في كتابه “النظام السياسى والأفول السياسى” الصادر عام 2014 قدم فرانسيس فوكوياما تحليلاً مهماً للنظام الأمريكي ينطبق على الدول الغربية بوجه عام. فالأمراض التي شخَّصها شائعة الآن في هذه الدول، مثل عجز الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية عن تجديد خطاباتها التي انحسرت الفروق بينها، فصارت متقاربة ورتيبة وخالية من الرؤى الملهمة التي تخلق حيوية في المجتمع، وعاجزة عن ضخ دماء جديدة وتطوير آليات التجنيد والتصعيد في داخلها. ويؤدى ذلك إلى إعادة تدوير نخب محدودة في مستوياتها القيادية.
أدى ذلك الى ان تتراجع معدلات ونسب المشاركة في الانتخابات، كما يتضح في دراسة أجراها الأيرلندي بيترميل على 13 دولة أوروبية في كتابه الصادر 2013 بعنوان “حكم في الفراغ”، مما أدى إلى أزمة في التمثيل عبرت عنها حركات اجتماعية غاضبة في شعارات مثل “نستطيع الاقتراع، ولكننا لا نملك الصوت”. كما تنخفض أعداد الملتحقين بالأحزاب، إذ وصلت في العقد الماضي إلى أدنى معدلاتها خلال نصف القرن الأخير.
تشير الشعبوية إلى مجموعة من المواقف السياسية التي تؤكد على فكرة «الشعب» وتقارن هذه المجموعة غالبًا بـ «النخبة». تطور المصطلح في القرن التاسع عشر وطُبِّق على العديد من السياسيين والأحزاب والحركات منذ ذلك الوقت، على الرغم من ندرة اختياره كوصف ذاتي. في إطار العلوم السياسية وغيرها من العلوم الاجتماعية، جرى توظيف العديد من تعريفات الشعبوية المختلفة، إذ اقترح بعض الباحثين رفض هذا المصطلح برمته.
تعرف الشعبوية بالإيديولوجية التي تمثل «الشعب» كقوة خيّرة أخلاقيًا وتناقضهم بـ «النخبة»، التي توصَف بالفساد والأنانية. يختلف الشعبويون في تعريف «الشعب»، ولكنه يمكن أن يستند وفقًا لأسس طبقية أو عرقية أو وطنية.
في العلوم الاجتماعية عرّف علماء آخرون مصطلح الشعبوية بشكل مغاير. وفقًا لتعريف الهيئة الشعبية الذي استخدمه بعض مؤرخي تاريخ الولايات المتحدة، تشير الشعبوية إلى مشاركة السكان الشعبية في صنع القرار السياسي. يقدم النهج المقترن بعالم السياسة إرنستو لاكلو (هو أستاذ النظرية السياسية في جامعة «ايسيكس» ببريطانيا) الشعبوية بوصفها قوة اجتماعية متحررة تتحدى بها الجماعات المهمشة أجهزة السلطة المهيمنة.
حتى خمسينيات القرن العشرين، اقتصر استخدام مصطلح «الشعبوية» عمومًا على المؤرخين الذين يدرسون حزب الشعب، ولكن في عام 1954، نشر عالم الاجتماع الأميركي إدوارد شيلس مقالًا يقترح الشعبوية على أنها مصطلح لوصف الاتجاهات المناهضة للنخبة في المجتمع الأميركي على نطاق أوسع. انطلاقًا من مقال شيلس، خلال ستينيات القرن العشرين، أصبح مصطلح «الشعبوية» أكثر رواجًا بين علماء الاجتماع والأكاديميين الآخرين في العلوم الاجتماعية. في عام 1967، عُقد مؤتمر عن الشعبوية في كلية لندن للاقتصاد، فشل مشاركوه بالتوصل لاتفاق على تعريف واضح ومفرد. نتيجة لهذا الاهتمام العلمي، نشأ مجال أكاديمي يُعرف بـ «الدراسات الشعبوية». نما الاهتمام بالموضوع بسرعة: بين عامي 1950 و1960 ظهر نحو 160 منشورًا عن الشعبوية، بينما كان هذا العدد بين عامي 1990 و2000 يزيد على 1500. جادل تاغارت بأن هذا الاهتمام الأكاديمي لم يكن متسقًا ولكنه ظهر في «دفعات» من البحوث التي عكست الظروف السياسية في ذلك الوقت.
وفي كتابه (ذهنية استخدام العواطف الشعبية) الذهنية المقصودة هي التي توصف عادة بـ «الشعبوية». وكانت هذه الظاهرة، التي تستخدم «عواطف الجماهير» لتحقيق مرامي سياسية للحركات التي تتبنّاها كأحد مرتكزات إيديولوجيتها.
المثال الصارخ على مثل هذه الحالة جسّده اليمين المتطرف في النمسا وفرنسا وبولندا وأغلبية البلدان الأوروبية وذلك تحت تسميات مختلفة أخذت أحياناً صفة الوطنية مثل حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسية بزعامة جان ماري لوبن، وصولاً إلى ما أطلق عليه الكثير من المحللين صفة «النازية الجديدة».
الجماهير الشعبية يتم تشبيهها في هذا السياق بكائن تنقصه كثيراً القدرة على القيام بمحاكمات عقلية موضوعية وغير محكومة بمتطلبات «اللحظة» التي تمليها الغرائز. هذا فضلاً عن أنها خاضعة «باستمرار أيضاً» للرضوخ إلى مختلف المؤثرات الخارجية التي يمكنها أن توجه الجماهير حيث تريد. باختصار تقوم بعملية «تلاعب» مغلّفة برداء «الإرادة الشعبية».
ويرى المؤلف في هذا السياق أن الأدبيات الكبيرة التي اهتمت بحركة الجماهير وآليات توجيهها منذ «جمهورية» أفلاطون الشهيرة وحتى الكتاب الشهير الذي يحمل عنوان «سيكولوجية الجماهير» الصادر عام 1895 لمؤلفه غوستاف لوبون، تؤكد الأطروحة القائلة ان «الجماهير»، وفيما هو أبعد منها «الشعب»، لا تملك درجة «النضج» الكافية.
ويرى الباحثون أن المشتركات بين الحركات “الشعبوية” -التي ساعدت على تقدمها في الاستحقاقات الانتخابية- عديدة ومتنوعة، لكن تأتي في مقدمتها مناهضة قضايا من قبيل: العولمة، والهجرة واللجوء، وسياسات التقشف المالي التي تُضعف الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، إضافة إلى النزعة القومية والدفاع عن الهوية الوطنية، والتركيز القوي على سياسات الدفاع، والسخرية من حقوق الإنسان.
استخدم بعض خبراء الاقتصاد هذا المصطلح للإشارة إلى الإفراط في العولمة منذ تسعينيات القرن العشرين، مع تحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وتزايد موجات الهجرة العالمية. وأيضا في إشارة إلى الحكومات المعنية بالإنفاق العام الضخم الذي تموله القروض الأجنبية، ما أدى إلى التضخم المفرط واتباع التدابير الطارئة.
لاحظت العالِم السياسي مارغريت كانوفان «عدم وجود حركة شعبوية دولية واعية للذات ربما حاولت السيطرة على الإشارة لهذا المصطلح أو الحد منه، ونتيجة لذلك تمكن أولئك الذين استخدموه من إرفاقه بمجموعة واسعة من المعاني». تختلف الشعبوية في هذا الأمر عن مصطلحات سياسية أخرى، كـ «الاشتراكية» أو «المحافظة»، والتي استخدمها الأفراد الذين قدموا تعريفاتهم الخاصة الداخلية للكلمة كتسميات ذاتية على نطاق واسع. بل إنها تشترك في أوجه التشابه مع مصطلحات أخرى كـ «اليسار المتطرف» أو «اليمين المتطرف» أو «التطرف»، والتي كثيرًا ما تُستخدم في الخطاب السياسي ولكنها نادرًا ما تُستخدم كتسميات ذاتية.
في الخطاب الشعبي استُخدم المصطلح أحيانًا بالترادف مع الغوغائية لوصف السياسيين الذين يقدمون إجابات مفرطة البساطة على أسئلة معقدة بطريقة عاطفية للغاية، أو بالانتهازية، لوصف السياسيين الذين يسعون إلى إرضاء الناخبين دون اعتبارات منطقية بمسار العمل الأفضل.
والخطاب الشعبوي هو خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد أو يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد، من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية. ويكثر الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ إيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي.
تكمن خطورة الخطاب الشعبوي في طابعه غير العقلاني، والذي يعادي العقل في كثير من الأحيان، واستمالته عواطف الجماهير التي قد تدغدغ غرائزهم وتحرض على العدوانية في بعض القضايا الوجودية الخاصة بالهوية والمعتقدات، وبذلك يصعب مجابهة الخطاب الشعبوي بخطاب عقلاني مضاد، فتلجأ مؤسسات الدولة والمثقفون أحياناً إلى الرضوخ للخطاب الشعبوي واستمالته والتماهي معه أحياناً لتجاوز موجات الشعبوية العاتية، وهذا الرضوخ صار يهدد القيم الديمقراطية في الغرب، ومازال يعوق التقدم نحو الديمقراطية في العالم العربي.
غالبًا ما يختلط مصطلح «الشعبوية» بمفاهيم أخرى كالغوغائية، ويُطرح عمومًا كشيء «يُخشى منه ومشكوك فيه». غالبًا ما طُبّق على الحركات التي تُعتبر خارج التيار السياسي الرئيسي أو تهديدًا للديمقراطية. لاحظ العالمان السياسيان إيف ميني وإيف سوريل أن «الشعبوية» أصبحت «شعارًا، لا سيما في وسائل الإعلام، لتسمية الحركات السياسية أو الاجتماعية حديثة العهد التي تتحدى القيم والقواعد والمؤسسات الراسخة في المعتقدات الديمقراطية».
ينطلق الباحث الألماني يان فيرنر مولر في كتابه (ما الشعبوية؟) من أن السياسة بطبيعتها شعبوية..
وفي رأيه أن الشعبوية هي إعادة طرح الأسئلة التي لا يستطيع الآخرون طرحها، بل ويسكتون عنها تخوفاً من المساس بالنظام القائم للدولة، كما يرى مولر أن مفهوم الشعبوية لا يتخذ المضمون نفسه في كل مكان؛ حيث أن الشعبوية في أمريكا تختلف عنها في أوروبا؛ فالمواطنون في الولايات المتحدة الأمريكية يتعاملون مع الخطاب الشعبوي بوصفه خطاباً تقدمياً بينما في أوروبا هو خطاباً رجعياً، وذلك حيث أن الخطاب السياسي الشعبوي -على حد قولهم – يتميز بكونه يدعي تمثيل الشعب جميعه وينتمي إليه بناء الشعار الرئيس للشعبوية والذي هو “نحن الشعب”.
وهو يرى نقد النظام الديمقراطي اليوم تحول إلى ممارسة شعبوية. واعتبر أن “نظرية الشعبوية هي بالضرورة نظرية الديمقراطية”، ويرى أن الشعبوية “يمكن أن تظهر غالباً كحركة ديمقراطية أو كديمقراطية راديكالية، لكنها في صميمها تقف على النقيض من الديمقراطية”.
وقد احتوى كتابه على عشر أطروحات حول الشعبوية
أولاً: لا يمكن ربط الشعبوية بناخبين محدّدين، أو مواصفات سوسيونفسية أو “أسلوب سياسي”.
إن الشعبويين ليسوا معادين للنخبة فحسب، ولكنهم معادون للتعدّد بشكل مبدئي. إن ادعاءهم الدائم يقول: نحن ـ ونحن فقط ـ من يمثل الشعب الحقيقي، ومواقفهم السياسية تنتهي مباشرة إلى تمييز أخلاقي بين الخطأ والصواب، وليس يميناً ويسارا فقطً. فلا شعبوية بدون استقطاب أخلاقي.
ثانياً: إن الديمقراطية والتمثيل فكرتان مختلفتان. فالتمثيل في ذاته ليس مبدأ ديمقراطياً. والشعبويون ليسوا أعداء لمبدأ التمثيل. لكنهم حين يجلسون على كراسي المعارضة، لا يبرحون يؤكدون بأن الشعب ممثل من طرف النخب المزيّفة والفاسدة.
ثالثاً: ينتج بسرعة عن النقد الموجّه إلى الممثلين المزيفين، نقد راديكالي للمؤسسات الديمقراطية. ولأن الشعبويين يمثلون الأغلبية الصامتة (أو بالأحرى كل الشعب)، فإن المؤسسات لا ريب تعاني من خلل ما، وإلا لوصل الشعبويون منذ زمن إلى السلطة.
رابعاً: إن الشعبويين يفهمون علاقة التمثيل بمعنى تفويض جبري. ووفقاً لذلك يتوجّب ببساطة تنزيل إرادة الشعب على أرض الواقع.
خامساً: إن الشعبويين يستعملون هذا التصوّر الرمزي عن الشعب ضد المؤسسات القائمة. إن تصوّرهم هذا عن شعب حقيقي وخالص أخلاقياً، لا يمكن تفنيده على المستوى الواقعي.
سادساً: إن الشعبويين ليسوا أحزاب رفض أو أحزاباً احتجاجية، ولهذا لا يمكن الحكم عليهم بأنهم غير قادرين على إدارة دفّة السلطة. بل إنهم يحكمون في توافق مع المنطق الداخلي للشعبوية: هم، وفقط هم من يمثّل الشعب الحقيقي، ولهذا لا يمكن وجود معارضة شرعية لهم.
سابعاً: وهذا يعني بشكل عمليّ سيطرة الشعبويين على السلطة، وإضعاف الضوابط والتوازنات أو تعطيلها بالمرة، نهج سياسة الزبونية ونزع المصداقية عن كل معارضة، سواء في المجتمع المدني أو الإعلام. وهم يقولون بذلك اعتماداً على شرعنة ذاتية أخلاقية واضحة: في الديمقراطية، يتوجّب على الشعب أن يمتلك دولته، والأعمال الخيرية يجب أن تعرف طريقها إلى الشعب الحقيقي، وليس إلى من لا ينتمي إليه، أما الأصوات المعارضة في الإعلام والمجتمع المدني فهي أصوات للقوى الأجنبية، وهذا كله يتناقض مع المبادئ الأصلية للديمقراطية.
ثامناً: إن ميل الليبراليين إلى إقصاء المجموعات الشعبوية المعارضة، لا يخلو من إشكالية، لأنهم عبر ذلك يفعلون الشيء نفسه الذي يرمون الشعبويين به. إنهم يقصونهم باسم الأخلاق، تماماً كما يقصي الشعبويون بعض المواطنين أخلاقياً من الشعب الحقيقي والمنسجم.
تاسعاً: إلى جانب هذا التناقض الذاتي الذي يقوم على إقصاء من يطلب إقصاء الآخرين، نقف على ضعف أساسي في الموقف الديمقراطي ـ الليبرالي: إنه يريد إلحاق الجميع بالكل! لكن ما دامت هناك شعوب ودول مختلفة، ومؤسسات تحمل معنى معيارياً وليس فقط تطبيقياً للناس، فإن ذلك لن يكون بالأمر المقنع جداً. إن الليبراليين يفترضون أن من يملك جواز سفر بلد ما أو يعيش منذ فترة طويلة في بلد ما، فهو ينتمي إليه.
عاشراً: هل يوجد اليوم عدد كبير من الشعبويين في أوروبا؟ نعم. وهل يتم توسيع مفهوم الشعبوية من طرف النخب الأوروبية (بوعي أو من دونه)، من أجل تجاهل النقد غير المرغوب فيه؟ أجل، وحتى على هذا السؤال يتوجّب الجواب بنعم.
ظهرت الشعبوية في ثلاثينات القرن العشرين وخاصة في أمريكا اللاتينية، حيث برزت الوجوه الأكثر شعبية نتيجة سياسات حكومات ضعيفة وفاسدة، والأكثر شهرة هي التجربة التي خاضها الزعيم خوان دومنغو بيرون والخطابات النارية لزوجته ايفيتا.
واستحكمت السياسات الشعبوية الجاذبة للجماهير في العالم العربي منذ أواخر الأربعينات ووصلت أعلى مستوى لها مع بروز الآيديولوجية الناصرية في مصر تحت قيادة جمال عبد الناصر. وعلى عكس ما هو حال باقي التجارب الأخرى، انجذب للناصرية الكثير من المثقفين بل وحتى رجال الأعمال أكثر من الجماهير الفقيرة.
توالت الحركات الشعبوية في سياق البيرونية ولكن باسم مبادئ متناقضة وصولا إلى الزمن الراهن: في الإكوادور حيث أقترح الرئيس عبد الله بوكرم بين 1996 – 1997 تشكيل «حكومة من الفقراء» وهو محاط بأكبر أثرياء البلاد، أو أيضا مع الرئاسة «الاجتماعية» لهوغو شافيز في فنزويلا، فلقد نجح في توحيد وتوجيه موجة شعبية عاتية كانت ترفض فساد الطبقة السياسية وتتحرك للتغيير.
على الرغم من ان معاني الشعبوية متضاربةٌ، حيث تتراوح بين الرومانسية الثورية والدُّونِيّة السياسية، لكن ما يجمع معظم دُعاة الشعبوية: مقاربتهم التبسيطية في استخدامهم لمفردة «الشعب»، وادعاؤهم أنهم صوت وصدى وضمير هذا «الشعب»، فضلاً عن احتكارهم لتمثيله من دون مراعاة مفاهيم التفويض والتعاقد السليم، وتركيزهم على خطابٍ عاطفيٍّ يفتقر للرؤى الواضحة، مع ترويجهم، المباشر أو غير المباشر، لعداء الفكر.
ويرى الباحث الفرنسي بيير أندريه تاغييف أنه من الخطأ مساواة الشعبوية مع الديماغوجية. فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه. ويقول الباحث بأن للشعبوية عددا من الخصائص الأولية. أولها أنها تمثل ثورة ضد النخبة. وهي تزعم أن السياسة هي شيء سهل ويمكن إدراكها بالنسبة للجميع وأن اعتبارها معقدة يعود إلى مكيدة وضعها النخبويون لإبقاء المواطنين العاديين خارج عملية صنع القرار. ويرى تاغييف أن معظم جمهور الخطاب الشعبوي من الأميين والفقراء خصوصا في المناطق الحضرية.
لذلك تتغذى مختلف أنواع الشعبويات على أحاسيس التهميش والحرمان والغضب لدى كامل المجتمع أو شرائح معينة منه، سواء كان هذا التهميش حقيقيا أو متخيلاً. يمتاز الخطاب الشعبوي ببساطته السياسية ووضوحه الاخلاقي، في الغالب على نحو مضلل، من خلال افتراض صراع بين معسكرين: أغلبية مظلومة هي الشعب وأقلية ظالمة هي النخبة.
بسبب محتواه التبسيطي وثنائية الخير والشر فضلاً عن طابعه التحريضي فيه، يجد الخطاب الشعبوي الكثير من الآذان الصاغية بين الجماعات السكانية التي يتحالف فيها الفقر مع ضعف الوعي، لأنه يقدم حلولاً سهلة، وان تكن مزيفة، لمشاكل معقدة، وعبر هذه الحلول يَعدُ هذا الخطاب جمهوره بإنصاف قريب طال انتظاره.
في كتابها (أنا الشعب، كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية) تخلص مولفته ناديا أوربيناتي الى عدة استنتاجات
1 ـ تتطور الشعبوية داخل الديمقراطية التمثيلية وتحوّل نمطها لكن من دون إسقاطها.
2 ـ ظاهرة الشعبوية في السلطة تمثل التشوّه الأساسي للديمقراطية المعاصرة.
3 ـ الشعبوية ليست حلاً لأزمة المواطنية، بل هي منهج تنصّب فيه نفسها كغالبية خيّرة تتوسل الانتخابات لتأكيد الغلبة على ديمقراطية الأحزاب المخفقة.
4 ـ تتخذ الشعبوية أنماطاً متعددة، إلا أنها في المحصلة لا تستطيع إيجاد حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية التي طرحت نفسها حلاً لها، في مواجهة كل الأحزاب والأيديولوجيات.
في كتاب (نحن في حالة حرب) يقول (جانرو بيرتو كازاليجيو) و(بيبي غريلو) إن هناك حرباً تدور بين (العالم القديم) و(العالم الجديد). يمثل العالم القديم ديمقراطية الأحزاب والسياسة الحزبية والتمثيل السياسي. أما الجديد، فيمثله مواطنون أحرار مرتبطون أفقياً عبر الشبكة من غير منظمات ولا انقسام بين (الداخل) و(الخارج).
(لا ترغب شبكة الانترنت بالوسطاء)، كما يقول كازاليجيو وغريلو، و(هذا يعني أن الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام التقليدية محكومة بالاختفاء. ويمثل اندثار بنية الحزب التقليدية خطوة ضرورية في مسعى المضي قدماً نحو سياسة أكثر سيولة. ومن ثم فإن وضع الشبكات الرقمية الثوري هو واحد من عوامل عدة تكمن خلف النهضة الشعبوية.
.
رابط المصدر: