الفساد عمل يتضمن إساءة استخدام السلطة لتحقيق مصلحة خاصة، فهو عمل يتمثل بسلوك إيجابي أو سلبي وفي حقيقته هو متاجرة بسلطة الوظيفة أو التكليف بخدمة عامة لتحقيق منفعة خاصة للشخص عينه أو لأخر، فالفساد يمثل أبشع صور استغلال المنصب الإداري.
وحيث دأب المشرع العراقي والحكومة على التصريح في كل محفل عام وبالخصوص بعد الحركة الاحتجاجية خريف عام 2019 بمكافحة الفساد إذ سارعت الحكومة المستقيلة عند تشكيلها إلى تأسيس مجلس مكافحة الفساد ولو انه كيان يعوزه الأساس الدستوري والقانوني إلا ان الآمال كانت معلقة على صدق النوايا وراء تأسيسه، بيد إن الأمنيات تبخرت جميعا مع سياسة تشريعية معيبة انتهجها المشرع العراقي وتخاذل حكومي واضح تجاه ملف التصدي للفساد والمفسدين.
ولم يتمكن المجلس التشريعي برغم ما أوتي من دعم جماهيري من التأسيس لمرحلة استئصال الفساد بل أنه اتخذ خطوات غير مدروسة ساهمت في تفشي الفساد واستفحاله منها إلغاء مكاتب المفتشين العموميين بالقانون رقم (24) لسنة 2019 مستغلاً اندفاع الشباب العراقي ومطالبهم الحقة بالقضاء على الترهل وإيجاد حلول حقيقية بعيدة عن التسويف والمماطلة، لكن المشكلة التي برزت هل تم إيجاد البديل ليراقب الوزراء في داخل وزاراتهم، هل هنالك رؤية حقيقية أم هي خطوة ارتجالية ليس من شأنها أن تؤسس لرقابة فاعلة قادرة على التصدي للمفسدين؟ والواقع بتجرد إن هذا القانون أعطى فسحة من الحرية لهؤلاء لينقضوا على المال العام فيقضموه قضماً كما تقضم الإبل نبات الربيع.
وبالركون للدستور العراقي للعام 2005 نجد انه أسس للعديد من الأجهزة الرقابية التي تتمثل الغاية منها بالدرجة الأساس بمكافحة الفساد وتأسست بقوانين صدرت لاحقاً منها هيئة النزاهة المؤسسة بالقانون رقم (30) لسنة 2011 وديوان الرقابة المالية المنظم بالقانون رقم (31) لسنة 2011 وغيرهما كالبنك المركزي العراقي والادعاء العام الإداري والمالي المختص كما يفترض بالتحقيق في جرائم الفساد الإداري والمالي والقضايا المتعلقة بالمال العام المؤسس بالقانون رقم (49) لسنة 2017 وكل الأجهزة المذكورة لها عظيم الصلة بالتصدي للسلوكيات المجرمة والتي تعد فساداً.
لكن السؤال المركزي لماذا رغم كل هذه الأجهزة ظاهرة الفساد أخذة بالتنامي بشكل مطرد؟ هل البرلمان العراقي هو السبب أم لا؟ ومن هو المتسبب بذلك؟ وهل نجح المشرع العراقي في تشريع قوانين قادرة على مكافحة الفساد والحد من مخاطره قبل الحركة الاحتجاجية أو بعدها؟ وهل التشريعات التي تجرم وتعاقب وتنظم الأجهزة الرقابية ارتقت لمستوى التحديٍ؟ وهل هي قادرة على المواجهة، وهل نحتاج بعد تجربة سبعة عشرة عام لإعادة تقييم المنجز والوقوف على مواطن الخلل ومعالجتها للحد من نزيف المال العام؟ من وجهة نظري الخاصة أجد إن المشرع العراقي يتخبط في التشريعات ويتناسى الدور الرقابي وفشل في وضع سياسة تشريعية تمثل إستراتيجية وطنية قادرة على التصدي للفساد.
وللإجابة على الأسئلة المتقدمة علينا أن نتذكر إن أي ظاهرة ليتم التصدي لها لابد من دراستها باستفاضة وتحديد خصائصها وسماتها بدقة لنتمكن من وضع الحلول الناجعة لها، فهل يعي صانع القرار التشريعي ما تقدم ليتمكن من وضع الأمور بنصابها؟ أم إن الأمر لا يعدو كونه مسرحية ومحاولة لإرضاء الجماهير الغاضبة بالتخلص من بعض كوابح الفساد وبهذا يضرب الفاسدون عصفورين بحجر واحد بتقديري، هذا ما حصل تماما ألغيت مكاتب المفتشين العموميين عرقل تشكيل مكاتب المدعي العالم الإداري والمالي وحجمت هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية واستغلت ورقة رئاسة هذه الجهات للضغط عليها ومنعهما من التصدي للملفات الخطيرة والكبيرة التي استنزفت الموازنة العامة بالإكتفاء بالفتات من الجرائم غير المؤثرة في خارطة الفساد.
ولنكون على بينة من أمرنا نشير إلى أهم السمات التي تمتاز بها جرائم الفساد وهي:
1- الطابع العالمي لجرائم الفساد: تتسم جل جرائم الفساد بالطابع العالمي فمن الجرائم ما يكون وطنياً كالرشوة ومنها ما يكون دوليا ان ارتكب من موظفي المنظمات العالمية كالأمم المتحدة ومنها ما يكون عابر للحدود كجريمة غسيل الأموال والإتجار غير المشروع بالأعضاء والرقيق والأطفال والمخدرات وغيرها، والسؤال هل أخذ المشرع العراقي بالحسبان ما تقدم للتكامل بين قانون هيئة النزاهة وقانون العقوبات وقانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 39 لسنة 2015؟ هل تمكن المشرع من أن يوسع من الاختصاص العالمي للقانون العراقي والقضاء العراقي لاسترداد المتهمين ومحكمتهم سواءً منهم المسؤولين الهاربين أو شركائهم العاملين في القطاعين العام والخاص العراقي والأجنبي؟ من المحتم إن الجواب سيكون بالسلب كون البرلمان لا يجرأ على أن يمس المجرمين الحقيقين ممن يتاجرون بدم الشعب ومقدراته؟
2- إن جريمة الفساد من جرائم الخطر: وللتذكير نقول إن المشرع بالعادة يقسم الجرائم إلى جرائم ضرر وجرائم خطر الأولى يشترط تحقق النتيجة منها للمعاقبة كالقتل فلابد من إزهاق روح شخص أخر لمحاسبة القاتل وفق المواد (405-4011)، أما جرائم الخطر فيكفي أن يبدأ الجاني بارتكاب الأفعال المادية المؤدية إليها دون اشتراط تحقق نتيجتها كون سلوكه ينم عن خطورة إجرامية لا يمكن التساهل معها ولهذا جرم المشرع العراقي قيام الموظف بطلب الرشوة حتى لو رفضها الطرف الأخر وعاقب عليها بعقوبة الجريمة تامة الأركان وفق المادة (307) من قانون العقوبات، والسؤال للبرلمان العراقي هل يعي المشرع ان جرائم الفساد ولو كانت بدولة أجنبية لا تجمعها بالعراق أي رابطة تمثل خطر على الإنسانية وان الجاني يجب ان يعاقب ويسلم إلى الجهات القضائية المختصة لينال جزاءه الأوفى، فيما المشرع في العراق يكافأ الفاسد بشموله بقانون العفو العام رقم (27) لسنة 2016 وهذا إيذان تشريعي بالفساد جهاراً نهاراً، فلماذا لم يبادر المشرع بعد خريف العام 2019 إلى إلغاء هذه النصوص أو على الأقل بتعديلها بإلزام الفاسد برد ما سرقه من المال العام ان كان يخشى من ان يصطدم بعقبة التشريع الأصلح للمتهم بدعوى مدنية يقيمها الادعاء العام تلقائياً أو بطلب من الجهة الرسمية المتضررة.
3- إنها جريمة عمدية دائماً: فلا يتصور أن ترتكب الرشوة أو الاختلاس أو غسيل الأموال من شخص لا يتوافر عنده القصد الجرمي، وإلا فلا نتصور مساءلة موظف عما تقدم إذا لم يكن يعلم انه يرتكب جريمة فساد وأراد ارتكابها بإرادته الحرة وهو مدرك لخطورة ما يقوم به، فهل من العدل ان يتم التكتم على جرائم الفساد في الحكومات العراقية السابقة ولا ترسل ملفات الفساد التي تم جمعها إلى القضاء ولا يكون عندنا تشريع ملزم لعضو مجلس النواب بتقديم كل ما لديه من أدلة ضد أحد الفاسدين إلى القضاء بموازاة استجوابه برلمانيا لمنع هروبه من البلد بعد حجب الثقة أو انتهاء عمر الحكومة، ولنتجنب ما يحصل دائماً من مساومه وابتزاز أحد النواب للوزير أو المسؤول الفاسد لينجوا من الاستجواب مقابل بعض العمولات التي تدفع لهم ولأحزاب فاسدة بعينها تعتاش على مثل هذه الأمور.
4- تمتاز جرائم الفساد بالسرية: فغالبا ما يحيط الفرد عندما يقدم على مخالفة القواعد القانونية أو الأخلاقية والدينية إلى إحاطة سلوكه بالسرية، إما خوفا من سطوة القانون أو المجتمع أو من فقدان مكانته وتأثيره وما شاكل، وفي جرائم الفساد يحرص الجاني على السرية ليضمن استمرار عمله والعوائد التي تدر عليه وخشية زجه في السجن أو عزله من الوظيفة وخسارة العائد، لهذا تدار الصفقات في الغالب عبر وسطاء وبشبكات اتصالات متطورة ومعقدة والتي تعمل بالتعاون مع مسؤولين وتجار فاسدين داخل العراق، وبالغالب تدار من خارج حدود الدولة، والسؤال هل أدرك المشرع العراقي هذه الحقيقية هل منح جهاز المخابرات العراقي السلطة والقدرة على ملاحقة مافيات الفساد في خارج العراق بالتعاون مع هيئة النزاهة ودوائرها المتخصصة باسترداد الأموال المهربة.
لذا نخلص إلى إن على البرلمان العراقي الذي يغص ديوانه بالمستشارين ممن تصرف لهم موازنات كبيرة دون أن يقوموا بعمل حقيقي ويقدر عدد أعضائه على بـ(330) ممن يتقاضون مئات الملايين من الدنانير خلال مدة النيابة دون بذل جهد يذكر سوى التنابز على وسائل التواصل والإعلام، الشروع فوراً بوضع إستراتيجية حقيقية من شأنها الحد من مظاهر الفساد ترتكز على الآتي:
1- التأكيد على استقلال القضاء العراقي وتدعيم سلطة الأخير في ملاحقة الفاسدين داخل وخارج العراق.
2- ضرورة التكامل بالأدوار بين هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية والبنك المركزي العراقي بتشكيل فرق مشتركة متخصصة للتحقيق في كل شبهات الفساد الإداري والمالي بغطاء قانوني يضعه البرلمان لهذا الغرض مع إشراك الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المتخصصة بتقصي المعلومات داخل وخارج البلاد لضرب مافيات الفساد.
3- ضرورة تفعيل دور الرقابة الداخلية على أداء الوزارات والمؤسسات العامة بأجهزة رقابية متخصصة مرتبطة بهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية والجهات المختصة بمواجهة وباء الفساد في العراق.
4- أهمية حرية الصحافة والإعلام لاسيما الاستقصائي للتحقيق بجرائم الفساد وبيان وسائل وأساليب الفاسدين التي يسلكونها للتوصل لغاياتهم الإجرامية.
5- أهمية إعادة النظر بقانون الأحزاب وضرورة الحد من النشاط الحزبي داخل الوزارات والمؤسسات لاسيما النشاط المبطن بصورة شركات المقاولات والتجهيزات التي تستحوذ على العقود بأثمان خرافية لتصب في مالية الحزب الذي ينتمي إليه الوزير أو المسؤول.
6- أهمية التذكير بدور مراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني كجهات رصد ورقابة تمثل اتجاهات ومصالح الرأي العام، وان تكون العضد للبرلمان في مواجهة هذا الوباء الحقيقي.
7- ضرورة أن يأخذ المواطن دوره الحاسم في الرقابة والمحاسبة للفاسدين عبر كل وسائل التعبير عن الرأي لاسيما وسائل التواصل الاجتماعي، والتركيز على رفع الوعي بضرورة المطالبة المستمرة بمحاسبتهم الفاسدين وعدم انتخابهم مرة أخرى تحت أي ظرف.
رابط المصدر: