الصين في إفريقيا: تحقيق غايات القارة أم البحث عن المصالح الاستراتيجية؟

مصطفى جالي

اجتذب الوجود الاقتصادي المتنامي للصين في إفريقيا (تحديدًا إفريقيا جنوب الصحراء) على مدى العقدين الماضيين قدرًا كبيرًا من الاهتمام؛ حيث إن الزيادة السريعة في مشاركة الصين الاقتصادية وحضورها السياسي في إفريقيا يعتبران أهم تطور في قارة إفريقيا منذ نهاية الحرب الباردة. ويشار إلى الصين على أنها “إمبريالية جديدة”، وطرف فاعل حديث، واقتصاد عملاق، وقوة ناشئة. كما يُلاحَظ أن هناك ميلًا قويًّا إلى إطلاق الأحكام الأخلاقية خلال تقييم حضورها في القارة؛ فأنشطة الصين في إفريقيا كثيرًا ما تعتبر “شريرة” عندما يُنظر إليها على أنها تمثل سعي الصين للحصول على الموارد الطبيعية والإضرار بجهود الأفارقة لتحسين الاقتصاد وبناء مستقبل مستدام، في حين أنها توصف بأنها “حميدة” عندما ينظر إليها على أنها تسهم في إرساء أسس للتنمية الاقتصادية طويلة الأجل من خلال مشاريع البنيات الأساسية.

وتهيمن سرديتان على دوافع مشاركة الصين في إفريقيا: الأولى ترى في الدور المتنامي للصين في إفريقيا جزءًا من التدافع الجديد على الفرص الاقتصادية والموارد الاستراتيجية، وخاصة النفط وبعض المعادن، وتشدِّد الثانية على أن طموحات الصين السياسية في إفريقيا جاءت لكي تتحدى النفوذ الغربي في المنطقة.

لا شك أن الحصول على الموارد، يلعب دورًا مهمًّا في مشاركة الصين الاقتصادية في إفريقيا، ولكنه ليس التفسير الوحيد لعلاقاتها مع المنطقة، والتي تختلف كثيرًا عمَّا قد يوحي به ذلك.

تحاول هذه الورقة طرح إشكالية جوهرية مفادها: هل يمكن اعتبار انخراط الصين القوي والسريع اقتصاديًّا في إفريقيا غاية في حدِّ ذاته (أي من أجل مصلحة إفريقيا) أم إنه مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أكثر أهمية؟

لمعالجة هذه الإشكالية نتساءل عن التطور التاريخي للعلاقات الصينية-الإفريقية، ودوافع دخولها للقارة، وعن مكانة القارة في سياستها الخارجية والتحديات التي تعترضها، كما نتساءل عن مكاسب القارة من دخول الصين ومخاوفها، وأخيرًا الموقع الذي تحتله الصين بين باقي القوى المتنافسة.

من التعاون السياسي إلى التعاون الاقتصادي

عرفت العلاقات بين جمهورية الصين الشعبية وإفريقيا تاريخيًّا تغيرًا كبيرًا، من سياسية صريحة إلى تركيز أكبر بكثير على العلاقات الاقتصادية. في الخمسينات من القرن العشرين، احتاجت الصين لحركات التحرير في جميع أنحاء إفريقيا في نضالاتها المناهضة للاستعمار. وبعد الاستقلال توددت الحكومة الصينية إلى الحكومات الإفريقية الجديدة للحصول على اعتراف دبلوماسي ودعم لمطالبة بيجين بتمثيل الصين في الأمم المتحدة بدلًا من حكومة الصين القومية “تايوان” التي كانت ولا تزال تعترف بها الدول الغربية. في الستينات، كانت إفريقيا أيضًا منطقة تنافس بين الصين والاتحاد السوفيتي. لذلك، قدمت الحكومة الصينية مساعدات إلى إفريقيا، وكان أبرز مثال على ذلك هو خط السكك الحديدية الذي بُني في السبعينات لحصول زامبيا على منفذ بحري كبديل للطريق التقليدي عبر زيمبابوي، والتي كانت آنذاك تحت حكم الأقلية البيضاء.

كانت المعونات التي قدمتها الصين إلى إفريقيا في تلك الفترة كبيرة بالنسبة لبلد فقير نسبيًّا كالصين، لذلك ظلت التجارة مع إفريقيا محدودة، وظل الاستثمار الأجنبي غير موجود، ومن الواضح أن المساعدات كانت مدفوعة بأهداف سياسية وليس اقتصادية، وكان خطاب التزام الصين فقط من باب التضامن ومعاداة الإمبريالية.

بعد وفاة الزعيم الصيني، ماو تسي تونغ، 1976، ونتيجة التغيرات الاقتصادية الجذرية التي اعتمدتها الصين منذ أواخر السبعينات، انخفضت المساعدات الصينية للخارج بشكل كبير، كما انخفض وجودها في إفريقيا، ولكن بعد الانتقادات الغربية للقمع في ميدان تيانانمين، في عام 1989، أعادت الصين التأكيد على علاقاتها مع البلدان النامية وخاصة إفريقيا. وفى أواخر التسعينات، وعقب جولة للرئيس الصيني الأسبق، جيانغ زيمين، قادته إلى ست دول إفريقية، عام 1996، بدأت المنطقة مرة أخرى تستحوذ على اهتمام الصين. وفى عام 2000، عُقد المنتدى الأول للتعاون الصيني-الإفريقي في بيجين، وعلى الرغم من أن الخطاب السياسي المحيط بهذه الاجتماعات لم يتغير إلى حدٍّ كبير عن الحقبة الماوية، فقد تحول المحتوى إلى التأكيد على توسيع العلاقات الاقتصادية، والمبادلات التجارية، والاستثمار الصيني(1).

الدوافع: بين الجيواقتصادية والجيوسياسية

على النقيض من التصور التقليدي بأن الصين لا تهتم إلا بالموارد الطبيعية في إفريقيا، فإن مصالح الصين في إفريقيا تشمل عدة أبعاد: سياسية واقتصادية وتجارية. وقد تختلف أهمية هذه الأهداف بالنسبة للصين بحسب الظرفية ووفقًا لطبيعة مشاركتها في المنطقة. ومن المفيد في هذا الباب التمييز بين صنفين رئيسين من المصالح التي دفعت الصين إلى الانخراط بكل ثقلها في المنطقة:

أولًا: أهداف جيوسياسية دبلوماسية: وتشمل عزل تايوان، وكسب حلفاء للحصول على الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية، وزيادة القوة الناعمة للصين في المنطقة، وتقديمها كبديل للغرب.

منذ الأيام الأولى لنشأة جمهورية الصين الشعبية، كانت المصالح السياسية هي المرتكز في علاقة بيجين بإفريقيا، وفي سعيها وراء الأصدقاء في النظام الدولي الثنائي القطب بعد الحرب الباردة ، حددت بيجين الدول المستقلة حديثًا في إفريقيا كمجموعة رئيسية يمكن التعاطي معها، لقد رأت الصين أرضية مشتركة وشعورًا بالتعاطف مع إفريقيا نتيجة لتجاربهما التاريخية المشتركة، فإفريقيا والصين كانتا ضحيتين “للاستعمار من قبل الرأسماليين والإمبرياليين” وواجهتا نفس السعي إلى الاستقلال الوطني والتحرير بعد الحرب العالمية الثانية، وبموجب هذه المبادئ، وخلال أول لقاء رسمي للصين مع إفريقيا في مؤتمر باندونغ، عام 1955، شارك رئيس الوزراء، تشو إن لاي، وبنشاط إلى جانب قادة ست دول إفريقية، هي: مصر وإثيوبيا وغانا وليبيريا وليبيا والسودان.

وفي ستينات القرن العشرين، وبسبب الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لإشراك إفريقيا، فضلًا عن الصراع المتصاعد بين الصين والسوفيت، وسط تلك المنافسة ازداد التركيز على إفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الصينية. وخلال الفترة من 1963 إلى 1964، زار رئيس الوزراء، تشو إن لاي، عشر دول إفريقية وأصدرت الصين “المبادئ الثماني للمساعدة الاقتصادية والتكنولوجية الأجنبية”. وقد صُمِّمت مبادئ المعونة هذه للتنافس في نفس الوقت مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي للحصول على دعم إفريقيا؛ حيث استخدمت الصين مساعداتها الخارجية لإفريقيا كأداة لتعزيز مصالحها السياسية.

وخلال الثورة الثقافية، وتحت تأثير الأيديولوجية الثورية، قدَّمت الصين كميات كبيرة من المساعدات الأجنبية لإفريقيا، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية الداخلية التي كانت تواجهها. فقد قدمت الصين قرضًا بدون فوائد بقيمة 988 مليون يوان، وقد أسهمت مشاريع المعونة الخارجية هذه في إقامة علاقات دبلوماسية في تلك الفترة شملت 19 دولة إفريقية.

وبحلول منتصف الثمانينات، كانت جهود بيجين السياسية والمعونات قد أكسبتها علاقات دبلوماسية مع 44 دولة إفريقية. ومن حيث الأهمية السياسية لإفريقيا، كان الهدف الرئيسي للصين تاريخيًّا هو الاعتراف الدبلوماسي وإقامة علاقات رسمية تعزز الشرعية السياسية للنظام الشيوعي طوال ستينات القرن العشرين؛ حيث أسهم دعم الدول الإفريقية بشكل كبير إلى خفض الضغوط على الصين، تلك الضغوط الناجمة عن العزلة الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ومنذ ذلك الحين ظل تقارب الصين تجاه إفريقيا ثابتًا.

من ناحية أخرى، تعتمد الصين اعتمادًا كبيرًا على الدعم الدبلوماسي والتعاون مع البلدان الإفريقية بشأن القضايا الرئيسية على الساحة الدولية وفي المحافل متعددة الأطراف؛ حيث تمثِّل الدول الإفريقية الـ54 أكثر من ربع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وفي عام 1972، اقتنعت الصين بالأهمية والقيمة السياسية الحقيقية لإفريقيا عندما صوَّت 26 بلدًا إفريقيًّا لصالح استئناف جمهورية الصين الشعبية مقعدها في الأمم المتحدة.

وفي أعقاب أحداث ميدان تيانانمين، في عام 1989، واجهت بيجين عزلة دولية خطيرة وعقوبات غربية، ومرة أخرى، فإن ستة بلدان إفريقية هي من أنقذت الصين بدعوة وزير الخارجية الصيني إلى زيارتها، وكان أول رئيس دولة ووزير خارجية الذي زار الصين بعدها من إفريقيا أيضًا.

في عام 2008، وقبل أولمبياد بيجين، أصبحت قضية “التبت” نقطة مؤلمة بالنسبة للصين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ حيث اعتمدت الصين على البلدان الإفريقية في التزام الصمت وعدم إصدار بيانات تدعم سياسة التبت من أجل نزع فتيل المناقشات أو الأعمال العدائية واستباقها.

اليوم، وفيما يتعلق بقضايا تتراوح بين حقوق الإنسان وإصلاح الأمم المتحدة والأمن الإقليمي وبين المصالح الوطنية الأساسية للصين، تتطلع الصين إلى أن تكون إفريقيا دائمًا إلى جانبها.

ومن بين التطلعات السياسية الرئيسية للصين في علاقتها مع إفريقيا كذلك إنهاء الوجود الدبلوماسي لتايوان في القارة، فبالنسبة لبيجين، فإن تبني إفريقيا لسياسة “الصين الواحدة” وقبول بيجين بدلًا من تايبيه باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للصين أمر يتعلق بشرعية النظام السياسي(2).

تاريخيًّا، خلال الحرب الباردة وقبل سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، كانت الأيديولوجية عاملًا رئيسيًّا في تحديد سياسة الصين تجاه البلدان الإفريقية؛ حيث كانت الصين ترى نفسها المرشح الأول في العالم النامي ضد الاستعمار والإمبريالية. إن التركيز على الأيديولوجية نشأ بسبب البيئة الخارجية العدائية التي أجبرت الصين على البحث عن حيز دبلوماسي ودي لضمان بقائها، وبعد التخلي عنها تدريجيًّا منذ 1979، طورت علاقات واسعة مع جميع البلدان الإفريقية التي تتبنى سياسة الصين الواحدة.

 إذا كانت علاقة الصين مع البلدان الإفريقية مدفوعة في المقام الأول بالمصالح الاقتصادية والاعتبارات السياسية، مثل حشد المؤيدين الدوليين ودعم شرعية الحكومة الصينية، فإن مصلحة الصين الأيديولوجية في إفريقيا لم تختف نتيجة لتحويل البلاد أولوياتها إلى الميدان الاقتصادي، وبدلًا من ذلك، اتخذت شكلًا مختلفًا وأكثر دهاء، شكلًا يدعم شرعية بيجين من خلال نشر وتعميم نموذجها في التنمية؛ حيث كلما زاد عدد البلدان التي تتبنى نهج بيجين وتعتمده، شعرت الصين بأنها أقل عزلة. كما تود بيجين أن ترى الحكومات غير الغربية وغير الديمقراطية تنمو وتزدهر، وذلك ببساطة لأنها تزيد من شرعية نظامها السياسي دوليًّا من خلال إظهار أن الديمقراطية الغربية ليست قيمة عالمية. لذلك، فإن أي نجاح للحكومات غير الديمقراطية في إفريقيا، يُنظر إليه في حدِّ ذاته على أنه يشكِّل دعمًا لشرعية الحزب الشيوعي الصيني(3).

ورغم أن الصين لا تزعم سعيها إلى فرض نموذجها الخاص على بلدان إفريقيا، إلا أن الإعجاب بالنموذج الصيني في إفريقيا يُنظر إليه باعتباره يمنح الشرعية للحزب الشيوعي الصيني أيضًا في الداخل(4).

ثانيًا: أهداف جيواقتصادية(5): وتشمل أمن إمدادات الطاقة والموارد المعدنية والزراعية من جهة، والأهداف التجارية المتعلقة بالسوق الاستهلاكية التي توفرها لمصنِّعيها وشركاتها في القطاعين الخاص والعام، بهدف تعزيز الصادرات ودعم التوسع الدولي للشركات الصينية والحد من الاعتماد على التجارة مع الغرب من ناحية ثانية.

وهناك جدل داخل الصين حول ما إذا كانت المصالح السياسية أو المصالح الاقتصادية يجب أن تمثل الأولوية القصوى للصين في علاقتها مع إفريقيا. وعلى الرغم من الأهمية السياسية لإفريقيا، فقد رفعت الصين الاعتبارات الاقتصادية إلى مستوى أعلى بكثير في جدول أعمالها المحلي والخارجي منذ بداية الإصلاح والانفتاح في عام 1979، وهذه هي النتيجة المباشرة لاستراتيجية بيجين لتنويع وتعزيز شرعيتها من خلال تحقيق التنمية الاقتصادية لعامة السكان.

ووفقًا للمحلِّلين الصينيين، فإن العقود الست من العلاقات الاقتصادية الصينية-الإفريقية يمكن تقسيمها بشكل تقريبي إلى ثلاث مراحل:

  • أولًا: من عام 1949 إلى عام 1979: كانت الأنشطة الاقتصادية للصين في إفريقيا مدفوعة أساسًا بجدول أعمال الصين السياسي، وركزت على تقديم مساعدات اقتصادية للدول الإفريقية المستقلة حديثًا من أجل بناء علاقات دبلوماسية، ودعم “مناهضة الإمبريالية” ومكافحة الاستعمار في إفريقيا، والحصول على دعمهم لجمهورية الصين الشعبية على الصعيد الدولي.
  • ثانيًا: منذ بداية الاصلاح والانفتاح وحتى منتصف التسعينات: تحول تركيز السياسة الخارجية للصين إلى دعم التنمية الاقتصادية المحلية، وقد أدى هذا التحول بشكل مباشر إلى التعديل التدريجي لأولويات الصين في سياستها في إفريقيا من الخدمات السياسية إلى “التعاون الاقتصادي المفيد للطرفين”، ومن تقديم المساعدة إلى تعزيز “عقود الخدمات والاستثمار والتجارة”.
  • ثالثًا: ابتداءً من منتصف التسعينات: بدأت نظرية “استخدام الأسواق والموارد المحلية والدولية على حدٍّ سواء” تسود العلاقات الاقتصادية الخارجية للصين. لقد أدى هذا التغيير إلى ازدهار التعاون الاقتصادي الدولي للصين مع إطلاق استراتيجية “الذهاب إلى الخارج” (Going Out)، في عام 1996، من جانب الرئيس جيانغ زيمين بعد زيارته لست دول إفريقية وتم اعتمادها في عام 2000 بوصفها استراتيجية وطنية وظلت سارية المفعول منذ ذلك الحين(6).

المواد الأولية: إن احتياطيات الطاقة الغنية في إفريقيا والمعادن والمواد الخام تغذِّي بشكل مباشر سعي الصين للحصول على الموارد الطبيعية لتعزيز نموها الاقتصادي المحلي. وإفريقيا هي ثاني أكبر قارة في العالم بمساحة 30 مليون كيلومتر مربع و1.2 مليار نسمة وتحتوي على كمية هائلة من الموارد الطبيعية، وقد جعلت هذه السمة، إلى جانب الكثافة السكانية المنخفضة نسبيًّا وقطاع الصناعات التحويلية الصغيرة، إفريقيا هدفًا رئيسيًّا للواردات الصينية. كما تحتل إفريقيا المرتبة الأولى أو الثانية من حيث الوفرة على مستوى العالم، بالنسبة لمعادن كالبوكسيت والكوبالت والماس وصخور الفوسفات والمعادن البلاتينية والكولتان والفيرميكوليت والزركونيوم، كما أن العديد من المعادن الأخرى موجودة بكميات كبيرة، مثل الذهب والنحاس والفحم والنفط وما إلى ذلك(7).

بالتالي، فإن النفط والمعادن هي في صميم العلاقة الاقتصادية بين الصين وإفريقيا وينعكس ذلك في تكوين وارداتها والقطاعات الرئيسية التي تستثمر فيها شركاتها. وعلى الرغم من أن المصادر تختلف اختلافًا كبيرًا في تقديراتها لحجم استثمارات الشركات الصينية في النفط والتعدين في إفريقيا، فإنها تتفق جميعها على أن هذه القطاعات هي الأهم من حيث الاستثمار الصيني في المنطقة.

 وعلى الرغم من أن المشاريع والقروض الصينية لا تتركز فقط في الصناعات الاستخراجية، فإنها ترتبط ارتباطًا غير مباشر بالقطاع من خلال الاستخدام واسع النطاق للقروض المعروفة باسم “الموارد مقابل البنيات التحتية”، والتي غالبًا ما تُستخدم لتمويل مشاريع البنية التحتية في المنطقة.

وقد جعل اعتماد الصين المتزايد على النفط والمعادن المستوردة منذ منتصف التسعينات من القرن العشرين ضمان إمدادات المواد الأولية هدفًا استراتيجيًّا؛ حيث اعتمدت استراتيجيات مختلفة لزيادة أمن تلك الموارد، بما في ذلك تنويع مصادر الواردات، واقتناء الشركات الصينية للموارد في الخارج، والعقود طويلة الأجل مع المورِّدين الأجانب من جهة.

من جهة ثانية، عملت الصين على تشجيع شركات النفط والتعدين على الاستثمار في الموارد الأساسية في الخارج، ومن ثم أصبحت المنطقة هدفًا مهمًّا للاستثمار الصيني. في عام 2013، قدَّرت الوكالة الدولية للطاقة أن أكثر من ربع النفط الذي تنتجه الشركات الصينية في الخارج يأتي من إفريقيا، وقد استثمرت الشركات الصينية في التعدين والمعادن في إفريقيا أكثر مما استثمرت في قطاع الطاقة. وللأسف، لا توجد معلومات عن إنتاج الشركات الصينية في المنطقة للمعادن أو عن حصة الواردات الصينية التي تمثلها تلك المعادن. الاستراتيجية الثالثة لزيادة أمن الموارد هي العقود طويلة الأجل المبرمة مع الموردين، وهنا، فإن الدور الذي تلعبه القروض المعروفة باسم “مبادلة الموارد مقابل البنيات التحتية” كبير جدًا؛ حيث تشمل العقود التزام الحكومة المقترضة بتوريد المواد الأولية على مدى عدد من السنوات من أجل سداد القرض، طالما أن المقترض لا يتراجع عن القرض، وهذا يضمن إمدادات آمنة على المدى الطويل(8).

كما أن إفريقيا أصبحت مهمة لأسباب تتعلق بالأمن الغذائي الصيني؛ حيث تتجه بيجين إلى إفريقيا لشراء أراض زراعية شاسعة بهدف استثمارها لإطعام سكانها الذين سيتجاوزون 1.5 مليار شخص بحلول عام 2025.

وقد زادت الواردات الصينية من المنتجات الزراعية الإفريقية في 2020 بنسبة 14 في المئة في المتوسط سنويًّا، مما جعل الصين ثانيَ أكبر مستورد في هذه الفئة؛ وتعد جنوب إفريقيا ونيجيريا وأنغولا ومصر والكونغو الشركاء الرئيسيين الخمس للصين من حيث واردات المنتجات الزراعية(9).

التجارة: لقد أبرزت عدة دراسات استقصائية أهمية الاعتبارات التجارية مثل الوصول إلى السوق المحلية، والاستفادة من الاتفاقات التجارية الإفريقية، وانخفاض تكاليف الإنتاج، والتوفر على المواد الخام في القرارات الاستثمارية للشركات الصينية في القارة. ظلت الصين تراقب إفريقيا لإمكاناتها السوقية؛ حيث تتميز الصناعات التحويلية الصينية بإنتاج المنسوجات والإلكترونيات والمنتجات الأخرى بسعر منخفض نسبيًّا، وهو ما يناسب السوق الإفريقية الأقل تقدمًا. وقد تعززت أهمية إفريقيا كسوق للصين بشكل كبير نتيجة للأزمة المالية الدولية في عام 2008 وتأثيرها الرهيب على صناعات التصدير، عندما انكمش الطلب على السلع الصينية من الاقتصادات الغربية الراكدة، فاضطرت صناعات التصدير في الصين إلى اللجوء إلى أسواق بديلة لملء الفراغ. علاوة على ذلك، وفي الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى الارتقاء باقتصادها الصناعي والارتقاء في سلسلة التوريد العالمية، فإن إفريقيا، بمواردها العمالية الهائلة وغير المستغلة، تعتبر الموقع المثالي للصناعات الصينية كثيفة العمالة، ومن خلال نقل تلك الصناعات والوظائف ذات المهارات المنخفضة إلى إفريقيا؛ حيث تسعى الصين إلى المزيد من الصناعات في التكنولوجيا الفائقة لتحسين نموذجها التنموي وجودته(10).

ومن المبادرات الأخرى الرامية إلى تعزيز التجارة والاستثمار الصينيين في إفريقيا إنشاء مناطق اقتصادية خاصة؛ حيث أُنشئت خمس مناطق تقريبًا، اثنتان منها في نيجيريا ومنطقة واحدة في كل من إثيوبيا وزامبيا وموريشيوس، وأخرى يجري إنشاؤها تهدف أساسًا إلى تزويد السوق المحلية وربما الإقليمية بدلًا من أن تكون منصة للصادرات إلى السوق العالمية(11). وتشير دراسة أجرتها “وكالة ماكنزي الأميركية” إلى أكثر من ألف شركة صينية تعمل حاليًّا في إفريقيا، مصادر أخرى تتحدث عن ألفين وخمسمئة شركة، 90% منها شركات خاصة، فيما توقعت أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من إفريقيا في حلول 2025 إلى 440 مليار دولار(12).

وبالمقارنة بعام 1950، عندما بلغ إجمالي التجارة الصينية الإفريقية 121 مليون دولار فقط، تجاوزت التجارة الصينية-الإفريقية بحلول عام 2000 عتبة 10 مليارات دولار. وفي عام 2020، وصلت قيمة التجارة بين الصين وإفريقيا إلى 187 مليار دولار، وبلغت قيمة الواردات 72.7 مليار دولار والصادرات 114.2 مليار دولار أميركي. وبحسب وزارة التجارة الصينية، فإن الصين حافظت على مكانتها كأكبر شريك تجاري مع إفريقيا لـ12 عامًا متتالية، في الوقت الذي عززت فتح سوقها على إفريقيا، وشملت استثمارات الشركات الصينية الجديدة 47 دولة إفريقية في عام 2020، كما وصلت القيمة التعاقدية لمشاريع المقاولات الصينية في إفريقيا إلى 67.9 مليار دولار أميركي ما يشير إلى الثقة المتنامية للشركات الصينية في السوق الإفريقية(13).

إن التمييز بين الدوافع الجيواقتصادية والجيوسياسية ليس منفصلًا في أغلب الأحيان؛ حيث يمكن النظر إلى الأهداف الجيواقتصادية التي تم التطرق اليها على أنها تخدم أغراضًا جيوسياسية على المدى البعيد من حيث ضمان استمرار النمو الاقتصادي الذي يشكِّل مصدر الشرعية للحزب الشيوعي، وخارجيًّا من خلال المساهمة في الصعود السياسي للصين على الصعيدين، الإقليمي والعالمي.

إفريقيا كتكتيك لاستراتيجية الصين الكبرى

خلال إدارة هو جينتاو (2003-2012)، بدأت الصين في تبنِّي مبدأ شمولي في السياسة الخارجية “من جميع النواحي/في جميع الاتجاهات” (all-round/all-directional) الذي لا يفرِّق نظريًّا بين المناطق الجغرافية أو البلدان. ووفقًا لكبار المحلِّلين الصينيين، فإن السياسة الخارجية الصينية لا ترتبط بالعلاقة مع منطقة أو دولة بعينها، بل تعتمد على دبلوماسية متوازنة تسعى إلى تطوير العلاقات مع جميع القوى المهمة في العالم. وبموجب هذا المبدأ، وضعت الصين خريطة استراتيجية محددة لجميع المناطق والبلدان في العالم قوامها: القوى الكبرى هي المفتاح؛ ومحيط الصين يشكِّل الأولوية؛ والبلدان النامية هي الأساس؛ والمنابر متعددة الأطراف هي المنصة. ورغم ذلك فإن البلدان ليست كلها متساوية، والواقع أن الصين تفرق فيما بينها، ويتم التعامل مع جيران الصين والقوى الكبرى باعتبارها مجالات أكثر أهمية بالنسبة للسياسة الخارجية. ومن ناحية أخرى، فإن علاقاتها مع القوى الكبرى، مثل علاقة الصين بالولايات المتحدة، مهمة بطبيعة الحال لأن لها التأثيرَ الأكبرَ على المصالح الوطنية للصين(14).

من هذا المنطلق، فإن فئة البلدان النامية التي تنتمي إليها الدول الإفريقية، تشكِّل “أساسًا” أو يمكن اعتبارها “تكتيكًا” لاستراتيجية الصين الكبرى (أي إجراء من بين مجموعة من الإجراءات المحددة التي تساعد على تنفيذ الاستراتيجية الكبرى)، بمعنى آخر يمكن اعتبارها وسيلة أو أداة لعلاقة الصين بأجزاء أكثر أهمية من العالم.

فإفريقيا ليست في جوار الصين ولديها معها علاقات مستقرة وإيجابية نسبيًّا، ولا تشكِّل لها أي تهديد، وليست قوة كبيرة موحدة، لذلك فأهميتها الرئيسية تكمن في تشكيل الأساس لعلاقة بيجين بالعالم، وبالتالي فهي تتطلب قدرًا أقل من الاهتمام والجهد من جانب الصين، مقارنة مع محيط الصين الإقليمي المتسم بالتوتر والنزاعات، وبالمقارنة مع القوى العظمى (خاصة مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة)، الذين تعتبرهم أكبر تهديد محتمل للأمن القومي الصيني؛ حيث ترى في دعمهم لتايوان والجماعات التبتية والأويغورية في الخارج تحديًا مباشرًا لسيادة جمهورية الصين الشعبية.

إن إفريقيا لا تشكِّل تهديدًا أو تحديًا مباشرًا للأمن القومي الصيني، وبسبب المسافة الجغرافية لا يوجد نزاع إقليمي بين الصين وإفريقيا، ولا يؤيد الأفارقة بشكل عام جهود تايوان أو التبت أو شينجيانغ في سعيها للاستقلال عن الصين، وليس لها مصلحة في تعزيز الديمقراطية في الصين. وبما أن إفريقيا منطقة أقل إثارة للقلق بالنسبة للسياسة الخارجية الصينية، فإن بيجين لديها مجالات رئيسية أكثر إثارة للقلق، وموارد أقل مخصصة لإفريقيا.

وبالرغم من أهمية دعم إفريقيا للأجندات السياسية المحلية والدولية للصين، إلا أنه يُعتقد أن تأمين مثل هذا الدعم سهل نسبيًّا.

وهناك سبب آخر يجعل إفريقيا ذات أولوية منخفضة في السياسة الخارجية للصين يكمن في حقيقة أن المصالح الاقتصادية للصين في القارة بأكملها صغيرة نسبيًّا على الرغم من نموها المثير للانتباه. إن كبار الشركاء التجاريين للصين إما قوى كبرى أو جيران للصين، في حين أن إفريقيا شريك ثانوي. فاعتبارًا من عام 2012، كان أكبر الشركاء التجاريين للصين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وهونغ كونغ واليابان.

وعلى الرغم من أن التجارة الصينية-الإفريقية بلغت 198.4 مليار دولار في عام 2012، إلا أنها لا تشكِّل سوى 5% من التجارة العالمية للصين (3.867 تريليونات دولار). ومن حيث الصادرات والواردات تشكل إفريقيا 4.2% و6.2% على التوالي من صادرات وواردات الصين العالمية(15).

رغم كل ذلك، فإن إفريقيا ستظل مهمة للصين باعتبارها وسيلة ضرورية لتحقيق بعض أهدافها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في المدى البعيد. كما تسعى الصين من خلال توسيع علاقاتها مع إفريقيا -علاوة على المكاسب والفرص التي توفرها- إلى إبراز تضامنها مع العالم النامي في سعي الصين إلى “إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية” ووضع بصمتها في النظام الدولي الجديد.

لذلك، تستخدم الصين الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية والتجارية والمساعدات والقروض والثقافة وغيرها في علاقاتها الإفريقية لكسب ثقة الأفارقة أولًا، ثم للحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الدول الإفريقية وتوطيدها بما يخدم أهدافها الاستراتيجية.

دبلوماسيًّا: لقد سافر تقريبًا كل سياسي صيني رفيع المستوى إلى إفريقيا، وزار العديد من القادة الأفارقة الصين، وتتوفر بيجين على حوالي 48 سفارة في إفريقيا، كما أن مقاطعاتها البالغة 22، فضلًا عن خمس مناطق ذاتية الحكم، لها جميعًا علاقات مع الدول الإفريقية. وتتضمن الدبلوماسية العامة الصينية في إفريقيا المبادلات العلمية، والأنشطة الثقافية 46) معهد كونفوشيوس(، والحكامة، والتعاون الأمني والإعلام. كما قامت الصين ببناء مقر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، في عام 2012، وشكَّل المقر “هدية” بقيمة 200 مليون دولار تم تمويلها بالكامل من قبل الحكومة الصينية(16).

المعونات: منذ عام 2000، نمت المساعدة الإنمائية التي تقدمها الصين إلى إفريقيا نموًّا كبيرًا، وبينما تصوِّر الصين نفسها على أنها “أكبر دولة نامية”، إلا أنها تدعي إنفاق أكثر من نصف مساعداتها الخارجية في صالح 51 دولة إفريقية تشمل المشاريع والسلع والتعاون التقني، والتعاون في مجال تنمية الموارد البشرية، والمساعدات الطبية والإنسانية (وهذه غالبًا ما تمر من خلال منظمات الأمم المتحدة)، والمتطوعين، وتخفيف عبء الديون. إضافة إلى المساعدات المادية سواء كمنح -أي المساعدات بدون مقابل- أو القروض بدون فوائد أو القروض الميسرة. ورغم أن الحكومة الصينية لا تنشر سوى القليل من التفاصيل حول برنامج مساعداتها الخارجية، فقد وجدت منظمة آيد/دلتا AidData أن الصين قدمت نحو 31.5 مليار دولار من المعونة إلى إفريقيا بين عامي 2000 و2013، وعلى سبيل المقارنة، صرفت الولايات المتحدة حوالي 92.7 مليار دولار، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف المبلغ خلال الفترة نفسها(17).

القروض: تعهدت الحكومة الصينية بالتزامات رفيعة المستوى بتوفير التمويل لإفريقيا في اجتماعات منتدى التعاون الصيني-الإفريقي عام 2006؛ حيث وعدت بتقديم 5 مليارات دولار في شكل قروض تفضيلية وائتمانات تفضيلية لتصدير المشتريات نحو إفريقيا بين عامي 2007 و2009، كما جرى التعهد بتقديم عشرة مليارات دولار في شكل قروض تفضيلية بين عامي 2010 و2012، وعشرين مليار دولار بين عامي 2013 و2015. وفي عام 2015، وعدت بمبلغ ستين مليار دولار على مدى السنوات الثلاثة اللاحقة، وجرى التعهد بنفس المبلغ في عام 2018. لكن بعيدًا عن التعهدات الفضفاضة، من الصعب الحصول على صورة واضحة عن حجم التدفقات المالية الصينية نحو إفريقيا، كما لا تنشر الحكومة الصينية بيانات عن التدفقات المالية الرسمية على أساس دولتي أو إقليمي، ولا ينشر بنك التصدير والاستيراد أو بنك التنمية الصيني شيئًا عن ذلك، وهما المزوِّدان الرئيسيان للتمويل الصيني لإفريقيا. وتتركز القروض الصينية لإفريقيا في قطاعي النقل والطاقة؛ حيث يتسق ذلك مع وجهة نظر الحكومة الصينية بأن “البنية التحتية الأساسية هي العائق الرئيسي في تنمية العديد من البلدان الإفريقية”. وخلافًا للرأي السائد، فإن نسبة صغيرة من القروض الصينية تذهب مباشرة إلى مشروعات التعدين أو البترول والغاز في إفريقيا.

ومن سمات التمويل الصيني في إفريقيا الاستخدام المكثف لقروض “الموارد مقابل البنيات التحتية”، والتي يتم سدادها من خلال تصدير الموارد الأساسية إلى الصين. وبحسب أكثر تقدير لتلك القروض المقدمة إلى إفريقيا فإن المبلغ الإجمالي للفترة بين عامي 2000 و2014 بلغ نحو 30 مليار دولار، وهو ما يمثل ثلث مجموع إقراض الصين لإفريقيا خلال هذه الفترة؛ حيث إن معظم هذه القروض يتعلق بالنفط، وبعضها بالمعادن وفي حالات قليلة يتم السداد عن طريق الصادرات الزراعية(18).

الاستثمارات المباشرة: على الرغم من أن إفريقيا تمثل 16.7% من سكان العالم، بيد أن مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر الداخلي في المنطقة لا يتجاوز 2.6% (954 مليار دولار) من الإجمالي العالمي في عام 2019. ثم إن حصة الصين من الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا كانت خامس أكبر مخزون في عام 2018؛ حيث بلغت 46 مليار دولار، بعد كل من هولندا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ومع ذلك، فقد ارتفع مخزون الصين من الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا بنسبة 43.8% بين عامي 2014 و2018، في حين شهدت فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة انخفاض أسهم الاستثمار الأجنبي المباشر الخاصة بهما بنسبة 11.7% و26.9% و30.4% خلال الفترة نفسها. فيما بلغ إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين إلى إفريقيا 95.7 مليار دولار في الفترة من 2005 إلى 2019، وهو ما يمثل 7.8% فقط من الاستثمار الأجنبي المباشر الصادر للصين على مدى فترة الـ15 عامًا. ويتركز ما يزيد قليلًا عن 40.3% من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للصين في إفريقيا في ثلاثة بلدان فقط: نيجيريا وجنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

إن احتياجات الصين الهائلة من الموارد تجعل من إفريقيا مقصدًا مناسبًا للاستثمارات الصينية؛ حيث إن القارة تضم ما لا يقل عن 28 دولة يصنِّفها صندوق النقد الدولي على أنها غنية بالموارد، وقد ذهب حوالي 37.9% من الاستثمارات الاجنبية المباشرة الصينية في إفريقيا إلى قطاع الطاقة.

وفي حين أن الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في إفريقيا كبير، فإن قيمة مشاريع البناء الصينية في القارة أكبر بكثير، وتشير إلى أن إفريقيا تشكِّل أولوية لمشاريع البنية التحتية الصينية؛ ففي الفترة من 2005 إلى 2019 وقَّعت الصين 544 عقد بناء في إفريقيا بقيمة إجمالية بلغت 267.7 مليار دولار، وهو ما يمثل حوالي ثلث القيمة الإجمالية لمشاريع البناء للصين في جميع أنحاء العالم(19).

عقود المشاريع: وثمة شكل آخر تتخذه المشاركة الصينية في إفريقيا ويتم من خلال مشاريع متعاقد عليها في الخارج والتي لا تنطوي على استثمارات مباشرة؛ حيث إن الصينيين نشطون للغاية في بناء الطرق والسكك الحديدية والسدود ومحطات الطاقة، فضلًا عن المباني العامة في جميع المناطق. وقد زادت الأرقام الصينية الرسمية لقيمة المشاريع المنجزة بأكثر من عشرين ضعفًا بين عامي 2003 و2015. ومنذ عام 2010، شكَّلت إفريقيا حوالي 30% من القيمة الإجمالية للمشاريع المتعاقد عليها من الصين في جميع أنحاء العالم، وتم توظيف أكثر من 130 ألف عامل صيني في مشاريع في إفريقيا في نهاية عام 2015.

إن الصين تشكِّل المصدر الأكثر أهمية للتمويل الخارجي للبنيات الأساسية في إفريقيا، وتمثل الشركات الصينية ما يقرب من نصف سوق الهندسة والمشتريات والبناء في المنطقة. خلال الفترة 2005-2015، كانت أنغولا ونيجيريا وإثيوبيا والسودان وغينيا الاستوائية أهم الأسواق في المنطقة بالنسبة للمتعاقدين الصينيين، وجميعها من كبار مصدِّري النفط، باستثناء إثيوبيا. وتمثل هذه المشاريع فيما بينها أكثر من نصف قيمة المشاريع الصينية المنجزة في إفريقيا خلال هذه الفترة. على الرغم من أن البيانات الصينية الرسمية عن العقود الخارجية لا تعطي تفاصيل عن القطاعات المعنية، إلا أن التقديرات تشير إلى أن أهم قطاع من حيث العقود الصينية في المنطقة هو النقل، الذي يمثل ما يقرب من نصف قيمة العقود المعلن عنها بين عامي 2005 ومنتصف عام 2016، خاصة مشاريع السكك الحديدية؛ حيث تمثل أكثر من نصف قيمة مشاريع النقل. القطاع الثاني هو الطاقة لاسيما الطاقة الكهرومائية، التي تمثل نصف جميع عقود الطاقة. وأخيرًا، تمثل مشاريع البناء 12% من المجموع(20).

في العام 2020، تم بناء أكثر من ستة آلاف كيلومتر من السكك الحديدية والطرق السريعة وما يقرب من عشرين ميناء وأكثر من ثمانين منشأة طاقة كبيرة وأكثر من 130 مؤسسة طبية و45 منشأة رياضية و170 مدرسة، وبلغت قيمة العقود الجديدة للمشاريع الهندسية التي وقَّعتها الشركات الصينية في إفريقيا 55.1 مليار دولار، بزيادة 13.3%(21). وخلقت الشركات الصينية أكثر من 4.5 ملايين فرصة عمل في القارة الإفريقية(22).

منتدى التعاون الصيني-الإفريقي: هو منتدى استشاري وآلية حوار بدأتها الصين في عام 2000 لتعزيز التعاون الصيني مع إفريقيا في مختلف القطاعات، انعقد أول مرة في بيجين، في الفترة من 10 إلى 12 أكتوبر/تشرين الأول 2000، وشارك فيه الرئيس، جيانغ زيمين، ورئيس مجلس الدولة، تشو رونغ جي، ونائب رئيس جمهورية الصين الشعبية، هو جين تاو.

حضر هذا الاجتماع أكثر من 80 وزيرًا من الصين ومندوبون من 44 دولة إفريقية من بينهم رؤساء وممثلون من 17 منظمة دولية وإقليمية(23).

ومنذ إنشاء المنتدى في عام 2000، قامت إفريقيا والصين بصياغة وتنفيذ “عشرة برامج رئيسية للتعاون” و”ثماني مبادرات كبرى”، ومنذ ذلك الحين، ارتفع حجم التجارة بـ20 ضعفًا، وزاد الاستثمار المباشر للصين في إفريقيا بمقدار 100 ضعف(24).

إن الصين اليوم هي أكبر لاعب أجنبي في إفريقيا، وهي أكبر شريك تجاري لإفريقيا، وأكبر مموِّل للبنية التحتية، والمصدر الأسرع نموًّا للاستثمار الأجنبي المباشر، كما يتدفق رواد الأعمال الصينيون إلى القارة، ويستثمرون في مشاريع طويلة الأجل.

لكن لغاية اللحظة، يبقى من الصعب أن ننظر لمشاركة الصين في إفريقيا باعتبارها جزءًا من سياسة متكاملة أو استراتيجية مدروسة جيدًا وطويلة الأجل، بل إن الأمر متعلق فقط بمجموعة من الأهداف وبعض الأدوات والآليات المستعملة لبلوغ تلك الأهداف. وينعكس ذلك بشكل كبير في فشل الصين في تحديد أولويات مصالحها الاقتصادية والسياسية في علاقتها مع إفريقيا. وفي حين تنظر الصين إلى إفريقيا في المقام الأول من خلال المنظور الاقتصادي، فإن لديها مصالحَ سياسيةً رئيسيةً أخرى، مثل دعم إفريقيا لأجندة الصين المحلية والخارجية.

لكن بدون استراتيجية إفريقية متماسكة، فإن الصراع بين الأهداف الاقتصادية والسياسية للصين يسهم بشكل مباشر في تنامي الصراعات البيروقراطية بين كل من وزارة الخارجية ووزارة التجارة؛ حيث إن كلتيْهما تعتبر نفسها الممثل الحقيقي للمصالح العليا للصين في إفريقيا، وتعتقد وزارة الخارجية أن جدول الأعمال الاستراتيجي الأوسع للصين تقوضه أولوية الأهداف الاقتصادية. إن الصراع واضح للغاية على سبيل المثال حول المعونات الخارجية التي تقدمها الصين لإفريقيا: فبالنسبة لوزارة الخارجية فإن المساعدات الخارجية هي بالأساس أدوات سياسية للصين لتعزيز العلاقات الثنائية وتسهيل تنمية الدول الإفريقية، أما الاعتبارات السياسية فينبغي أن تكون أهم المعايير في اتخاذ القرار المتعلق بالمعونات، ولا ينبغي أن تكون الفوائد الاقتصادية مرتبطة بمشاريع تلك المعونات فقط، مثل الربحية أو استخراج الموارد أو عقود خدمات الاستحواذ للبائعين الصينيين، فهذه تأتي في المقام الثاني. في حين ترى وزارة التجارة العكس، ومن وجهة نظرها، تخدم المساعدات الخارجية الأولوية الوطنية الشاملة للصين وهي النمو الاقتصادي، لذلك ينبغي أن تعكس جميع جوانب قرارات المعونات اعتبارات اقتصادية واسعة النطاق.

وبموجب هذا المنطق، تميل وزارة التجارة بطبيعة الحال إلى تخصيص ميزانية المعونات للبلدان التي تقدم للصين أكبر عدد من الفرص والفوائد التجارية. وبما أن مصلحة الصين الاقتصادية المفرطة هي الموارد الطبيعية لإفريقيا، فإن قرارات المعونة تميل حتمًا نحو البلدان الغنية بالموارد، في حين أن قرارات المعونة الأخرى تحظى باهتمام أقل.

 إن هذه المقاربة تسهم بشكل مباشر في التصور السلبي بأن الصين تضخ المساعدات والتمويل ومشاريع البنية التحتية فقط مقابل الموارد الطبيعية والمصالح الخاصة.

ويتفاقم الصراع بين الجوانب الاقتصادية والسياسية لسياسة الصين تجاه إفريقيا كذلك بسبب تعدد الجهات الفاعلة الصينية العاملة في إفريقيا مثل الشركات المملوكة للدولة على المستوى المركزي وحكومات المقاطعات والشركات الخاصة. فجدول أعمال هذه الجهات الفاعلة اقتصادي في معظمه، في حين أنه نظرًا لاستقلالية هذه الجهات وغياب الإدارة والإشراف المركزي للأنشطة الخارجية، يصبح من الصعب للغاية على بيجين إدارة مختلف أولوياتها وتنفيذ إملاءاتها.

إن تعدد الجهات الفاعلة التجارية يوسِّع نطاق التفاعلات الصينية الإفريقية إلى ما هو أبعد من المجال الحكومي الدولتي؛ حيث لا تتبع جميع الشركات الصينية سياسة الدولة تجاه إفريقيا في كل الأوقات، أو حتى تحترمها، بل تميل الشركات الصينية إلى اتباع نموذجها التشغيلي الخاص في السعي وراء التكاليف المنخفضة، وعدم احترام القضايا الاجتماعية والبيئية، وسوء ظروف وأخلاقيات العمل وما إلى ذلك. ويؤدي اتباع هذا النموذج، في كثير من الحالات، إلى صراعات مباشرة مع المجتمعات المحلية. وبالنسبة للعديد من هذه الجهات الفاعلة، فإن الهدف الأساسي هو مضاعفة الأرباح والعودة في نهاية المطاف إلى الصين؛ ولا توجد رؤية استراتيجية طويلة الأجل. ولكن عندما يتم تفحص علاقات الصين الواسعة مع إفريقيا من قبل الأفارقة أو الأجانب لاسيما الغرب، ينظر إلى هذه الجهات الفاعلة على أنها تنفذ سياسة الصين كدولة، حيث تتلقى بيجين على إثر ذلك أغلب اللوم لعدم تصرفها بشكل لائق(25).

مصالح الأفارقة ومخاوفهم

يمكننا إسقاط نفس التمييز بين الجوانب السياسية والاقتصادية والتجارية في مناقشة المكاسب الإفريقية. ومن وجهة نظر سياسية، فإن المقاربة الصينية المتمثلة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الإفريقية وعدم فرض أي شروط سياسية على البلدان المقترضة (نظريًّا) تجعل التعامل مع الصين جذابًا. وكان هذا انتقادًا غربيًّا كبيرًا لتورط الصين في المنطقة، على أساس أنها توفر الدعم للأنظمة الاستبدادية، ولكن حتى بالنسبة للبلدان الديمقراطية نسبيًّا، فإن نهج الصين غير المرتبط بالشروط المسبقة يبقى مهمًّا (كما لا يمكن إغفال الدور الذي من الممكن أن تلعبه الصين لصالح البلدان الإفريقية بكونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن وامتلاكها حق النقض). كما أن المنافسة المتزايدة بين القوى التي يخلقها دخول الصين إلى المنطقة قد وفرت فرصة للحكومات الإفريقية لزيادة قدرتها التفاوضية.

ومن الناحية الاقتصادية، تواجه الاقتصادات الإفريقية نقصًا مزمنًا في البنيات التحتية الأساسية في مجال الطاقة والنقل والاتصالات؛ حيث قدَّر البنك الدولي، في عام 2010، أن المبلغ السنوي اللازم لسدِّ الفجوة في البنية التحتية في إفريقيا بلغ 31 مليار دولار، ولا تملك الدول الإفريقية الإيرادات الحكومية ولا النقد الأجنبي اللازم لتمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى بهذا الحجم. كما لم يهتم المقرضون والمستثمرون الغربيون بتمويل مثل هذه المشاريع. وقد ركز البنك الدولي وغيره من المانحين الغربيين، الذين قدَّموا في حقبة سابقة قروضًا للبنية التحتية، منذ الثمانينات بشكل كبير على القروض المرتبطة بالبرامج والقطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم بدلًا من البنية التحتية.

في هذا السياق، حرصت الحكومات الإفريقية من جانبها على الاستفادة من استعداد الصين لتمويل مشاريع البنيات الأساسية الكبرى في المنطقة.

بالتالي، فإن نمو القروض المستبدلة بالمواد الأولية ليست نتيجة فقط لجهود الصين لتأمين إمدادات الطاقة والمواد الخام بل لرغبة الأفارقة أيضًا في تطوير بنياتهم التحية الأساسية. وقد تمكنت الحكومات الإفريقية من استخدام مواردها الطبيعية للحصول على البنية الأساسية وتمويل المشروعات الأخرى من الصين مع السداد في وقت لاحق.

ولذلك، يمكننا أن نستخلص أن الاستخدام واسع النطاق لقروض “البنيات التحتية مقابل المواد الأولية” في إفريقيا هو أيضًا نتيجة للتقارب بين المصالح المختلفة، بما في ذلك مصالح النخب الإفريقية في الحصول على تمويلات خارجية، كما ترحب الحكومات الإفريقية بالإيرادات الإضافية من النقد الأجنبي والمداخيل الحكومية الناتجة عن زيادة صادرات النفط والغاز والمعادن إلى الصين، (علاوة على استيراد سلع أرخص من الصين) والتي تساعد في تخفيف ميزان المدفوعات وقيود الميزانية(26).

وبشكل عام، فمن الخطأ تجاهل دور إرادة الأفارقة في تفسير التزام إفريقيا المتنامي مع الصين، ورغم أن المصالح الصينية تشكِّل العامل الأكثر أهمية في وجودها الاقتصادي في إفريقيا، فمن غير المرجح أن يكون هذا النمو بهذه السرعة لولا المصالح التكاملية في الجانب الإفريقي.

لكن، رغم أن الأفارقة قد استقبلوا الصينيين بأذرع مفتوحة منذ أواخر التسعينات، فقد أصبح هناك قدر كبير من التوجس ينمو في الآونة الأخيرة؛ حيث إن صورة الصين في الرأي العام الإفريقي أصبحت تتلاشى ببطء. فوفقًا لمقياس “الأفروباروميتر”، يعتقد 59% من المشاركين في الاستطلاع، عام 2020، أن نفوذ الصين في بلادهم كان إيجابيًّا، بعد أن كان 63% في عام 2015(27).

نجد من بين المخاوف أو الانتقادات الشائعة الموجهة لعلاقات الصين بإفريقيا:

هيكلها “الاستعماري”: فإفريقيا تبيع المواد الخام للصين وتبيع الصين سلعًا مصنَّعة وخدمات لإفريقيا، وهذه معادلة خطيرة تعيد إنتاج علاقة إفريقيا القديمة مع القوى الاستعمارية؛ حيث إن حوالي 90% من صادرات الدول الإفريقية تجاه الصين تخص فقط النفط والمعادن والغاز، ما جعل الميزان التجاري يميل أكثر للصين على حساب هذه الدول الإفريقية(28)، التي تبقى اقتصاداتها متذبذبة، فمنذ أصبحت الصين مستوردًا رئيسيًّا للمواد الأولية في أوائل القرن الحادي والعشرين، شهدت الأسعار اتجاهات تصاعدية عززت بقوة نمو البلدان المصدِّرة لأكثر من عقد من الزمان، إلا أنها شهدت أسوأ ما شهدته مع انهيار الأسعار؛ حيث كانت لها عواقب اجتماعية وسياسية وخيمة(29)، ولكون استراتيجية التصدير الصينية تسهم بشكل سلبي في طموح في بعض البلدان الإفريقية في التصنيع والتنويع الاقتصادي وفي تطوير صناعة ذات قيمة مضافة، من شأنها أن تدعم الطلب المحلي وخلق الثروة وفرص العمل.

منطقها الإمبريالي: من حيث إن علاقاتها غير متكافئة بشكل كبير مع الدول الإفريقية، فإفريقيا تُعتبر سوقًا استهلاكية ومنطقة للمناولة، استجابة لجهاز صناعي في تحول كامل منذ الأزمة المالية، (إذ تتطلع الصين مؤخرًا لاقتناص حصص في سوق الاتصالات السلكية واللاسلكية والصناعة الثقافية وغيرها، من خلال مجموعاتها الكبيرة كعلي بابا أو تينسنت أو هواوي أو “زد تي إي” (ZTE) التي من المتوقع أن تلعب دورًا مهمًّا في تجهيز شبكات العواصم الإفريقية). تهدف بيجين إلى التغطية الجغرافية للقارة بأكملها من خلال مقاربة جهوية مقسمة بين الواجهة البحرية للمحيط الهندي (جيبوتي، كينيا، تنزانيا)، والانفتاح على غرب وشمال إفريقيا (عبر البحر الأبيض المتوسط)، وأخيرًا الجنوب الإفريقي (عبر شريكها الاقتصادي والسياسي المتميز: جنوب إفريقيا). الغرض من هذه الاستراتيجية هو الترويج النشط لمشروع “طريق الحرير الجديد” الذي من شأنه تطوير البنيات الأساسية للموانئ والسكك الحديدية والطرق بما يمكِّن جميع البلدان الإفريقية من الاندماج بصورة أعمق وأسهل في سيرورة العولمة(30).

فخ التبعية عبر الاستدانة: بين عامي 2000 و2018، اقترضت 50 دولة إفريقية من أصل 54 من الصين بأشكال مختلفة. وفي عام 2018، كانت جمهورية الصين الشعبية تحتفظ بما يقرب من 21٪ من الدَّيْن العام الخارجي غير المسدَّد في القارة، مع جزء كبير من هذه القروض المتعلقة بالبنية التحتية التي تكون أهميتها وتكلفتها موضع تساؤل في بعض الأحيان (السكك الحديدية والموانئ والطرق ومحطات الطاقة، وما إلى ذلك). ومع ذلك، فإن مديونية البلدان الإفريقية للصين تتفاوت، وهي أكبر مانح خارجي لبعضها مثل زامبيا (تمتلك 29%)، وإثيوبيا (32%)، وأنغولا (39%)، وجمهورية الكونغو الديمقراطية (43%) وجيبوتي (70%). ثم إنها في كثير من المرات تجد نفسها عاجزة تسديد ما بذمتها، وأمام هذه الوضعية من المتوقع أن تصبح تبعيتها للسياسة الصينية أمرًا حتميًّا. وفي حين أيدت الصين مبادرة تعليق خدمة الدَّيْن الرسمية الثنائية، فإنها لا تزال مترددة في الانضمام إلى “نادي باريس”، وهو منتدى الدائنين السياديين الذي يحدد القواعد العامة لإدارة الديون وإعادة هيكلتها، وذلك لتبقى ربما في منأى عن الرقابة الدولية(31).

كما تطرح إشكالية المعونات المالية، التي لا يمكن تعريف سوى 43% منها على أنها معونات إنمائية حسب معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، أما الباقي فهي قروض تجارية لا علاقة لها بأي معونة إنمائية. وهذه الأخيرة تحمل وراءها دوافع تجارية واستراتيجية، وكثيرًا ما تشكِّل جزءًا من مشروع بيجين الضخم لطريق الحرير الجديد. كما أن الصين لا تفشل في ضمان سداد قروضها في كثير من الأحيان بحيث تتضمن عقودها بنودًا سرية تحصل من خلالها على ضمانات إذا ما عجزت دولة مقترضة ما من سداد ديونها(32).

إلى جانب ذلك، تُتَّهم الصين بأنها تقوض الجهود الرامية إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتسهم في الفساد والتدهور البيئي والاجتماعي. وفي كل الأحوال، يجب على الأفارقة الحرص على إحداث نوع من التوازن في علاقاتهم مع الصينيين، لكيلا يبدو أنهم خرجوا من استعمار قديم ليسقطوا في آخر جديد.

الصين والتدافع الجديد من أجل إفريقيا

وفي الفترة ما بين 2010 و2016، جرى افتتاح أكثر من 320 سفارة في إفريقيا، وربما كانت تلك أكبر طفرة في بناء السفارات في أي مكان على الإطلاق، تركيا وحدها فتحت 26 سفارة، وقد أعلنت الهند أنها ستفتح 18 سفارة، كما أن العلاقات العسكرية تتعمق أيضًا؛ حيث إن الصين الآن هي أكبر بائع للأسلحة لإفريقيا جنوب الصحراء ولديها علاقات في مجال تكنولوجيا الدفاع مع 45 بلدًا، كما وقَّعت روسيا 19 صفقة عسكرية مع دول إفريقية منذ عام 2014.

في عام 2018، كانت الصين الشريك التجاري الأول لإفريقيا والهند في المرتبة الثانية وأميركا في المرتبة الثالثة (بينما كانت فرنسا في المرتبة السابعة). وخلال نفس الفترة تضاعفت تجارة إفريقيا أكثر من ثلاثة أضعاف مع تركيا وإندونيسيا، وتضاعفت أكثر من أربعة أضعاف مع روسيا كما نمت التجارة مع الاتحاد الأوروبي بنسبة بلغت 41%. ولا تزال شركاتٌ من أميركا وبريطانيا وفرنسا أكبرَ مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا، ولكن الشركات الصينية، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة تحاول الالتحاق بالركب، كما أن المستثمرين من الهند وسنغافورة حريصون على الانضمام إلى الصراع(33). فبعد أن تجاهلت القوى الغربية إفريقيا تدريجيًّا، بعد إنهاء الاستعمار في ستينات القرن العشرين بالنسبة لبريطانيا، وبعد الحرب الباردة (فرنسا) باستثناء القضايا الأمنية خاصة بمنطقة الساحل، إضافة للولايات المتحدة التي لم يكن لديها أية سياسة إفريقية تتناسب مع خطابها. استغلت الصين ذلك الفراغ، الذي تزامن مع إقلاع اقتصادها وتزايد احتياجاتها من المواد الأولية. وبالتدريج، بدأ وجودها يزدهر في جميع أنحاء القارة، من منتدى للتعاون مرورًا بمقر جديد للاتحاد الإفريقي في أديس أبابا كهدية، إلى أول قاعدة عسكرية بحرية في الخارج في جيبوتي على المحيط الهندي، وكلها إشارات واضحة لوجود طموحات جيواقتصادية وجيوسياسية وجيوستراتيجية مستقبلية غير معلنة.

ومن المتوقع أن تشكِّل الفرص التي يمكن أن توفرها القارة في المستقبل والموارد الطبيعية الحيوية لمستقبل البشرية الأساسية خاصة في قطاع التكنولوجيا (مثل الكوبالت وغيره)، رهانًا عالميًّا أو ما أسمته مجلة “الإيكونوميست” “تدافعًا جديدًا من أجل إفريقيا”(34).

إن العديد من القوى أصبحت تجري وراء الكثير من المصالح والشراكات في القارة؛ إذ إن وصول قوى ناشئة مثل الصين سيمنح البلدان الإفريقية في المستقبل مجالًا أكبر للمناورة فيما يتصل بالشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والأمم المتحدة التي تهيمن عليها القوى الغربية بشكل رئيسي. ومن الواضح أنها أصبحت تقدم بديلًا أنسبَ على المستويات السياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية.

والصين تجد نفسها الآن في منافسة قوية مع القوى الاستعمارية السابقة، ولكن أيضًا مع قوى ناشئة أخرى، مثل الهند وتركيا والبرازيل وغيرها، غير أن العديد من الأفارقة أصبحوا يتساءلون عمَّا إذا كانت قارتهم ستتمكن يومًا ما من تنظيم نفسها وأخذ زمام المبادرة لكي تستفيد إلى أقصى حدٍّ من هذه المنافسة، بدلًا من أن تكون مجرد ميدان للصراع.

خاتمة

إن الحضور المتنامي للصين في إفريقيا يعكس أولوياتها من الناحية الاقتصادية والسياسية، ومن الواضح أن الأمر يتعلق أولًا بضمان التفوق التجاري والتنمية الاقتصادية للصين، ويتطلب هذا التطور داخليًّا وخارجيًّا تأمين المواد الأولية الاستراتيجية. وثانيًا من الناحية السياسية، رغم أن القارة الإفريقية ذات أهمية صغيرة بالنسبة لأجندة السياسة الخارجية للصين، إلا أنها تلعب دورًا داعمًا إلى حدٍّ كبير في استراتيجيتها الكبرى، وبدلًا من النظر إلى إفريقيا باعتبارها “غاية” أو “أولوية”، يُنظر إليها باعتبارها “تكتيكًا” أو جزءًا من “الأساس” الذي تُبنى عليه طموحات الصين الاستراتيجية الأوسع نطاقًا.

بالتالي، فإن إفريقيا لم تكن بأي حال من الأحوال هدفًا في حدِّ ذاتها، بل هي وسيلة، من بين الوسائل الأساسية لازدهار الصين اقتصاديًّا وتكريس ودعم قوتها سياسيًّا على الصعيدين، المحلي والعالمي.

إن الصين تنهج استراتيجية الفعل غير المباشر والمتدرج، ويمكن اعتبار انخراطها في القارة الإفريقية “تكتيكًا” من بين تكتيكات أخرى، لم يكن الغرض منها فقط الاستجابة لحاجياتها الاقتصادية المباشرة والمتزايدة، بل أيضًا لتعبيد الطريق بهدف الوصول سريعًا إلى قمة السياسة الدولية، وزنًا اقتصاديًّا وسياسيًّا ونفوذًا تجاريًّا وجيوستراتيجيًّا.

مراجع

(1)- Rhys Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy: Development Impacts in Africa and Latin America, Oxford, Oxford University Press,113,114.

(2)- Yun sun, Africa in China’s Foreign Policy, Brookings, April 2014, “accessed July 20, 2021”, 3-5, URL: https://brook.gs/3eSV8tH

(3)- Ibid.

(4)- Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy, 129-131.

(5) الجيواقتصاد هو تحليل الاستراتيجيات الاقتصادية -وخاصة التجارية منها- التي تقررها الدول في سياق السياسات الرامية إلى حماية اقتصادها الوطني أو أجزاء محددة جيدًا منه، لمساعدة “الشركات الوطنية” على امتلاك وإتقان التكنولوجيات الرئيسية و/أو لغزو قطاعات معينة من السوق العالمية المتعلقة بإنتاج أو تسويق منتج حساس أو مجموعة من المنتجات، من حيث إن حيازتها أو سيطرتها تمنح صاحبها -دولة أو مؤسسة “وطنية”- عنصر قوة ونفوذًا دوليًّا ويسهم في تعزيز إمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية.

Pascal Lorot, « De la géopolitique à la géoéconomie », Géoéconomie, vol. 50, no. 3, 2009, pp. 9-19.

(6)- Sun, Africa in China’s Foreign Policy, 5-9.

(7)- Olayiwola Abegunrin, Charity Manyeruke, China’s Power in Africa: A New Global Order, London, Palgrave McMillan, 2020, 59-61. DOI 10.1007/978-3-030-21994-9

(8)- Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy, 131-135.

(9)- Les relations Chine-Afrique en 2021 : des perspectives prometteuses, Jeune Afrique, https://bit.ly/3eUW7K6

(10)- Sun, Africa in China’s Foreign Policy, 6.

(11)- Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy, 131-135.

(12)- طاهر هاني، هل الصين بصدد بسط نفوذها في إفريقيا؟، فرانس24، 3 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2120): https://bit.ly/3BHwyWq

(13)- 187 مليار دولار أميركي قيمة التجارة بين الصين وإفريقيا في عام 2020، موقع (arabic.people.com.cn)، 13 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2120) :

https://bit.ly/2V4L0Hn

(14)- Sun, Africa in China’s Foreign Policy,13-15.

(15)- Ibid.

(16)- Anja Lahtinen, China’s diplomacy and economic activities in Africa, Palgrave Macmillan, 2018, 37-38. DOI 10.1007/978-3-319-69353-8

(17)- Ibid.

(18)- Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy, 121-123.

(19)- ‘Does China Dominate Global Investment?’, chinapower.csis.org. 19 déc. 2016, (accessed July 21, 2021): https://bit.ly/3rxyXhX

(20)- Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy, 120-121.

(21) “وزارة التجارة الصينية: توسع واردات الصين من المنتجات الزراعية من الدول الإفريقية”،’ people ‘، 15 يناير/كانون الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2120):

https://bit.ly/3i4SrHA

(22)- Les relations Chine-Afrique en 2021, Jeune Afrique.

(23)- Abegunrin, Manyeruke, China’s Power in Africa, 39.

(24)- Les relations Chine-Afrique en 2021, Jeune Afrique. (vu le 24 juillet 2021)

https://bit.ly/3yfJMYI

(25)– Sun, Africa in China’s Foreign Policy, 23-25.

(26)- Jenkins, How China is Reshaping the Global Economy, 138-141.

(27)- ‘Africans’ perceptions about China: A sneak peek from 18 countries’, Afrobarometer, September 3 2020.URL: https://bit.ly/3y5HhrK

(28)- هاني، هل الصين بصدد بسط نفوذها في إفريقيا؟ مرجع سابق.

(29)- Ristel Tchounand, Chine / Matières premières: indispensable Afrique? afrique.latribune.fr, 01 Avril 2017, (accessed July 20, 2021): https://bit.ly/3BEHxjD

(30)- Emmanuel Véron, Vers un impérialisme chinois en Afrique ? Le point.fr, 09 septembre2018, (accessed July 20, 2021) https://bit.ly/3wZzLx3

(31)- Thierry Vircoulon, Afrique-Chine : des relations au beau fix ? Le point.fr, 15 Mars 2021, (accessed July 20, 2021) https://bit.ly/2Wkyl3N

(32)- Richard Hiault, Comment les Chinois mènent la conquête de l’Afrique, Lesechos.fr, 19 février 2019, (accessed July 20, 2021) https://bit.ly/2ULCJZ8

(33)- ‘The new scramble for Africa’, The economist.com, March 7, 2019. https://econ.st/3BFukqH

(34)- Ibid.

 

.

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/5085

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M