بعد ثلاثين عامًا من حكم الرئيس عمر البشير (1989 – 2019)، تعمقت الأزمة في السودان لتخرج مظاهرات شعبية في 19 أبريل 2019 لتندد بالأوضاع الاجتماعية وغلاء المعيشة وتطالب بضرورة وجود تغيير سياسي يمهد لتحقيق استقرار اقتصادي، وإنهاء عقود المعاناة من ويلات الحرب النزاعات المسلحة الداخلية والأزمات الإنسانية. كان لتلك الفترة ظروف تتطلب تدخل الجيش السوداني لإدارة البلاد كفترة انتقالية لتحقيق الأمن والاستقرار قبل إعادة بناء مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية من جديد، اتسمت المحادثات خلال الفترة الماضية بالمعقدة بقيادة كل من قائد الجيش “البرهان” ونائبة “حميدتي”؛ إذ لم تتوافق الأطراف حول شروط الفترة الانتقالية، ووسط كل تلك التغيرات كان الشعب السوداني هو من يدفع الثمن جراء الأوضاع الاقتصادية المتردية التي فرضتها التغيرات السياسية الدائمة.
بداية جديدة
بعد عزل البشير وتولي مجلس السيادة السوداني الحكم، تم تعيين “عبد الله حمدوك” رئيسًا لوزراء السودان. عقد السودانيون آمالًا كبيرة على تولي “حمدوك” نظرًا لما يتمتع به من سمعة طيبة وكفاءة اكتسبها أثناء عملة في عدد من المؤسسات الاقتصادية والتنموية التابعة للأمم المتحدة بأفريقيا، فضلًا عن أن سمعته الطيبة من حيث النزاهة كانت سببًا في تلقي ترحيب كبير من جانب الأمم المتحدة ومنظمات عالمية.
كانت بداية تلك الإصلاحات بنجاح الدبلوماسية السودانية في إزالة البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما سمح لها بتلقي مساعدات مالية من الولايات المتحدة الأمريكية، وعودة العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي أبدت رغبتها في العمل لتخفيف أزمة الديون التي تعيشها السودان والتي وصلت إلى أكثر من 60 مليار دولار.
بالفعل بدأت السودان مرحلة من الإصلاحات الاقتصادية بدعم من صندوق النقد الدولي لمعالجة التشوهات الهيكلية باقتصادها، حيث عانى اقتصاد السودان لسنوات من اختلالات داخلية وخارجية كبيرة، وديون خارجية كبيرة، وحرمان من الاستثمار الأجنبي المباشر. وبالفعل اتبعت الحكومة أجندة إصلاح هيكلية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي طبقت سياسات مالية ونقدية صارمة، وخفضت دعم الوقود، وأقرت نظام إصلاح ضريبي، وبرامج لتوفير الحماية الاجتماعية والتخفيف من الأثر السلبي لتلك الإصلاحات.
تسببت تلك السياسات في تخفيض قيمة الجنيه السوداني لمعالجة اختلالات ميزان المعاملات الخارجي للبلاد (عجز الميزان الجاري) مما ترتب عليه ارتفاع أسعار الوقود والخبز، ومعظم المواد الغذائية بالبلاد، الأمر الذي تسبب في اضطرابات اجتماعية كبيرة. من جانب آخر، كان لتلك السياسات أثر إيجابي بحلول صيف 2021، حيث قرر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في يونيو 2021 أن السودان مؤهل للاستفادة من مبادرة تخفيف ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، وهو ما يمهد لإعفاء السودان من ديون بحوالي 56 مليار دولار باستكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم تطبيقه حاليا في يونيو 2024.
ولمساعدة السودان في تحقيق ذلك وافق صندوق النقد الدولي على تسهيلات ائتمانية ممتدة بقيمة 2.5 مليار دولار خلال برنامج مدته 39 شهرًا لمواصلة الإصلاح الاقتصادي والمؤسسي وتعزيز الحوكمة الاقتصادية وتوفير شبكة أمان لسكانها، وقد كان لذلك البرنامج نتائج إيجابية بداية من أغسطس من عام 2021، حيث انخفض التضخم بمقدار 35 نقطة لأول مرة منذ عام 2020، وانخفض العجز التجاري في السودان بنسبة 25% إلى 1.6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2021، مدفوعًا بزيادة الصادرات على أساس سنوي، وزادت التحويلات من 136 مليون دولار في النصف الأول من عام 2020 إلى 717 مليون دولار في النصف الأول من عام 2021. من جانب آخر، انخفض عجز الحساب الجاري إلى 990 مليون دولار في عام 2021 مقابل 5.8 مليارات دولار في عام 2020 كنتيجة إيجابية لتقلص العجز التجاري بعد إصلاح سعر الصرف وتحسن التحويلات الخارجية.
انهيار الدبلوماسية الاقتصادية
لم يستمر الوضع طويلًا؛ إذ تسببت قرارات أكتوبر 2021 التي تضمنت حل مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ في قطع الطريق على عودة العلاقات الدبلوماسية بين السودان والمؤسسات الدولية مرة أخرى والتي كانت قد عادت بشكل جوهري بعد عام 2019، الأمر الذي ترتب عليه قطع المؤسسات الدولية دعمها المالي المخصص، وخسر السودان حوالي 4.6 مليارات دولار من المساعدات الخارجية، منها 2.6 مليار دولار من البنك الدولي كان قد تم تخصيصها لمشروعات زراعية وطاقة والصحة بالإضافة إلى خسارة حوالي 580 مليون دولار أمريكي كان قد خصصها المانحون ضمن برنامج دعم الأسرة السودانية.
من جانب آخر، علقت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدتها التي كانت أقرتها للسودان والتي تبلغ 700 مليون دولار أمريكي والتي تم الموافقة عليها بعد حذف اسم دولة السودان من الدول الراعية للإرهاب بالولايات المتحدة الأمريكية، هذا فضلا عن تعليق تسليم 350 ألف طن متري من القمح بقيمة 125 مليون دولار لتمويل دعم الخبز بالبلاد. وبالطبع علق نادي باريس للدول الدائنة قراره الذي كان قد صدر بإعفاء البلاد من الديون بسبب ذلك التغير السياسي.
تسببت تلك القرارات في أثر صعب على المؤسسات الاقتصادية والسوق المحلية، وخاصة في الخسائر المالية التي ظهرت في أداء موازنة عام 2022 والأزمة الاقتصادية التي واجهتها البلاد. فقد ترتب على تلك الأزمة زيادة العجز الكلي بالموازنة، من المتوقع أن يتم تمويله في شكل سُلف مؤقتة من البنك المركزي السوداني، وبالطبع خسر الجنيه السوداني 30% من قيمته. لكن الانخفاض في سعر العملة لم يتوقف، بسبب ضعف الطلب على العملات الأجنبية، وتراجع نشاط الأعمال وانخفاض القوة الشرائية للأسر.
ولتوفير التمويل للعجز بالموازنة، تم اتخاذ قرار برفع أسعار العديد من السلع والخدمات وارتفعت الرسوم على كل شيء بالبلاد تقريبًا، بداية من ضريبة الشركات، ومرورًا بالرسوم الجمركية وحتى رسوم الرعاية الصحية. فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار الخبز بعشرة أضعاف تقريبًا، وارتفعت السلع الأساسية بنسبة تتراوح بين 200 – 300%، وارتفعت أسعار الوقود والمشتقات البترولية بنسبة 135%، الأمر الذي دفع سعر الوقود في السودان ليكون أغلى من البلدان المجاورة. ويعود السبب في ذلك جزئيًا إلى كيفية إدارة استيراد النفط من جانب الحكومة، وارتفاع أسعار المضخات، وزيادة تكاليف النقل، مع تداعيات واسعة النطاق على الإنتاج، وانخفاض القدرة الشرائية للأسر.
كان لتلك الظروف الاقتصادية أثر سلبي كبير على المستوى الإنساني، فقد ارتفعت تكلفة تحقيق مستوي معيشي أساسي، وتعرضت ملايين الأسر السودانية لحالة انعدام الأمن الغذائي، ومن المحتمل أن يكون 30% من السودانيين يواجهون حاليا حالة الجوع. من جانب آخر، كان لتدخل المؤسسات الحكومية وتوسعها بالاقتصاد السوداني من حيث رفع سقف الإقراض لها أثر سلبي على تقويض جهود النهوض بالقطاع الخاص في السودان، وسمحت سوء الإدارة للموارد الطبيعية بالبلاد خاصة في قطاعي تعدين الذهب والتجارة في انتشار الفساد والتهريب، الأمر الذي حرم الدولة من الأموال الضخمة التي كان يتم تحصيلها من الضرائب والإتاوات، وهو ما قلل قدرة الحكومة على التدخل لتمويل برامج الدعم الاجتماعي والتخفيف من الآثار الاجتماعية للأوضاع الاقتصادية السيئة.
كان ينظر إلى نهاية عام 2022 على أنها صعبة على الأوضاع الاقتصادية السودانية، والعام 2023 أنه من بين الأعوام الأكثر صعوبة أمام اقتصاد السودان، نتيجة لمواجهته أخطارًا متعددة تتمثل في الركود وتراجع القوة الشرائية للأسر، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع قطاع الأعمال، وانخفاض معدل نمو الاقتصادي لدرجة تحولت إلى تحقيق أرقام سلبية.
لكن كل تلك التوقعات كانت في ظل وضع سياسي مستقر نسبيًا، ومناخ إيجابي بإمكانية التوقيع النهائي على الاتفاق الإطاري الذي يقود إلى استقرار سياسي مستدام. لكن الوضع الحالي بعد نشوب الاشتباكات بين ميلشيا الدعم السريع والقوات المسلحة في 15 أبريل 2023 لم يكن في الحسبان عند وضع تلك التقديرات السلبية؛ إذ إن لتلك الحرب آثار كارثية في مضاعفة الآثار السلبية لتكون 3 – 5 التوقعات على الأقل.
وهو ما يعني أن الأوضاع الاجتماعية بالسودان في الوقت الحالي قد تنجر إلى حافة الهاوية من حيث: الفقر المدقع، والجوع، وانهيار البنية التحتية التعليمية والطبية. وهو ما ينذر بكارثة على المستوى الإنساني، حيث إن العامين الماضيين كانا دليلًا دامغًا على أن قطع المعونات والمساعدات من جانب المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية متعددة الأطراف لم يكن عقابًا للمكونين العسكري والمدني في السودان، بقدر ما كان عقابًا للشعب السوداني الذي دفع ثمن ذلك التعنت الدولي في معاونة البلاد على النهوض، ودفع 30% من السكان إلى الجوع.
ويستدعي ذلك الوضع وقفة فورية من جانب المؤسسات الدولية لإنهاء الحرب، وضخ مساعدات سريعة وطارئة للاقتصاد السوداني لتحسين الوضع الإنساني، والعودة إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى؛ إذ إن كل تأخر في ذلك الإجراء يعني أن الحرب ستتطور وتنجرف إلى منطقة اللا عودة.
.
رابط المصدر: