الحرب الروسية الأوكرانية لم تضع أوزارها حتى الآن، بل تشتد وطأتها يومًا بعد يوم لتستمر في إرباك المشهد العالمي وبالأخص في ملف الطاقة، وتثير المزيد من الشكوك حول التوقعات المستقبلية للأسواق؛ وذلك لأنه مع دخول الحرب عامها الثاني كان قطاع الطاقة العالمي من الأكثر تأثرًا وتقلبًا في نهاية العام الأول من الحرب، حيث شهد العديد من التغييرات في صناعة الطاقة على مستوى العالم بشكل عام والقارة الأوروبية بشكل خاص.
فالأزمة متعلقة بروسيا والتي تُعد من أهم شرايين الطاقة في العالم وتمثل لاعبًا أساسيًا في أسواق الطاقة العالمية. فمع بداية الحرب تأثرت أسواق الطاقة العالمية، وقامت الدول بخطوات استثنائية بهدف مواجهة تداعيات تلك الأزمة، إذ لجأ عديد من دول العالم إلى المخزون الاستراتيجي من أجل تقليص الضغوط على الأسواق بهدف إرسال رسالة بأنه لن يكون هناك نقص في الإمدادات العالمية. ولكن السؤال الذي يبحث عنه الجميع الآن هل نجح بالفعل الاتحاد الأوروبي في تعزيز أمن الطاقة الأوروبي؟
كيف استطاع الاتحاد الأوروبي تعزيز أمن الطاقة خلال العام الأول؟
بالرغم من أن مفهوم أمن الطاقة لا يعد من الأمور الحديثة في سياسات الاتحاد الأوروبي، فإنه أصبح اليوم يكتسب أهمية خاصة ويُعد من أهم الأعمدة لجميع دول القارة، ولذلك فإن الهدف الأساسي لسياسة الطاقة الأوروبية هو العمل من أجل تأمين مصادر مستقرة تضمن إمداد المواطنين بكافة مصادر إنتاج الطاقة المختلفة، وهو المعني الذي يذهب بنا إلى الإجابة عن سؤال كيف استطاعت القارة الأوروبية توليد الكهرباء خلال العام الأول من الحرب؟
وكما هو موضح بالشكل التالي، نجد أن الطاقة النووية عادت مرة أخرى إلى المشهد الأوروبي وبلغت حوالي 613 تيرا وات/ساعة، وذلك بالرغم من انخفاض نسبة التغير السنوي بحوالي 16%، وجاء الغاز الطبيعي في المرتبة الثانية بحوالي 557 تيرا وات/ساعة، وزيادة في التغير السنوي بحوالي 1%، بالإضافة إلى زيادة نسبة استخدام الفحم بحوالي 7% وهو ما قد يقوض الأهداف المناخية من وجهة نظر البعض، مقابل آخرين لا يرون في نسبة الارتفاع المحدودة مشكلة.
وبالتالي، نستطيع القول إن دول القارة الأوروبية استطاعت إحراز تقدم ملموس في ملف تعزيز أمن الطاقة من خلال طرق عديدة، فقد دفعت الحرب الروسية الأوكرانية دول القارة إلى البحث عن بدائل، مدفوعة بضغط غلاء الأسعار وارتفاع معدلات التضخم الأوروبي إلى مستويات هي الأعلى خلال عقود (9.1%).
ونجد أن واردات الغاز المسال قفزت إلى مستويات قياسية في دول الاتحاد الأوروبي فبلغت حوالي 70% في العام الأول من الحرب، وجاءت معظمها من الولايات المتحدة الأمريكية وقطر ودول شرق المتوسط، وذلك بعد جولات قام بها مسؤولون أوروبيون للبحث عن بدائل آمنة من الغاز، بالإضافة إلى إن موردي الغاز الرئيسين في خطوط الأنابيب الأوروبية هم النرويج والجزائر، وقد نجح كلاهما في زيادة حجم صادراتهما بنحو 5%، ولقد سارعت ألمانيا التي كانت أكبر مشترٍ للغاز الروسي إلى تثبيت قدرة استيراد الغاز الطبيعي المسال.
ولكن هنا يجب الإشارة إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية أدت في عام واحد فقط إلى إعادة وصياغة كاملة في رسم طرق وأسواق الطاقة بشكل كامل، حيث نجحت الحرب فيما فشلت فيه السياسة الأمريكية وبالتحديد منذ عام 2010 في قطع شرايين الطاقة الروسية عن قلب القارة الأوروبية، فنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية حلت محل روسيا كمورد رئيس للغاز في القارة الأوروبية، فيما بات النفط الروسي يتدفق الآن إلى القارة الآسيوية. وكما هو موضح في الشكل التالي انخفضت صادرات الغاز الروسية إلى القارة الأوروبية بنحو 80% وبالتحديد من حوالي 3290.3 مليون متر مكعب أسبوعيًا إلى حوالي 522 مليون متر مكعب وذلك في فبراير الحالي.
وبالتالي كانت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية فائدة لصناعة الغاز الطبيعي المسال في واشنطن، إذ استفادت من الطلب الأوروبي المتزايد على الغاز، لتكون لاعبًا رئيسًا في تخفيف نقص الإمدادات الروسية. وكما هو موضح بالشكل التالي نجد أن صادرات الغاز المسال الأمريكية تجاوزت نحو 11.2 مليار قدم مكعبة يوميًا خلال الأشهر الأولى من الحرب (زيادة حوالي 12% على أساس شهري)، وذلك مقارنة مع متوسط 9 مليارات قدم مكعبة يوميًا في عام 2021.
بالإضافة إلى ما سبق، ألزمت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية الدول بتخزين الغاز إلى مستوى تخطى حوالي 84% قبل الشتاء، وترشيد الاستهلاك في الشتاء بنسبة حوالي 15% طوعيًا. ويمثل احتياطي الغاز الأوروبي حاليًا أعلى بنحو 20% من متوسط السنوات الخمس الماضية، وقد ساعد الطقس الشتوي الأكثر دفئًا في تلطيف الطلب على احتياطيات الغاز.
هذا بجانب أن الإرادة الجماعية للمستهلكين الأوروبيين لعبت أيضًا دورًا مهمًا من خلال خفض استهلاك الطاقة بقوة في الأشهر الأخيرة والذي وصل إلى حوالي 14%، أي ما يعادل حوالي 55 مليار متر مكعب في العام الأول من الحرب 2022، وذلك مقارنة بعام 2021، وهو الأكبر في تاريخ القارة الأوروبية وذلك لأن الطقس المعتدل في الشتاء الحالي أسهم في خفض استهلاك الغاز للتدفئة بالمنازل، بينما تراجع طلب القطاع الصناعي بنسبة حوالي 26% تقريبًا، نصفها جاء من الشركات التي خفضت إنتاجها بشكل عام.
ذلك بالإضافة إلى أن إغلاقات كورونا في الصين وبالتالي تقييد الطلب على الغاز المسال بشكل نسبي جاء بنتائج إيجابية على الاتحاد الأوروبي، لأنها ساعدت في توفير كميات كبيرة في جانب العرض، وبالتالي اقتنصتها دول القارة الأوروبية. وبالتالي ووفقًا لما سبق، نجد أنه بعد مرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية، بلغ مستوى مخزونات الغاز الأوروبية في الوقت الراهن حوالي 65% بعد أن وصلت إلى مستويات قياسية تخطت حوالي 95% بنهاية العام الماضي، وذلك مقارنة بمستويات حوالي 30% الذي كان أعلى معدل وصلت إليه تلك المخزونات في الفترة نفسها من عام 2021.
هذا بالإضافة إلى أن أسعار الغاز تراجعت إلى مستويات كبيرة وذلك دون 50 يورو (حوالي 53.3 دولارًا) لكل ميجا وات/ساعة في نهاية الشهر الحالي، لأول مرة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. وتأتي هذه الأسعار مقارنة بنحو حوالي 339 يورو (361 دولارًا) للميجا وات/ساعة في بداية شهر أغسطس الماضي كما هو موضح بالشكل التالي.
الطاقة المتجددة
بشكل عام، واجهت جميع محاولات القارة الأوروبية السابقة الهادفة إلى التحول نحو الاقتصاد الأخضر والطاقات النظيفة فشلًا واضحًا؛ وذلك على اعتبار أنها ركزت على تلك الطاقات التي لم توفر لها ما توفره الطاقات المتنوعة الأخرى، وبالتالي جاء اعتمادها الكبير على موسكو في تلبية احتياجاتها من الغاز الطبيعي. ومع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، تضررت سلاسل التوريد بشكل كبير، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز سياسات وأهداف التحول السريع نحو الطاقات الخضراء، وبالتالي من المتوقع نمو الاستثمارات في تلك القطاعات الخضراء خلال الفترة المقبلة وفى خلال العام الأول من الحرب.
وبشكل عام، استطاعت الطاقة النظيفة جذب استثمارات ضخم تخطت حوالي 1.4 تريليون دولار على مستوى العالم. ونجد أنه من أجل تعزيز أمن الطاقة الأوروبي اتبعت دول القارة الأوروبية طُرقًا عديدة إضافية تهدف إلى توفير بدائل آمنة لإمدادات الطاقة، ومن ضمن تلك الطرق زيادة معدلات توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة، وخطط عديدة للربط الكهربائي ومن أهمها مع مصر، حيث تبدأ اليونان واحدًا من أكثر مشاريع الطاقة طموحًا في أوروبا لربط شبكتها الكهربائية مع مصر، حيث يقوم المشروع على تشييد كابل يبلغ طوله حوالي 1373 كيلومترًا ويمتد أسفل مياه البحر الأبيض المتوسط لجلب الطاقة الخضراء من مصر إلى دول القارة الأوروبية. ومن المخطط أن ينقل الكابل نحو 3000 ميجاوات من الطاقة من شمال مصر إلى أتيكا في اليونان، وهو ما يكفي لتزويد حوالي 450 ألف منزل بالكهرباء.
مخاطر وتوقعات مستقبلية خلال العام الثاني من الحرب
بعد مرور عام من الحرب الروسية الأوكرانية، لا يمكن وصف الوضع بالجيد تمامًا؛ إذ لا تزال هناك مخاطر عديدة مستقبلية بعد أن أدى استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للطاقة كسلاح إلى كسر صورة أن موسكو كشريك مستدام وموثوق به في قطاع الطاقة الأوروبي. بالإضافة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي لم تستطع تأمين بدائل مناسبة للغاز الروسي بشكل كامل، رغم أنها تمكنت من استيراد الكثير من الغاز الطبيعي المُسال، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي خلال العام الأول والشتاء الحالي، حيث يذهب الكثير من شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى الأسواق الأعلى سعرًا أينما كانت.
ولذلك، فإنه من المتوقع أن تصل معدلات واردات دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من الغاز الطبيعي المسال خلال العام الثاني من الحرب 2023 إلى نحو 165 مليار متر مكعب. وهنا يجب الإشارة إلى تحذيرات سابقة لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في نوفمبر الماضي تضمنت الإشارة إلى تحديات قد تفرض نفسها على الأسواق العالمية قد تؤثر على قدرة دول القارة الأوروبية على تأمين مواردها من الغاز بنهاية شتاء 2023.
ومن أهم هذه التحديات عدم نمو سعة الغاز الطبيعي المسال العالمية بالسرعة الكافية لتغطية الفجوة المتوقعة (زيادة مستقبلية حوالي إلى أكثر من حوالي 5%)، في ووقت تواجه فيه القارة الأوروبية أعباءً مالية إضافية لارتفاع سعر الغاز المسال مقارنة بالشحنات الواردة من موسكو عبر الأنابيب، فضلًا عن العقبات المرتبطة بالبنية التحتية. بالإضافة إلى احتمالية امتصاص النمو الكبير المتوقع خلال العام الثاني من الحرب في القارة الآسيوية معظم الكميات الإضافية من الغاز الطبيعي المسال، في ضوء دخول الصين على خط المنافسة مع الدول الأوروبية على واردات الغاز الطبيعي المسال بعد تقليص قيود كورونا كما هو موضح بالشكل التالي.
وبالتالي ووفقًا لما سبق، إن منع موسكو لحجم الإمدادات الحالية من الغاز (522 مليون متر مكعب أسبوعيًا) عن دول القارة الأوروبية، ومع توقعات بتراجع المعروض العالمي من الغاز الطبيعي المسال بسبب زيادة الطلب الصيني المتوقع على شحنات الغاز المسال، من المتوقع أن يتسبب في نقص حوالي 40 مليار متر مكعب في الشتاء المقبل، وبالأخص إذا جاء الطقس مختلفًا عن شتاء العام الأول من الحرب.
لذلك، تحتاج الدول الأوروبية إلى مواصلة الجهود المتواصلة من أجل توفير الطاقة، وتنفيذ تعهدات القارة بوقف الاعتماد على الغاز الروسي بالكامل بحلول عام 2027 وهذا ما أكدته كادري سيمسون المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة في النسخة السادسة من معرض ومؤتمر إيجبس في القاهرة. ولذلك سيتعين على دول الاتحاد الأوروبي اتباع سياسة تعتمد محاورها على 3 نقاط رئيسة خلال العام الثاني من الحرب:
● ضرورة انتهاج سياسة أوروبية مشتركة الغرض منها تنويع مصادر الغاز الطبيعي وتوسيع خطوط الإمداد بها من مناطق أخرى كوسط أسيا ومنطقة شرق المتوسط، والعمل على إنجاز خطة بناء دائرة الطاقة في منطقة شرق المتوسط، وبالتالي تشكيل وتطوير علاقات دولية مع أطراف جديدة ومتعددة تهدف إلى الحفاظ على التأمين المستمر للطاقة وبالتالي تنويع مصادرها.
● أدركت دول القارة الأوروبية أنها تعتمد على شبكة أنابيب الغاز الروسية التي تم تطويرها واستكمالها في العقود الأخيرة من أجل إمدادات الغاز الخاصة بها. إلى جانب ذلك، لم يكن لديهم بنية تحتية للغاز تقريبًا (عدد قليل جدًا من موانئ الغاز الطبيعي المسال، وبشكل رئيس في جنوب أوروبا، حوالي 24 محطة إسالة) ولا يوجد المزيد من محطات إعادة تحويل الغاز، وعدد محدود جدًا من ناقلات الغاز الطبيعي المسال كما هو موضح بالشكل التالي. لذلك من الضروري الآن البدء في اعتماد خطط رئيسة تهدف إلى تطوير البني التحتية في دول القارة، مع ضرورة تحديد الأولويات المفترض تنفيذها في البنية التحتية ودعم تطويرها.
● العمل على إحياء فكرة مشروع نابوكو، مع زيادة فرص التعاون مع الدول العربية وبالأخص مصر فيما يتعلق بالغاز الطبيعي وقطاع الطاقة الخضراء. ولعل اتجاه الدول الأوروبية نحو سياسة تنويع مصادر الطاقة من شانه أن يصب في مصلحة الدول العربية المنتجة للطاقة والتي يتوجب عليها هي الأخرى إدراك المتغيرات الجديدة في الأسواق العالمية وبالتالي الاستفادة من التوجهات الجديدة للدول المستهلكة.
مجمل القول، مر عام على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، شهد العديد من التطورات التي زلزلت قطاع الطاقة العالمي، ومهدت الطريق أمام عاصفة من المتغيرات المتعددة والتي يُعاد معها رسم الخرائط السياسية والاقتصادية مع إعادة صياغة لمفهوم أمن الطاقة على المستوى العالمي بشكل عام وفى القارة الأوروبية بشكل خاص. وقد تمكنت دول القارة الأوروبية من اجتياز فترة حرجة للغاية دون صعوبات كبيرة خلال العام الأول، ولكن العام الثاني من الحرب قد يحتاج إلى اتباع سياسات جديدة من أجل التحرر الكامل من التبعية الأوروبية لموسكو.
.
رابط المصدر: