يُعرف الردع في أكثر التعريفات تبسيطًا بأنه “امتلاك القوة والتهديد باستخدامها لثني الخصم عن القيام بعمل غير مرحب به”. وبمحاولة تطبيق هذه النظرية على المقاربة الغربية في الاستجابة لتقديراتها الاستخبارية التي تشير إلى عزم روسيا القيام بغزو أوكرانيا –سواء تقديرات الشهور الأخيرة أو تلك التي سبقت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014- نجد أن اختلالًا عميقًا شاب هذه المقاربة.
مقاربتان متضادتان
لوحت القوى الأوروبية والغربية –ولم تزل- بأنها لن تتهاون في الرد على أي هجوم روسي على أوكرانيا. بيد أن هذا التهديد الغربي لم يغادر مربع العقوبات القاسية التي تنتظر موسكو إذا ما أقدمت على غزو أوكرانيا، والتي بدأت بوادرها بعد اعتراف روسيا بالجمهوريتين الشعبيتين المنفصلتين عن إقليم دونباس شرق أوكرانيا (دونيتسك – لوهانسك).
وفي المقابل كان الرد الروسي حاسمًا بما يشير إلى إصرار على استخدام لغة القوة فقط في تحقيق ما تراه موسكو مصالحها الاستراتيجية لحماية أمنها القومي ومجالها الحيوي، مع التأكيد على استعدادها للتعامل مع أي رد غربي، وهو ما يظهر في توعد الرئيس الروسي في خطابه الذي أعلن فيه بدء العملية العسكرية في أوكرانيا برد فعل سريع وقوي وغير مسبوق في التاريخ ضد أي طرف يحاول التدخل في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
تتضح هنا مقاربتان متناقضتان تمامًا في التعامل مع الوضع؛ فروسيا لا ترى سوى لغة القوة التي أثبتت نجاحها بالنسبة لها في العديد من المواضع، ومنها التدخل العسكري في سوريا عام 2015، وقبله ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. أما الغرب فاعتمد لغة العقوبات كآلية أساسية للردع، ولا يمكن في هذا المقام إغفال تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن (23 يناير) بأن الغرض من العقوبات التي تلوح بها الولايات المتحدة ضد روسيا هو ردع العدوان الروسي، ومن ثم فتفعيل هذه العقوبات الآن سيقوض قدرة الغرب على ردع العدوان ويُفقد العقوبات التأثير الرادع.
وبناء على ذلك، تعاطت القوى الغربية مع الحشد العسكري الروسي الهائل على الحدود مع أوكرانيا -مع تأكيدها المتنامي لاحتمالات تحوله إلى غزو- عن طريق الردع بالعقاب من خلال التلويح بعقوبات قاسية تستهدف قطاعات اقتصادية واسعة وشخصيات كبيرة في روسيا. ذلك فضلًا عن هامش ضئيل من الردع بالرفض من خلال تقديم دعم عسكري محدود لأوكرانيا من عدة دول، وتعزيز القوات الغربية المتمركزة في دول الطوق الأوكراني، ولا سيّما بولندا ولاتفيا وإستونيا.
وبالفعل، في أعقاب بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بدأت الدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا، تمثلت في تجميد أصول روسية في الولايات المتحدة وفرض عقوبات على مئات الشخصيات والشركات والكيانات الروسية في عدة دول منهم وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، وتقييد وصول روسيا إلى السوق المالية الأوروبية، ومنع الشركات الأوروبية والأمريكية من أي تعاملات اقتصادية مع دونيتسك ولوهانسك، ومنع المستثمرين الأمريكيين من شراء السندات الروسية، وحظر تصدير بعض المنتجات التكنولوجية إلى روسيا. فضلًا عن القرار السابق بتعليق مشروع خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2.
خيارات محدودة
أظهرت استراتيجية الردع الغربية –سواء الردع بالرفض أو بالعقاب- أنها غير فعالة في منع روسيا من شن عملية عسكرية في أوكرانيا، وكذا في أن تكون بعد ذلك عاملًا يحد من رغبة روسيا –إن أرادت- في تطوير هجومها في أوكرانيا إلى هجوم شامل يهدف إلى إخضاع كامل البلاد لسيطرة موسكو.
ذلك لأن العقوبات التي فُرضت في أعقاب الغزو ليست ذات تأثير قوي على الاقتصاد الروسي الذي استطاع خلال السنوات الماضية تكوين احتياطي نقدي يُقدر بنحو 643 مليار دولار بما جعل المسؤولين الروس يقابلون هذه العقوبات باستهزاء بدا في تصريح مندوب روسيا لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف (24 فبراير) بأن “الحزمة الأولى من عقوبات الاتحاد الأوروبي بدت غريبة رغم الكثير من الصفات التي أطلقت عليها وأنها ستكون قاسية وواسعة وعميقة ومعوقة وجهنمية.. إلخ”.
ويرجع ذلك إلى الخيارات المحدودة أمام الغرب للتعامل مع الموقف، وذلك لعدة أسباب يأتي في مقدمتها ما يلي:
1 – التصميم الروسي، فقد رأت موسكو في الرغبة الأوكرانية بالانضمام إلى حلف الناتو وتوسع الحلف في دول الاتحاد السوفيتي السابق تهديدًا محدقًا بأمنها القومي ومجالها الحيوي الاستراتيجي، ولذلك فإن التصميم على درء هذه المخاطر يجعل موسكو على استعداد لتحمل كافة المخاطر التي ينطوي عليها شن عملية عسكرية في أوكرانيا طالما أنها تحقق مصالحها، بما يفوق قدرة الدول الغربية على تحقيق الردع. ذلك بجانب أن روسيا قد استطاعت بالفعل التعايش مع مجموعات كبيرة من العقوبات فُرضت عليها خلال السنوات الماضية.
2 – الحلف المضاد: سبقت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تحركات روسية على أكثر من صعيد عززت من تحالفاتها من جانب، وأرسلت رسائل استراتيجية من جانب آخر؛ ومن هذه التحركات الاتفاق الذي أبرمته موسكو وبكين (4 فبراير) لشراكة بلا حدود بين البلدين، بما يعزز قدرة روسيا على الصمود في مجابهة أي عقوبات، فضلًا عن خلق سوق بديلة للغاز الروسي عن السوق الأوروبية إذا اقتضت الضرورة.
ذلك فضلًا عن المناورة العسكرية التي نفذتها روسيا (15 فبراير) في البحر المتوسط بمشاركة أكثر من 15 سفينة حربية و30 طائرة انطلاقًا من قواعدها العسكرية في سوريا، بما يوصل رسائل بالقدرة على التهديد والرد على أي تحركات للدول الغربية وحلفائها في المنطقة. هذا علاوة على التحالف الروسي مع إيران، والقدرة على إعاقة المفاوضات النووية في فيينا التي يتوق الغرب إلى إتمامها والتوصل إلى اتفاق في أقرب وقت ممكن.
3 – الردع النووي: إذ إن أي تحرك عسكري من جانب حلف الناتو والدول الغربية لمواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا قد يُواجه بتنفيذ تهديد الرئيس الروسي برد غير مسبوق في التاريخ، في إشارة إلى ضربة نووية روسية، لا سيّما وأن العملية العسكرية الروسية قد سبقها إجراء موسكو تدريبات نووية مكثفة لقوات الردع الاستراتيجي (19 فبراير) شملت إطلاق صواريخ باليستية عابرة للقارات ومجنحة.
4 – انقسام الحلفاء: أظهرت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن (24 فبراير) في معرض الإعلان عن العقوبات الأمريكية على روسيا، وعدم تفعيل عقوبات النظام المركزي العالمي لتنفيذ الحوالات المالية المتبادلة “سويفت” وجود انقسام بين القوى الغربية حول التصعيد ضد روسيا والحد الأقصى الذي يمكن بلوغه في العقوبات ضدها. وهو أمر يرجع إلى وجود قوى أوروبية –في مقدمتهم ألمانيا- ترتبط بمصالح جيواستراتيجية غاية في الأهمية مع روسيا، ولا سيّما فيما يتعلق بإمدادات الغاز الروسي إليها والتي تعتمد عليه مصانعها بشكل كبير. ذلك فضلًا عن أن بعض المحللين الاقتصاديين يرون أن بعض العقوبات الاقتصادية على روسيا من شأنها الإضرار بمصالح الدول الغربية نفسها جنبًا إلى جنب مع روسيا.
ولذلك فإن الخيارات الغربية للتعامل مع الغزو الروسي لأوكرانيا يُحتمل أن تتمحور حول الاستمرار في تصعيد وتيرة العقوبات الاقتصادية الصارمة ضد روسيا بما يمكن أن يلحق بها ضررًا حتى وإن كان على المدى البعيد على غرار تلك المتعلقة بوقف الصادرات التكنولوجية المتطورة. مع النظر في إمكانية إمداد أوكرانيا بالمزيد من الدعم العسكري الأكثر تقدمًا من ذي قبل والمعلومات الاستخبارية، جنبًا إلى جنب مع تعزيز الوجود العسكري في الدول المتاخمة لأوكرانيا الأعضاء في حلف الناتو. فضلًا عن مواصلة الجهود الدبلوماسية التي بدأت منذ ما قبل بدء العملية العسكرية لمحاولة إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاكتفاء بما تحقق، والجلوس إلى طاولة المفاوضات سواء مع الدول الغربية أو مع نظام الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أو ما بعده.
إجمالا، إن العملية العسكرية التي تشنها روسيا في أوكرانيا قد تسهم بشكل حقيقي في تحقيق المصالح الروسية المتعلقة بتأمين مجالها الحيوي، والحيلولة دون انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو اندماجها في المنظومة الغربية. أما الغرب فليس على استعداد للمخاطرة بتصعيد عسكري في مواجهة روسيا التي أعادت بتحركها الأخير طرح نفسها من جديد كقوة عظمى على أنقاض النظام العالمي الذي نشأ ما بعد الحرب الباردة، من أجل دولة لا تنتمي إلى حلف الناتو.
.
رابط المصدر: