، ومن ثم تم إنتاجها كميًا بحيث تتوفر إمكانيات إطلاقها من على متن المقاتلات والفرقاطات وكذلك من منصات أرضية، وقد عملت تايبيه على تطوير منصات إطلاق هذا الصاروخ لتصبح ذاتية الحركة، لكنها أوقفت هذا المسعى بعد أن حصلت خلال تسعينيات القرن الماضي على صواريخ “Harpoon”.
استمرت تايبيه في تطوير هذه السلسلة من الصواريخ فأنتجت نسخة أطلقت عليها اسم “Hsiung Feng-2E”، والتي تعد من اهم أنواع الصواريخ البحرية التايوانية؛ نظرًا إلى عاملين أساسيين: الأول هو امتلاكها قدرات مهمة على ضرب أهداف برية، والثاني هو المدى الكبير لهذه النسخة والذي يتراوح بين 600 و1200 كيلو متر. وهي تشابه إلى حد بعيد صواريخ “توماهوك” الأمريكية الجوالة.
بدأ تطوير هذه النسخة عام 2001، ودخلت إلى الخدمة بحلول عام 2011، وحينها برزت خلافات بين تايوان والولايات المتحدة الأمريكية، حيث اعترضت الأخيرة على مبدأ امتلاك تايوان صواريخ ذات مدى كبير مثل هذه النسخة، لكنها تراجعت في النهاية عن هذا الموقف، خاصة أن منشأ عدد كبير من مكونات هذه النسخة كان الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأ النشر الكمي لهذا النوع من الصواريخ في الجيش التايواني عام 2018، وتم تكثيف الاختبارات الميدانية على هذه النسخة منذ ديسمبر 2020، علمًا بأن آخر هذه الاختبارات قد تم في فبراير الماضي من قاعدة عسكرية في منطقة “بينغتونغ” جنوب تايوان، وقد تم في هذا الاختبار إطلاق النسخة الممتدة المدى من هذا النوع، والتي يبلغ مداها 1200 كيلو متر، وتستطيع الوصول إلى مدن صينية رئيسة مثل “ووهان” و”شانغهاي” و”نانجينج”.
لم تقتصر الخطوات التايوانية في المجال الصاروخي على هذا، فقد دخلت تايبيه مجال الصواريخ الجوالة الفرط صوتية عبر النسخة الثالثة من صواريخ هذه السلسلة والتي تمت تسميتها “Hsiung Feng-3”. يتراوح مدى هذا النوع بين 120 و400 كيلو متر، وبدأ تطويره أواخر تسعينيات القرن الماضي، ودخل إلى الخدمة الفعلية عام 2011. في بداية تطويره لم يكن مداه يتجاوز 120 كيلو مترًا، لكنه خضع عام 2017 لبرنامج تطوير بهدف زيادة مداه، ليصل إلى 400 كيلو متر، وهو حاليًا التسليح الأساسي لفرقاطات سلاح البحرية التايواني من الفئات “KUNG” و”CHENG” و”TUO-CHIANG” و”JIN-CHIANG”.
فيما يتعلق بالصواريخ الباليستية قصيرة المدى، كانت خطوات تايوان أقل وتيرة، حيث اقتصرت جهودها في هذا الصدد على نوع واحد وهو الصاروخ الباليستي قصير المدى “Tien Chi” الذي يعد أول صاروخ باليستي محلي الصنع في تايوان. كان هذا الصاروخ عاملًا بالوقود الصلب على مرحلتين، وتم اختباره للمرة الأولى عام 1997، ودخل الخدمة بشكل فعلي عام 2001، وبلغ مداه الأقصى 120 كيلو مترًا وهو مدى لم يكن كافيًا لبلوغ الأراضي الصينية، لكن ظلت إمكانية حدوث هذا قائمة في حالة ما إذا تم إطلاق هذا النوع من الصواريخ من الجزر القريبة من الساحل الصيني، علمًا بأن هذا النوع كان مخصصًا للإطلاق من صوامع تحت أرضية، وتراوحت زنة رأسه الحربي بين 100 و200 كيلو جرام.
خلال السنوات الأخيرة، حاولت تايبيه توسيع هامش المناورة المتاح لها فيما يتعلق بالقوة الصاروخية، وكانت محاولاتها هذه تسير على مسارين: الأول حاولت فيه الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لتزودها بصواريخ جوالة بعيدة المدى مثل صواريخ “AGM-158” التي تنتجها شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية وطلبتها تايوان بشكل رسمي من واشنطن في أكتوبر 2021 وخصصت من اجل ذلك نحو مليار دولار، لكن لم تتجاوب واشنطن مع هذا الطلب.
الصاروخ الجوال “Yung Feng”
أما المسار الثاني فكان يستهدف زيادة مدى القدرات الصاروخية المتوفرة لدى تايوان، عن طريق التصنيع المحلي، وهو ما أسفر عن تطوير نوعين من أنواع الصواريخ الجوالة، إحداها هو الصاروخ الجوال “Wan-Chien” الذي بدأ تطويره عام 2005، بهدف إيجاد منصة جوية يمكن من خلالها إطلاق الصواريخ الجوالة نحو العمق الصيني، لمسافات تصل إلى 240 كيلو متر، وقد دخل هذا النوع من الصواريخ في الخدمة الفعلية عام 2011.
النوع الثاني -الأهم- ضمن ترسانة الصواريخ التايوانية هو الصاروخ الجوال “Yun Feng”، وهو صاروخ أسرع من الصوت، يتراوح مداه الأقصى بين 1200 و2000 كيلو متر، ويعد حاليًا الصاروخ الأكبر مدى في التسليح التايواني، حيث بدأ تطويره عام 1996، ودخل إلى الخدمة الفعلية عام 2014، وتمتلك النسخة ذات المدى الممتد منه القدرة على الوصول إلى العاصمة الصينية بكين ومدن أخرى في وسط الصين مثل مدينة “تشنغدو”. نجاح تجارب هذا الصاروخ أغرى السلطات التايوانية عام 2018 كي تخصص نحو 13 مليار دولار لصالح مشروع يستهدف تحديث هذا الصاروخ، بحيث يتم إنتاج نسخة أبعد مدى منه تستطيع حمل وإطلاق الأقمار الصناعية.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن وزارة الدفاع التايوانية قد كشفت أواخر العام الماضي، وتحديدًا في شهر نوفمبر، عن برنامج عسكري كبير لتصنيع الطائرات المسيرة، يشمل تصنيع ذخائر جوالة من نوع “Jian-Xiang”، يمكن إطلاقها بشكل جماعي من منصات محملة على شاحنات، وأشارت الوزارة حينها إلى أن هذا البرنامج قد بدأ في مرحلة مبكرة من العقد الماضي، وأن هذه الذخائر تستطيع التحليق بشكل مستمر لمدة خمس ساعات، ويصل مداها إلى 1000 كيلو متر. كذلك عرضت الوزارة حينها عدة أنواع أخرى من الطائرات المسيرة الاستطلاعية، من بينها الطائرة “تينغ يون”، التي تشابه في تصميمها إلى حد كبير الطائرة الأمريكية “MQ-9 Reaper”.
خلاصة القول، إن الصفقة التسليحية الأخيرة بين تايوان والولايات المتحدة الأمريكية تحمل ملامح رهان أمريكي مستمر منذ فترة على تعزيز القدرات الجوية التايوانية، وهو رهان لم يتأثر على ما يبدو بالتزامات الولايات المتحدة -في ما يتعلق بالذخائر- تجاه كييف. الأكيد أن واشنطن تحاول في تايوان تصحيح بعض الأخطاء التي تسبب فيها تباطؤ دعمها للجيش الأوكراني على المستوى التسليحي والتدريبي. هذا ربما يمكن قراءته حيال إعلان تايوان الشهر الجاري عن اعتزامها إرسال ما لا يقل عن 500 جندي من لواء المشاة الميكانيكي 333 ولواء المدرعات 542 إلى الولايات المتحدة في وقت لاحق من العام الجاري؛ للتدريب على تكتيكات قتال الأسلحة المشتركة. في جانب آخر، تبدو تايبيه في مسار التحرر بشكل أكبر من أية قيود سياسية أو لوجيستية فيما يتعلق بقدراتها الصاروخية؛ لتشكل بجانب كوريا الجنوبية واليابان نقاط ارتكاز مهمة للقوة الصاروخية المحيطة بالصين، يمكن خلال المدى المنظور أن تشكل -على الأقل- تحديًا مهمًا لا يمكن تجاهله.
.
رابط المصدر: