العلاقات الخليجية الإيرانية: انفتاح نسبي واختبار نوايا

 محمد فوزي

 

شهدت العلاقات الخليجية الإيرانية منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 فترات متفاوتة بين الصدام في بعض الأوقات وحدوث انفراجات نسبية في أوقات أخرى. ومع المتغيرات الدولية والإقليمية العديدة التي يشهدها العالم حاليًا خصوصًا بروز ملامح توجه أمريكي نحو التهدئة مع طهران، والتوجه نحو إعادة تفعيل الاتفاق النووي الإيراني؛ بدأ الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي في تبني خطاب ونهج أقل حدة تجاه الخليج من الرؤساء السابقين لإيران “حسن روحاني – أحمدي نجاد”، بما جعل بعض الدوائر ترى أن هذه الاعتبارات قد تدفع باتجاه فتح حوار خليجي إيراني، يعاد فيه النظر في شكل العلاقة الحالية.

تحركات متنامية

تبنى الجانبان الإيراني والخليجي العديد من الخطوات التي عكست في مجملها إمكانية بدء حوار استراتيجي بين الطرفين، في هذا السياق أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة في 22 أغسطس أن سفيرها في إيران، سيف محمد الزعابي، سيعود إلى طهران “خلال الأيام المقبلة”، بعد أكثر من ست سنوات من تخفيض الإمارات علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، وقالت وزارة الخارجية الإماراتية إن هذه الخطوة تأتي في إطار جهود الإمارات لتعزيز العلاقات مع إيران “لتحقيق المصالح المشتركة للبلدين والمنطقة بشكل أوسع”، وتأتي تنفيذًا لقرار سابق للقيادة السياسية برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.

وفي سياق متصل، أعلنت دولة الكويت في الرابع عشر من أغسطس عن إعادة سفيرها إلى إيران، ونشرت وزارة الخارجية الإيرانية على موقعها أن السفير الكويتي بدر عبد الله المنيخ سلم أوراق اعتماده إلى وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في طهران.

وفي مؤشر على حدوث تقدم على مستوى المباحثات بين الجانبين، أعلن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في حوار مع التلفزيون الإيراني في يوليو الماضي، أن “الوسيط العراقي أبلغ طهران استعداد الرياض لإطلاق محادثات علنية على المستوى السياسي”، مؤكدًا أن بلاده تبادل السعودية الاستعداد نفسه من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وأشارت تقارير إلى قيام وفد سعودي بزيارة العاصمة طهران لتفقد مقر سفارة السعودية في إيران، وأكدت التقارير أن الوفد السعودي زار كذلك مدينة مشهد شمال شرقي البلاد وتفقد مبنى القنصلية السعودية فيها، بما يعكس احتمالية عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قريبًا.

وقد دفعت المؤشرات السابقة بعض الدوائر إلى توقع بدء حوار استراتيجي بين الجانب الخليجي ونظيره الإيراني، وهو الحوار الذي قد يُمهد لخفض التوترات بشكل تكتيكي ومرحلي، دون الوصول إلى تسويات حقيقية ومستدامة، في ضوء استمرار التباينات حول عدد من الملفات لا سيما ما يتعلق بالتدخلات الإيرانية في شؤون دول المنطقة، والدعم الذي تقدمه إيران للعديد من الميليشيات المسلحة والإرهابية.

تعويل إيراني على مبدأ “الأمن الجماعي”

أشار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في اتصال هاتفي مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في يونيو 2021 إلى أن “الأمن الجماعي” سيشكل الجزء الأساسي في “عقيدة السياسة الخارجية الإقليمية” للحكومة القادمة في إيران، مضيفًا أن هذا المبدأ “سوف يجلب الأمن والاستقرار والسلام للمنطقة”، ومؤكدًا أن أولوية حكومته ستكون لدول الجوار، معتبرًا أن التضافر بين “العلاقات السياسية” و”العلاقات الاقتصادية” بين إيران وقطر يمثل نموذجًا مناسبًا لتحقيق “التعاون الاقتصادي الإقليمي”،  لكنه “ربط الاستقرار الإقليمي بوصول التدخلات الأجنبية في شؤون دول المنطقة إلى صفر”، وقد عكس هذا الموقف تبنى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي نهجًا أكثر براجماتية وأقل عقائدية في سياسته الخارجية، ما عزز من توجه إيران نحو تبني سياسات أكثر تعاونية تجاه منطقة الخليج.

وتُشير بعض الأدبيات السياسية التي تناولت مفهوم الأمن الجماعي إلى أن هذا المفهوم يعني أن “جميع الدول تستطيع الحصول على أمن نسبي من خلال الالتزام بعدد من التعهدات حتى مع غياب الثقة”. ويبدو أن الرئيس الإيراني يرى أن التعهد الرئيسي الضامن لتحقيق “الأمن الجماعي” يتمثل في “أقلمة” الحلول، والحد من وإنهاء تدخل القوى الأجنبية في العلاقات الإيرانية بدول الجوار. ويجد المتابع للسياسة الخارجية الإيرانية أن هذا الشرط يمثل أحد الثوابت بالنسبة لإيران، فقد سبق للرئيس حسن روحاني أن دعا إلى أن “تتولى الدول الخليجية أمنها بنفسها دون الاعتماد على التدخل الأجنبي”.

محددات الانفراجة في العلاقات

كانت العلاقات الخليجية الإيرانية في مرحلة ما بعد 2011 قائمة بشكل رئيس على قاعدة “التصعيد المحسوب” وهو النهج الذي كبد الطرفين خسائر نوعية على أكثر من مستوى. وفي ضوء السعي إلى تقليل هذه الخسائر وارتباطًا ببعض المتغيرات الإقليمية، بدأ الطرفان الخليجي والإيراني في تبني سياسة الانفتاح المحسوب و”اختبار النوايا”، ويمكن تناول أبرز المحددات الحاكمة لهذا المسار والتي دفعت باتجاهه، على النحو التالي:

1- تتفق دول الخليج فيما بينها حول أنماط التهديد الإيراني، وهي الأنماط التي تتمحور حول التدخلات في الشؤون الداخلية والإقليمية ودعم بعض الجماعات الإرهابية، والسلاح النووي، والقدرات الصاروخية الإيرانية. لكن مقاربات دول الخليج في التعامل مع إيران تتباين لتصل علاقات بعض الدول بإيران إلى مستوى “العلاقات الودية”، فضلًا عن احتفاظ بعض دول الخليج بمستوى خاص من العلاقات مع إيران، وهو ما يتجسد في الزيارات المتكررة لبعض المسؤولين من دول الخليج لإيران، ومشاركتهم في حفل تنصيب إبراهيم رئيسي “باستثناء السعودية”، وصولًا إلى إعادة فتح السفارات.

2- دفع توجه الولايات المتحدة نحو الانسحاب الفوضوي الجيوبوليتيكي من المنطقة وهو ما تجسد في حالتي أفغانستان والعراق، وتقليل التزاماتها إزاء المنطقة في إطار الاستغناء عن سياسة “الحضور المباشر”، فضلًا عن سياسة الابتزاز التي تمارسها الإدارة الديمقراطية إزاء بعض الدول، باتجاه تراجع ثقة دول المنطقة في الحليف الأمريكي وتبني العديد من دول الخليج لخيار “العصيان الاستراتيجي” تجاه الولايات المتحدة، وتبني خطاب الدبلوماسية والحوار مع إيران، على قاعدة المصالح البينية المشتركة، وإرساء الاستقرار في المنطقة.

3-  تربط بعض التقديرات بين المفاوضات النووية في فيينا وتبني الطرفين الإيراني والخليجي لسياسة “الانفتاح الحذر”؛ فمع تصاعد احتمالية الوصول إلى صيغة “تهدئة نووية”، بدأ الطرفان في تفعيل حوار إقليمي “إيراني – عربي” بوصفه بديلًا عن سياسات التصعيد الإقليمية، لكن دول الخليج ترى ضرورة مراعاة أي صيغة اتفاق يتم التوصل إليها، لتخوفاتها خصوصًا على مستوى التهديد النووي، والأسلحة الصاروخية لإيران ووكلائها في المنطقة، وضرورة وضع قيود على هذين المستويين بما يجعلهما لا يمثلان تهديدًا لدول الخليج.

وتتجسد المخاوف الخليجية بهذا الخصوص، في إعلان ولي العهد السعودي في 2018 أن بلاده سوف تكون حريصة على امتلاك سلاح نووي، حال تملك إيران لهذا السلاح، بما يعني أن المقاربة الأمثل للاتفاق النووي بالنسبة لدول الخليج تتمثل في وضع هذا الاتفاق في إطار شامل يتضمن كل الملفات الخلافية، ويُحجم التهديد الإيراني.

4- أحد المحددات الحاكمة لمسار الانفتاح الحالي بين الطرفين الإيراني والخليجي ترتبط بإدراك النظام الإيراني نفسه لحجم الضغوط والتحديات التي تواجهها الدولة في المرحلة الحالية، وهي التحديات التي تحتم على إيران البحث عن بدائل تضمن لها الخروج من وطأة الضغوط الأمريكية، وهي البدائل التي يقع على رأسها الانفتاح على دول الخليج؛ إذ ترى إيران أن هذا الانفتاح ربما يأتي بتداعيات ومكاسب اقتصادية، هذا فضلًا عن المكاسب الاقتصادية التي ستترتب على الاتفاق النووي المحتمل.

5- أدرك الطرفان الإيراني والخليجي أن الوصول إلى صيغة تهدئة نسبية أو بدء حوار استراتيجي بين الطرفين، على قاعدة المصالح المشتركة، وفي ضوء فكرة الجوار الجغرافي والإسلامي، يمثل المدخل الأهم للوصول إلى نظام إقليمي مستقر، خصوصًا في ضوء التداعيات الكارثية لحالة الصراع بين الجانبين على تسوية معظم أزمات المنطقة، وبطبيعة الحال تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في العديد من الدول.

تحديات قائمة

على الرغم مما تعكسه التحركات الأخيرة من بدء حدوث حوار بين الطرفين الإيراني والخليجي، بما قد يؤدي إلى حدوث بعض التفاهمات البينية على قاعدة المصالح المشتركة، إلا أن هذا المسار يواجه جملة من التداعيات، وذلك على النحو التالي:

1- تقوم السياسة الخارجية الإيرانية في مرحلة ما بعد الثورة على رؤية مفادها أن تحقيق الأمن والاستقرار لنظام الجمهورية الإسلامية، من خلال نظرية تقوم على دفع المشاكل الداخلية إلى الخارج، وأن من حق إيران بما لديها من مبررات تاريخية، وجغرافية، وبشرية، وسياسية، وعقائدية، أن تضع  نظرية أمن للمنطقة تحقق مصالحها وطموحاتها، وهو ما يعني أن إيران سوف تستمر في ممارساتها على مستوى دعم بعض الميليشيات التي تُخدم على رؤيتها، وسياساتها التي تدفع باتجاه زعزعة الاستقرار في المنطقة، وهو ما يمثل تهديد للحوار الإيراني – الخليجي ويدفع باتجاه الصدام بين الطرفين.

2- على الرغم من عدم ممانعة دول الخليج لانفتاح غربي وأمريكي على طهران، بما يدعم الوصول إلى اتفاق نووي، إلا أن دول الخليج تتخوف من أن يكون هذا الاتفاق غير مدروس، وتداعياته فضفاضة، وهي الصيغة التي قد لا تؤدي إلى تغيير السلوك والنهج الإيراني، بل على العكس ربما تحاول إيران توظيف المكاسب الاقتصادية الناتجة عن هذه الانفراجة، بما يدعم مشروعها التوسعي الإقليمي، لا سيما وأن سياسة العقوبات التي كانت متبعة في السنوات الماضية كانت تؤثر بشكل سلبي على البرامج التسليحية لإيران، ومشروعها الإقليمي بطبيعة الحال.

3- شهدت السنوات الماضية وبالتحديد منذ توقيع اتفاقات أبراهام في 2020، العديد من المتغيرات على المستوى الشرق أوسطي، خصوصًا مع زيادة مساحة التعاون بين الدول المنخرطة في هذا المسار وإسرائيل، والسعي إلى تكوين كتلة إقليمية تستهدف بشكل رئيس الحد من الأدوار الإيرانية التوسعية في المنطقة، وما يصاحبها من تحديات. وبالتالي يمكن أن تمثل العلاقات الخليجية الإسرائيلية المتنامية، تحديًا كبيرًا بالنسبة لبناء تفاهمات على مستوى أكبر بين دول الخليج وإيران.

وختامًا، يمكن القول إن ملف الانفتاح الخليجي الإيراني يمثل ضرورة ملحة لتحقيق استقرار نسبي في المنطقة، وهو توجه تفرضه التحديات الدولية والسياق الإقليمي الراهن، لكن هذا المسار سوف تغلب عليه “النسبية” وعدم المعالجة الشاملة لكافة القضايا الخلافية، في ضوء ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية والتي تجعل من إيران مصدر تهديد رئيس في المنطقة وبالنسبة لدول الخليج.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72514/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M