الدولةُ ظاهرةٌ أنتجها الإنسان

الدولةُ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ مركّبةٌ، إنها أهمُّ وأعمقُ وأعقدُ مؤسّسةٍ ابتكرها الإنسان، فقد احتاجتِ البشريةُ، من خلال مسيرتِها الطويلة في تاريخها، إلى آلافِ التجارب الفاشلة حتى استطاعتْ أن تبتكرَ ظاهرةَ الدولة، ولم تولد هذه الظاهرةُ ناجزةً كاملةً نهائية، بل كانت وما زالت، مثلَ أيّ ظاهرةٍ اجتماعية مشتقةً من احتياجات البشر…

العائلةُ ظاهرةٌ بشرية، وهي أولُ مؤسّسة مجتمعية أنتجها الإنسانُ، تلبيةً لضرورات فرضتْها طبيعةُ حياته على الأرض. وتأسّستْ العائلةُ على صلاتٍ عاطفية وقيمٍ أخلاقية ومبادئ قانونية، يتحقق في إطارها تأمينُ الحاجات المادية والنفسية والمعنوية، وتنظيمُ العلاقات بين أفرادها في ما يخصّ العملَ والإنتاجَ والتوزيع، وحلَّ النزاعات، وردعَ الظلم. وما زالت أجملَ كيان إنساني ابتكره الكائنُ البشري، وأرقَّ حضن يحتضنه ويؤمّن له الحمايةَ والأمن. لا تقوم أيّةُ عائلة بفرد واحد، ولا تستمر بنيابة فردٍ عن الكلّ في كلّ شيء.

وكما أنتج الإنسانُ العائلةَ تلبيةً لضرورات فرضتْها طبيعةُ حياته على الأرض، كذلك أنتج الإنسانُ الدولةَ تلبيةً لضرورات فرضتْها طبيعةُ حياته على الأرض. بعد أن بلغَ نضجُ الإنسان الذهني وثقافتُه مرحلةً متقدّمة، وتشعّبتْ علاقاتُه الاجتماعية وتشابكتْ وتعقّدتْ، وتطوّرتْ وتنوعت وسائلُ وأنماطُ إنتاجه، وتراكمَ رأسُ ماله، وازدادتْ ثرواتُه المادية والرمزية، اخترعَ الإنسانُ وقتئذ الدولةَ، بوصفها مؤسسةً تكفل احتكارَ العنف، على وفق تفسير ماكس فيبر، وتعمل على حمايةِ الأفراد والمجتمع من الظلم والتعسّف في استعمال الحق، وتعيد تنظيمَ شبكات العلاقات الاجتماعية وحمايتَها بما يرسّخُ بنيةَ المجتمعِ وأمنه، وتسهمُ في إدارةِ الثروات، وتنميةِ الإنتاج، وتضمن التوزيعَ العادلَ للثروة، وترسمُ خططًا للتنمية الشاملة، وتبتكرُ برامجَ للتطوير.

الدولةُ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ مركّبةٌ، إنها أهمُّ وأعمقُ وأعقدُ مؤسّسةٍ ابتكرها الإنسان، فقد احتاجتِ البشريةُ، من خلال مسيرتِها الطويلة في تاريخها، إلى آلافِ التجارب الفاشلة حتى استطاعتْ أن تبتكرَ ظاهرةَ الدولة، ولم تولد هذه الظاهرةُ ناجزةً كاملةً نهائية، بل كانت وما زالت، مثلَ أيّ ظاهرةٍ اجتماعية مشتقةً من احتياجات البشر، تتوالد وتتكيّف وتترسّخ؛ تبعًا لنمطِ الاجتماع البشري ورتبتِه في سلّم التطوّر الحضاري.

لبثتِ الدولة يُعاد إنتاجُها وتتطوّر من خلال نموِّ معارفِ البشر واتساعِها، وتنوّع تجاربِ المجتمعات، وتراكمِ الخبرات، عبر التغلب على الثغرات واكتشاف الأخطاء ، فمنذ ظهورِ الدويلات في الحضارات الأولى، مثل دولِ المدن في سومر وغيرها، تنامتِ الدولةُ وترسّختْ ببطء عموديًا وأفقيًا.

ومع كلِّ مرحلةٍ تضيف خبراتُ البشر ومعارفُهم قوانين وقيم ومفاهيم جديدةً لبناء الدولة، وتحذف أخرى لم تعد قادرةً على الوفاء بمتطلبات الواقعِ ومستجداتِه. ولم يصل الإنسانُ الى بناءِ الدولةِ الحديثة إلّا بعد مضيّ آلافِ السنين، من العبورِ المتواصلِ لأشكال للدولة تفشلُ في الصمودِ أمام تطوّر العلومِ والمعارف وتنوّع خبراتِ الحياةِ وثرائها، وتقدّمها على الدوام، فلا يعود إطارُ الدول القديم يتّسع لاستيعابِ كلّ ذلك التمدّد والنمو.

لذلك يبدع البشرُ في كلّ محطة نموذجَهم المتناغمَ مع إيقاع اجتماعِهم البشري، والرتبةِ التي بلغها تطوّرُهم الحضاري ونمطِ تمدّنهم، ولا يحسبون كلَّ محطة يصلون اليها خاتمةَ المطاف أو “نهايةَ التاريخ”، إنما هي حلقةٌ في مسارٍ متواصل لن يتوقف، ذلك أن مدياتِ وآفاقَ العقل البشري والخبراتِ التي تراكمها تجاربُ الإنسان لن تتوقف عند محطةٍ إلّا لتلتقطَ أنفاسَها وتعودَ للانطلاق من جديد إلى محطةٍ جديدة.

في عمود الزمان يتغيرُ كلُّ شيء، لا شيء نهائيًا ما دام لا زمان نهائيًا، لا شيء أخيرًا ما دام لا زمان أخيرًا، ففي التفكيرِ ليس هناك تفكيرٌ أخير، وفي الأسئلةِ ليس هناك سؤالٌ أخير، وفي الفكرِ ليس هناك رأيٌ أخير، وفي العلمِ ليست هناك نظريةٌ أخيرة، وفي الفلسفةِ ليس هناك مفهومٌ أخير، وفي الدينِ ليس هناك اجتهادٌ أخير، وفي السياسةِ ليس هناك موقفٌ أخير، وفي الدولةِ ليس هناك نمطُ دولةٍ أخير. ما دام هناك مجتمع بشري يعيش على الأرض فلا نهاية للتاريخ إلّا بنهاية الانسان، وتعطّل الحياة البشرية على الأرض بشكل كامل.

الدولةُ ظاهرةٌ حيّةٌ، تنمو وتتطورُ مفاهيمُها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوّعها عبر الزمان، وعندما نقرأ في هذا السياق مفهومَ الجماعات الدينية للدولةِ الحديثةِ نجده مفهومًا ثابتًا مبسّطًا، يتلفع غالبًا بإنشاء وشعاراتٍ، تتكلمُ لغةَ المشاعر المكبوتة، وتوقدُ العواطفَ المختبئة، وتهرب من الأسئلة الصعبة، وتلوذ بإجابات مسطحة على الأسئلة العميقة، وتفشل في تفكيك المشكلات المعقّدة، وتُفكّر في حلول خارج فضاء التحديات الصعبة الراهنة، ولا ترى الحاضر إلّا بعين الماضي.

مشكلةُ من يريد أن يبني دولةً حديثة في بلادنا أنه يفكّرُ داخلَ أسوار التراث والمعتقدات والهويات العرقية، بينما الدولةُ الحديثةُ لا تبتني على التراث والمعتقدات والهويات العرقية، وانما تبتني على المواطنة التي يُحدّدُ نصابَها الدستورُ، أي “المواطنة الدستورية” بمصطلح هابرماس.

والإنسانُ بوصفه مواطنًا هو الذي يحدّد هويةَ الدولة اليوم، ويتحكّمُ توصيفُ هويته بتوصيف هويتها، فكلّ تشريع وقرار وموقف يُتخذ في إطار توصيف مواطن ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للوطن، وكلّ ما لا ينتمي للوطن بوصفه وطنًا يُفترض ألا يكون مكوّنًا لماهية الدولة الحديثة.

الفرق بين نمط الوعي في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة، ونمط الوعي في مرحلة الدولة الحديثة: ان العقل اليوم هو عقل علمي، والعقل العلمي لم يعد خائفًا من أسرار الطبيعة، أي ان الانسان صار يقرأ كل شيء في الطبيعة بالعقل وحده من دون حاجة الى السماء، لأنه أدرك ان أسرار الطبيعة مودعة في قوانينها، وهكذا ادرك ان اسرار تدبير حياة الانسان في الارض مودعة في تفكيره وقدرته على صياغة القوانين والقيم التي تنظم حياته، وما تمنحه خبراته وتجاربه واكتشافاته لأفضل الوسائل في بناء الدولة، وأنجح النظم لإدارتها، وأحدث التنظيمات لبناء المؤسسات المجتمعية المتنوعة.

أما العقل غير العلمي القديم فيعتقد أن أسرار الطبيعة ألغاز مودعة حلولها في السماء، لذلك يشعر بالعجز عن تفسير أية ظاهرة فيحيل تفسيرها للسماء، كما يشعر بالعجز عن حل الكثير من المشاكل التي تواجهه في حياته الفردية والمجتمعية على الارض فيحيل حلها للسماء. قبل عصر العلم كانت أكثر قوانين الطبيعة تبدو للإنسان ألغازًا، لذلك كان عبدًا خاضعًا للطبيعة، بينما صار اليوم هو المستعبد للطبيعة والمُسخّر لقوانينها.

كان الحاكم فيما مضى ممثلًا للسماء، كما نلاحظ الملك حمورابي، الذي يظهر في أعلى مسلته، وهو يتلقى القوانين من إله الشمس، بينما صار الحاكمُ اليوم ممثلًا للشعب، ولم يعد ممثلًا للسماء. كانت السماءُ تخلع على الحاكم وأوامره وأحكامه وقوانينه، قدسية كقدسية الآلهة، وتكتسب شخصيةُ الحاكم كاريزما سماوية، وأوامره قوة الزام غيبية شديدة، لأن عصيانها عصيانٌ للسماء.

كان الحاكمُ لا يُسأل عما يفعل، مثلما لا تُسأل الآلهة عما تفعل، فعل الحاكم هو فعل الآلهة. لذلك كان الدين، الى ما قبل الدولة الحديثة، مكونًا أساسيًا لهوية الدولة ومنبعًا لمشروعية السلطة، بمعنى ان السلطة والدولة والمشروعية كان مصدرها السماء، أما في الدولة الحديثة فمصدرها الأرض، السلطة والدولة والمشروعية في الدولة الحديثة مستمدة من الإنسان، لأنه هو من أنتج هذه الدولة، ووضع كل نظمها قوانينها وبرامجها، وهو من يتولى تنفيذها وتقويمها وتصويبها.

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/38374

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M