العرب بعد قمَّة جدَّة: ملامح تاريخ جديد

ابراهيم العبادي

 

لا ينفك العمل السياسي عن التأثر بالتصورات والافكار، التي يحملها الساسة عن ذواتهم وطموحاتهم وما يخططون لبلدانهم، لم يكن للأمم تأثير في صناعة السياسات، إلا في تلك الانظمة الديمقراطية الحقة، كان جوزيف ستالين نموذج الرجل الحديدي الشرس، الذي يلتقط خطط الغرماء والمنافسين من وراء كلماتهم في لقاءات القمة، فلا يضع سقوفا لطموحاته وخططه

يفاوض بلغة المصالح ويقتطع مساحات لنفوذه، وهو يغلف ذلك بلغة الايديولوجيا، منتشيا بدخان سجائره ومتدفئا بمعطفه السميك، تشهد له بذلك، مؤتمرات طهران (1943 ويالطا وبوتسدام 1945 يوما، لاحت بوادر انكسار النازية وتقاسم زعامة النظام الدولي بين قادة الاشتراكية (العظمى) والراسمالية (الليبرالية) التائبة من الروح القومية المتعصبة.

فهم الاوربيون يومها أن قارتهم العجوز شبعت من صراعات وحروب القوميات والمذاهب الفكرية، وأن عليها أن تلتقط انفاسها لتجرب رفاه السلم والتنمية بعدما جربت القوة واستعراض الدبابات بالشوارع، اتفق الاوروبيون بل الغربيون عموما بأن تخلو ساحات دولهم الامامية والخلفية من الحروب، ويدعوا النهضة الصناعية والعلمية والنمو الاقتصادي ترسم تخوم المنافسة والزعامة والدور العالمي.

عاشت أوروبا قرابة النصف قرن تنعم بالهدوء مستعيدة منهج المستشار النمساوي العبقري مترنيخ (1773 – 1859) حتى وهي تعيش اجواء الحرب الباردة وأزمة جدار برلين 1961 وعربدة الدبابات السوفيتية في شوارع بودابست عام 1956 ثم براغ عام 1968، قبل ان تبدأ معاول العمال البولنديين ضرباتها الاولى عام 1981 ممهدة لتكسير جدار الفصل الايديولوجي بين شطري القارة (جدار برلين انهار في عام 1989).

يبدو لي أن العرب اقتربوا من فهم هذا الدرس متأخرين، بل باتوا اكثر استعدادا لتوديع خطوط الصراع الطولية والعرضية، التي اثارت بينهم الزوابع السياسية والحروب الأهلية والمعارك البينية، وان كان المثال السوداني الراهن بقية من ذلك الفكر القبائلي المدمر.

صراع القبيلة والطائفة والدولة، ونزاع الاحلاف العشائرية المتبدي بصورة تحالفات بين انظمة ودول، والانشغال بمخاوف امنية مبالغ فيها، وشن الحروب الاستباقية لوأد التهديدات المظنونة، كلها كانت من بنات أفكار مرحلة غادرتها أوروبا، لننشغل نحن فيها ردحا طويلا، كانت حياة دولنا مسارات لحروب وصراعات وازمات ومناكفات، استهلكت عمر الاجيال وما زادت في العمران اضافات، وما نجت منها الا الدول، التي صنفت أنظمتها بأنها محافظة وتقليدية البنية.

انهارت دولٌ عديدة وعانت اخرى وفشلت ثالثة في مشروع التنمية، لأن نخبها السلطوية لم تتحرر من ضغط الانتماءات إلى المشاريع الأيديولوجية الكبرى، وعاشت الشعوب وهم مطاردة أهداف طوباوية تغلفت أغلبها بشعارات اليسار والتقدمية، كان السبب في ذلك تغلب فكر اليسار العالمي وشيوع التفكير بقوالبه الفكرية، فكانت الهيمنة يومها لسياسات وقفت وراءها الشعارات الفضفاضة من ناصرية وقومية بعثية واشتراكية عربية.

في العشرية الثانية من هذا القرن اشتعلت النيران في اكثر من دولة عربية وتقاتلت الاتجاهات الفكرية الدينية والقومية والعشائرية والسلطوية، وتأثرت حتى تلك الانظمة التي كانت تظن انها بمنأى عن الشرر المتطاير وغزوات الافكار السلفية المتسلحة بآخر صيحات التكنولوجيا الرقمية، وما كانت الساحات الخارجية أقل ضراوة من ساحات الداخل المحتدمة، فالتدخلات الخارجية المغذية للانقسامات المذهبية والطائفية والمندفعة، بوهم الشعارات الكبرى ذات الخلفيات الدينية ساهمت هي الأخرى بتحويل الشرق الأوسط واطرافه إلى منطقة ملتهبة، يزيدها اضطراما اهميتها الجيوستراتيجية، حيث مصادر الطاقة واسواق الاستهلاك والقوة المالية.

عام 2023 يمكن تأرخته بداية التحول الكبير إن كتب له النجاح، اذ إن متغيرات العالم المتزايدة انتجت مسارًا فكريًا سياسيًا جديدا ما كانت تعهده المنطقة من قبل، الأساس في ذلك كان فكرة تحويل العراق إلى ساحة تعاون وتشابك مصالح، بدل ساحة صراع اقليمي ودولي، من العراق تدحرجت الفكرة يمينا ويسارا، لتتحول إلى قناعة ثم قد تتطور إلى ستراتيجية تنتهجها انظمة وحكومات عديدة، خصوصا بعد حصول استدارات كبرى تمثلت بالمصالحة الايرانية -السعودية، والمصالحات العربية التي يؤمل اكتمالها بعدعودة سوريا إلى الجامعة العربية.

اعلان جدة الذي صدر بعد قمة العرب الكبرى بحضور دولي مهم، قد يكون ايذانا بتسويات محلية واقليمية، تؤسس لمرحلة جديدة تنقذ ما صار في طريقه إلى الانهيار في اكثر من بلد عربي.

وتعيد تجميع القوة العربية للافادة من المتغيرات الدولية بعد حرب أوكرانيا وعودة خطوط الانفصال بين الغرب ورروسيا وبزوغ نجم الصين منافسا على المقعد الاول في النظام الدولي.

هنا تلوح فرصة عربية تحتاج إلى منهجية مترنيخية لرعايتها بشجاعة وقبول منطق التسويات والتشاركية، بدلا عن منطق رابح -خاسر، الامر يستلزم تنازلات ونزولا من علياء الشعارات والقبول بالاخر على علاته (مذهبيا، طائفيا، قوميا) وانتهاج سياسات القبول بالادوار بحجم الامكانات والموارد والمصالح.

تجربة السوق الأوروبية المشتركة قبل بلوغها مرحلة الاتحاد تهيئ فرصة نادرة للعرب، للتركيز على التنمية وحقوق الانسان والحريات والبيئة وانقاذ البشر من الفقر والنزوح والهجرة والحروب، بسبب قلة الموارد والحق في صنع السياسات.

العرب أمام اختبارات وعي جديدة شعبيا ونخبويا، سيكون لمشروع السلام والتنمية اعداء أدمنوا منطق الشعارات، وسيعارضه المتحججون برفض التطبيع مع اسرائيل، مع أن هذا المشروع لا ربط له باسرائيل العدوانية التي تلعب وتستثمر في الانقسامات والحروب الاهلية والاقليمية، لكن تيارا عربيا غارقا في منهجية الفكر اليساري لا يمكنه القبول باي مشروع سياسي ما لم يخرج من عباءته، فهو يشكك باي فكرة وسياسة ويعزوها إلى مكر الغرب ودوله المهيمنة، وعلاج هذا التيار في مراكمة النجاحات وجعل الشعوب تكسب، بدل تطاحنها بدفع من الاوهام الكبرى.

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/35117

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M