تأملات قرآنية من الآية الثالثة عشرة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)

 

التأمل الأول :

إن علاقة الشمس والقمر مع الليل والنهار علاقة مترابطة ، فالنهار يحدث عندما تشرق الشمس ، وعندما تغيب يحدث الليل ، أما القمر فيظهر بشكل واضح في الليل ( عندما تغيب الشمس ) ، ويكون ظاهراً في النهار ولكن بشكل غير واضح عندما تكون الشمس موجودة لتسيّد الشمس على المشهد ، وفي هذه الحالة لا يراه إلا المهتم به .

وقد سخّر الله تعالى الأنبياء والأوصياء لهداية البشر كما سخّر الشمس والقمر لحدوث الليل والنهار ، فالأنبياء كالشمس والأوصياء كالقمر ، والنهار كالهداية الذي يستضيء بالشمس ، فإن غاب النبي لأي سبب من الأسباب – من دون الوفاة – جاء الوصي ليسد مكانه كما يسد القمر مكان الشمس ، وعند وجود النبي فإن الوصي موجودٌ ولكن لا يعرفه إلا المهتم به .

 

التأمل الثاني :

عند الانتقال من الليل الى النهار أو بالعكس فهناك فترة تكون انتقالية لا يمكن إعتبارها ليلاً ولا نهاراً بشكل واضح ، لأن الليل والنهار متداخلان في هذه الفترة ، فخلال هذه الفترة تكون الأرض بدورانها إما متجهة نحو الشمس – وذلك عند الشروق – أو مبتعدة عن الشمس عند الغروب ، وهذه قضية طبيعية لا يمكن إهمالها أو التغاضي عنها .

وكذلك الإنسان عندما يتجه نحو مصدر الهداية فينتقل من الكفر والظلام الى الهداية والنور فإن هناك فترة انتقالية لا يمكننا التعامل معه ككافر مطلق أو كمؤمن مطلق ، وبالتالي علينا أن نحتمل الاحتمالين ، وكذلك الأمر بالنسبة الى من يبتعد عن مصدر الهداية فيمر في نفس هذه الفترة . فمن الخطأ التغافل عن هذه الفترة وإعتبار الانتقال لحظي من الهداية الى الكفر أو بالعكس .

 

التأمل الثالث :

في نفس كل إنسان هناك تداخل بين النور والظلمة ، فهناك جانب نوراني يتمثل بالهداية والصلاح والأعمال الحسنة ، وجانب مظلم متمثل بالمعاصي والظلم والانحراف والفساد والضلال ، فإذا كان قريباً من مصدر النور كالقرآن الكريم والروايات الشريفة والمساجد ودور العبادة والأولياء سيكون مُشرِقاً بنور الله تعالى ، وإن كان بعيداً عن مصادر النور سيكون معرّضاً لسطو مصادر الظلمة كأماكن اللهو وأصدقاء السوء والفضائيات ومواقع التواصل المنحرفة وغيرها ، وعلى الإنسان أن لا يدير ظهره الى مصدر النور كما تدير الأرض ظهرها للشمس ، وإن أدار ظهره فعليه أن يديره مرة أخرى ليعود النور إليه .

ويُستثنى مما تقدّم المعصومون الذين لا ظلمة في حياتهم ، بل هم مصدر النور الذي يستضيء منه الآخرون ، كما يُستثنى المعاندون والكفار والمشركون الذين لا نور في حياتهم ، حتى نور الفطرة الذي أرغم البشر على رؤيته قد أطفأوه .

 

التأمل الرابع :

من المعروف فلكياً أن الشمس هي المصدر الرئيس الضوء في مجموعتنا الشمسية ، أما القمر فيعتبر مصدراً ثانوياً للضوء ، إذ يأخذ الضوء من الشمس ويعكسه كما هو الى النصف المظلم من الأرض الذي غابت عنه الشمس ، ولضعف قدرة القمر التكوينية وإمكانياته في عكس الضوء كان الضوء الذي يأتي منه ضعيفاً مقارنة بضوء الشمس .

وعلى مستوى الهداية نجد الأمر متشابهاً ، فعند وجود مصدر الهداية الأساسي فإن الناس يأخذون الهداية بشكل كامل ، أما المصدر الثانوي للهداية فيأخذها من المصدر الأساسي ويعكسها الى الناس ، ولكن لا تكون بقوة المصدر الأساسي ، فإذا كان المصدر الأساسي نبياً فإن وصيه أو أصحابه المخلصين مصدراً ثانوياً ، وإن كان الوصي مصدراً أساسياً فإن أصحابه وأتباعه المقربين مصدراً ثانوياً ، وهكذا .

 

التأمل الخامس :

قد لا يكون لأي أحد منا القدرة على أن يكون مصدراً رئيساً للهداية كما الشمس رئيس مصدر للنور ، لأن هذه المصدرية يحددها الباري عز وجل باعتباره هو الهادي جل وعلا ، ولا يمكن أن يقوم أحدٌ بهداية الآخرين من دون أن يعطيه تلك الصلاحية الهادي المطلق سبحانه وتعالى ، فهو من يسخّر الهادي للبشر ويكون الواسطة المباشرة بين الهادي المطلق جل شأنه والهادي الذي خُوِّلَ بالهداية من نبيٍ أو وصي نبيٍ عند غياب النبي .

ولكن يمكن لأي واحد منا أن يكون إنعكاساً بالقدر الذي يمتلكه من المؤهلات العاكسة للنور الإلهي ، فإن لم يستطع أن يكون قمراً ( كالفقهاء ) يضيء بدرجة كبيرة للناس الذين يعانون من ظُلمة فليكن نجماً ، إذ سيكون مع باقي النجوم مصدراً للنور لا بأس ، ومن ذلك نعرف الدور الذي ينبغي أن يسعى له المؤمنون العاملون في هداية البشر .

 

التأمل السادس:

لا بد من التمييز بين ما ندعوه ونتبعه بإعتباره على الخط الإلهي وأنه يوصلنا الى الله تعالى وبين من ندعوه ونتبعه من دون الله سبحانه باعتباره نِدّاً لله عز وجل ، فالأول واجب الإتباع لأن الله جل جلاله سخّره لهدايتنا وإنقاذنا من جهلنا ونوّرنا به طريق الظلمة ، وجعل له بديلاً في حالة غيابه كما جعل للشمس بديلاً وهو القمر ، فلا يمكن للحياة أن تخلو من حجة ، ويجري هو وبديله نحو أجل مسمى يتمثل بالهداية .

بينما الثاني يُعتبر شركاً بالله سبحانه ، وبالتالي يُعتبر طريقاً مرفوضاً جملة وتفضيلاً ، فالعقل يرفض إتباع من لا يملك شيئاً ، لأن إتباعه سيقود الى المجهول إن لم نقل أنه يقود الى الجحيم ، وأن الغاية من وراء هذا الإتباع وهمية ، سوف لن تتحقق ، وإن تحققت فستكون مرحلية لأن ما عند هؤلاء ينفد وما عند الله باق .

 

التأمل السابع:

إن الله تعالى سخّر لنا الشمس والقمر ، بمعنى أنهما طوع أمرنا إن عرفنا كيف نستثمر هذا التسخير ، وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن الله سبحانه قد سخّر لنا كثيراً من الأمور عدة مرات ، فهل يمكن أن نتصور حجم ما سُخِّر لنا ؟ الشمس التي هي مصدر الطاقة (المادية) في مجموعتنا الشمسية والتي تكبر الأرض بأكثر من 300 ألف مرة ، وإذا سُخِّرَت لنا الشمس فالمجموعة الشمسية برمتها مُسخَّرة لنا ، بما فيها الأرض والقمر ، فيا ترى ما نوع هذا التسخير ؟

فمن الممكن أن يكون هذا التسخير مادياً ، كالاستفادة من الطاقة الشمسية في توليد الطاقة الكهربائية وما شابه ، ولكن هذا لا قيمة له أمام الشمس التي تشكل كتلتها فقط أكثر من 99% من كتلة المجموعة الشمسية .

لذا لا بد من البحث عن كيفية استثمار هذا التسخير ، وأن نعلم حجم النعم الربانية وحجم التقصير في استثمار تلك النعم ، فلا نلومنّ غير أنفسنا .

 

التأمل الثامن:

يبدو أن هناك ميلاً فطرياً لدى الإنسان الى إتباع من له ملك معين ، وكلما كان ما يملكه المتبوع كبيراً كان الميل الى إتباعه أكبر ، والعكس بالعكس ، والحقيقة تتطلب أن نبحث عن الملك الحقيقي كملك الشمس والقمر والأرض والتحكم بها بحيث تجري لأجل مسمى ومُخطط ، ويتحكم بآثارها كالليل والنهار والتداخل فيما بينهما ، فمالكُ هذا الملك يمكن أن يسخّر لنا – كبشر – ما يملكه لننعم في حياتنا ، سواء كانت هذه الحياة دنيوية أو أخروية أو كلاهما ، بينما من لا يملك شيئاً (حتى قطمير) فلا يمكنه أن يسخّر شيئاً لنا ، بل قد يسخّر ما نملكه لإكمال مُلكه وسد نواقصه ، بالتالي فإن من يملك الشمس والقمر والأرض – فضلاً عن ما فوقها – هو نفسه من يملك ما دونهم ، بما في ذلك ما يملكه المدّعون للملك ، فلا مُلك إلا له جل جلاله .

 

التأمل التاسع:

إذا أردنا الاستفادة من إدارة النظام الكوني الذي وضعه خالق الكون جل وعلا لإدارة نظام حياتنا من باب ( التخلق بأخلاق الله ) فينبغي أن نجعل لكل شيء نظاماً يسير عليه نحو غاية مخطط لها ، فعلى رب الأسرة مثلاً – باعتباره من يملك زمام الأمور في أسرته – أن يضع نظاماً معيناً لكل فرد من أفراد أسرته ولكل جزئية من جزئيات من البيت يسير تلقائياً (بالقدر المستطاع) ويصل الى هدف محدد ، فمنهاج الأبناء إكمال دراستهم ومسؤولياتهم اليومية ، وهدفهم المرسوم تحقيق مستويات علمية راقية ، وهكذا لباقي التفاصيل . وربُ العمل أيضاً يجب أن يضع نظاماً مالياً وآخر تنظيمياً وإدراياً وفنياً لعمله بحيث يسير كل نظام من هذه الأنظمة بشكل تلقائي حتى يحقق مصلحة العمل العليا .

فليس من الصحيح أن يقوم رب الأسرة – أو رب العمل – بالقيام بالواجبات الملقاة على عاتقه بنفسه ، فهذا لا يؤدي الى النجاح .

 

التأمل العاشر:

من أبرز مصاديق الشمس التي تمدنا بالنور المعنوي هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، الذي شعّ نوره ليعمّ البشرية ، خصوصاً من عاشَرَه ، ولِكَون القوانين الدنيوية تقتضي موت النبي صلى الله عليه وآله كما تقتضي دوران الأرض حول نفسها ، فإن هناك ظلاماً ستمر به البشرية بسبب غياب الشمس المعنوية ، لذا تهيّأ النبي صلى الله عليه وآله لذلك ونبّه من حوله بأن شمسه سوف تغيب يوماً ما ولن تطلع من جديد ، وعليهم أن يستفيدوا من نور القرآن الكريم والأقمار القادرة على عكس النور النبوي ، ( إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي ) ، فمن إلتزم بهذه الوصية ستكون هذه الأقمار بمثابة الشمس التي تغذّيه بالنور الإلهي ، بل وسيستفيد منها حتى وإن غطاها سحاب ، وإن حدثت ظلمة لأي سبب كان ، فإن الفقهاء سيكونون القمر لهم .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M