الجفاف والسيول.. معضلة دولية مشتركة!

عبد الستار حتيتة

 

في وقت من الأوقات، كان يجري إعداد تحقيق صحفي دولي عن مشكلة تغير المناخ في العالم، بمشاركة صحفيين من مصر والهند والصين وبريطانيا. كان المشرف النهائي على تحرير التحقيق، صحفية بريطانية من أفضل الكتاب في العالم. وفي قراءة شبه أخيرة سألت: كيف تفسرون لي أن المزارعين من دول مختلفة يعانون من ارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وفي الوقت نفسه يعانون من سيول الأمطار؟ أريد أن أفهم، حتى يمكن أن أوضح هذه النقطة للقراء قبل نشر التحقيق!

هذا سؤال وجيه. وكان ينبغي تفسير ما يجري. إن تغير المناخ في العالم هو أسوأ شيء يمكن أن يواجهه مليارات البشر، ويمكن أن يؤثر على القوت اليومي لسكان الأرض من أفريقيا إلى آسيا ومن أوروبا إلى أمريكا. وقالت الصحفية البريطانية وهي تستمع إلى شهادة فيديو من مزارع هندي: هذه كارثة لا تقل عن كارثة الأسلحة النووية.

لقد عُقدت مؤتمرات دولية عدة، طوال السنوات العشر الأخيرة، في محاولة لحل مشكلة تغير المناخ. وأصبحت توجد استراتيجية دولية ترتكز على توجهات أساسية، منها تسعير الكربون؛ وخطة للاستثمار الأخضر؛ وتدابير من أجل التحول العادل. وبادرت بعض الدول، بما فيها دول بالمنطقة العربية، لزراعة غابات شجرية تقلل من الانبعاثات الحرارية.

لكن أهم ما لفت الانتباه أثناء إجراء التحقيق الصحفي، وجود يقظة وفهم لدى المئات من جمعيات المزارعين حول العالم، لما ينبغي فعله، ألا وهو: أولًا، الإقرار بوجود مشكلة مناخ عالمية. وثانيًا: استخدام التكنولوجيا الحديثة للحد من المخاطر.

وأخذ المزارع الهندي يشرح الطريقة التي تمكن من خلالها، عبر وسائل التواصل الحديثة، من معرفة تجارب فلاحين من أفريقيا، عن كيفية مجابهة مشكلة الجفاف وتدفق السيول، في آن معًا. وبعد أن فهمتْ الصحفية البريطانية الموضوع، قالت إن الأمر بكل بساطة هو أن درجة الحرارة ترتفع، حتى تقتل محاصيل المزارعين في القرى حول العالم، ثم تهب الأعاصير، وتتدفق السيول لتقضي على ما تبقى من حقول. أما الناس فإنهم مثل ما زرعوه؛ معاناة من العطش قبل المطر، ومعاناة من السيول بعدها!

مثل هذه الأمور ذات الهم الإنساني المشترك كانت على طاولة النقاش في مؤتمر جلاسكو الدولي للمناخ في اسكتلندا قي 2021، وسيجري التطرق إليها في مؤتمر مماثل سيعقد في مصر في نوفمبر المقبل بمدينة شرم الشيخ. لقد أدت الثورة الصناعية في العالم، منذ مطلع القرن الثامن عشر -أي منذ اخترع كل ما يعتمد على حرق الفحم والبترول– إلى زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون، وارتفاع درجة حرارة الأرض. والآن تجري محاولات لخفض درجة الحرارة على الكوكب بمقدار 1.5 درجة مئوية، مقارنة بما كانت عليه قبل حقبة الثورة الصناعية.

إن مناقشات الانترنت بين جمعيات لمزارعين في الهند وأخرى في أفريقيا جعلت فلاحين بسطاء يدركون خطر الانبعاثات الكربونية، وأهمية متابعة نشرات هيئات الأرصاد. وأخذ التنبؤ بالفيضانات والتحذير من السيول مأخذ الجد. إن الأمر يتعلق كذلك بمعتقدات قديمة تسود في أوساط العامة في كثير من المناطق الريفية، بما فيها أوروبا وأمريكا. ويبدو أن الأوان قد آن للاقتناع بأهمية الانفتاح بين البشر لتبادل الخبرات العلمية، كطريق تساعد على التغلب على مصاعب المناخ.

مثلا.. يمكن أن يؤدي البطء في تغيير طريقة عمل محطات توليد الكهرباء، من الفحم والبترول، إلى الطاقة النظيفة، لاستمرار الكوارث، بل تفاقمها. العالم يستيقظ كل يوم ليتسبب في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بالمصانع والسيارات وغيرها. بينما هو يحتاج إلى تقليل هذا التلوث. ويوجد طموح دولي (بحسب مذكرة سياسة المناخ لمجموعة الدول العشرين)، للوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر بحلول عام 2050. لذا لابد من وجود تمويل مالي ضخم من أجل الوصول إلى هذا الهدف.

لقد وعدت الدول المتقدمة بتوفير 100 مليار دولار سنويًا للحد من آثار التغيرات المناخية والتكيف معها، بيدَ أنَّ هذه الوعود لم تتحقق بعد. تعلم أن المصانع الكبرى، من الصين والهند، لأمريكا، هي متسبب أساسي في الانبعاثات الكربونية. والمشكلة أن تأثيرها يطال كل شبر على سطح الأرض.

فمن بنود الخطة الاستراتيجية الدولية لمواجهة الكارثة، وضع تدابير للتحول العادل.. أي تغيير طريقة عمل عشرات الآلاف من تلك المصانع. ومن الصعب، بطبيعة الحال، أن تقنع صاحب المنشأة الصناعية باستقطاع جانب من إيراداته المالية، لإصلاح بيئة الكوكب. لهذا لا بد من تدخل الحكومات بالعصا والجزرة!

المؤتمرات الدولية مهمة للاستمرار في دق ناقوس الخطر. ومن نتائج اللقاءات التي عقدت في الماضي، واللقاء المزمع في شرم الشيخ، اتجاه كثير من بلدان العالم إلى إنشاء محطات توليد الطاقة من الشمس والرياح، وتشجيع صناعة السيارات الكهربائية. وتنمية التعاون بين أجهزة الأرصاد حول العالم، والتضافر الدولي من أجل إقامة السدود في المجاري المتوقعة للسيول، واستحداث طرق سهلة لتخزين مياه الأمطار، لإعادة استخدامها.

وتوجد تجارب ناجحة، لكنها ما زالت صغيرة، في بعض بلدان آسيا وأفريقيا. إن مصر التي تستضيف مؤتمر المناخ هذه السنة، تسعى للوصول بنسبة المشروعات الخضراء الممولة من الحكومة إلى 100% بحلول 2030، مع العلم أن الانبعاثات الكربونية المصرية لا تتجاوز 0.6% من اجمالي انبعاثات العالم. ومع ذلك لدى الدولة المصرية إرث مهم من التعاون الدولي لتحسين المناخ. ففي القارة الأفريقية أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي، في لجنة الرؤساء الأفارقة المعنيين بتغير المناخ عامي 2015 و2016، مبادرات خاصة بالطاقة المتجددة ودعم جهود التكيف في القارة السمراء. وعلى الصعيد الدولي ترأست مصر مفاوضات تغير المناخ، عام 2018.

عمومًا، وأثناء إعداد ذلكم التحقيق الصحفي، تبيَّن أنه يمكن لبيانات الأرصاد الجوية، على مدار سنوات، أن تعطي ملامح لمواقع نزول الأمطار، وأماكن مرور السيول. ويمكن أن يكون هذا بالتعاون ما بين أجهزة الأرصاد المختلفة، ليس في الدولة الواحدة، بل في الدول المجاورة أيضًا. إن هذا أحد محاور لنقاشات دولية جرت في السابق، وستجري مرة أخرى في مؤتمر شرم الشيخ.

من التفاصيل الصغيرة، أنه يوجد نوعان معروفان في الدول الغربية للتنبؤ التقني بالطقس. الأول هو نموذج الكمبيوتر الأمريكي، والثاني نموذج الكمبيوتر الأوروبي. وغالبًا ما يعطي كل منهما قراءات مختلفة عن الآخر. وهذا يتطلب تعاونًا بين دول العالم لتقريب توقعات المناخ، وتحقيق التكامل فيما بينها، غربًا وشرقًا، بعيدًا عن النزاعات.

فالصراع السياسي والتنافس بين الشرق والغرب لن يحمي الأرض من ارتفاع درجات الحرارة، ووقوع تغيرات مناخية كارثية وغير مسبوقة. ففي بعض مناطق جنوب الصين، في هذه السنة (2022)، وصلت درجة الحرارة إلى أكثر من 70 درجة مئوية، خاصة في مقاطعة جيانغسو، وفجأة هطلت الأمطار بغزارة فدمرت السيول ما أمامها، وقتلت أيضًا بعض الناس. وبعدها بأيام، في الولايات المتحدة، وبالتحديد في ولاية تكساس، تدفقت سيول الأمطار فجأة فجرفت ما أمامها. ناهيك عن المجاعات في أفريقيا، ونقص الغذاء عمومًا، وفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة.

الإنترنت يوفر طرقًا حديثة للنقاش وتبادل الخبرات من أماكن مختلفة حول العالم. وفي بعض القرى، سواء في آسيا أو في غيرها، يمكن الاستماع إلى ما يقوله المزارعون الذين يفقدون ذويهم في موجات الحر والمطر. وكثير من التطلعات الملهمة من الريف، تقول إن التواصل والتعاون عن طريق التقنيات الحديثة، يمكن أن يسهم في حل المشكلة، مع الوضع في الاعتبار، مثلًا، وجود مصاعب -كما أسلفنا- في التكامل بين أجهزة رصد الطقس، ليس بين الشرق والغرب فقط، ولكن بين دول الغرب نفسها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72508/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M