القمع الناعم للبيروقراطية في “أنا، دانييل بليك” – علي محمود

مقدمة

يُمكن لأي مشاهد لفيلم “أنا، دانييل بليك” أن يشعر ويحس بكل ما يحتويه الفيلم من مشاعر كثيفة لمعاناة رجلٍ بسيط في ظل نظام غير منصف -على الأقل- في قصته الشخصية. غير أن الفيلم الفائز بجائزة البالم أدور، أو السعفة الذهبية في مهرجان كان سنة 2016، يحتوي على كثير من المفاهيم والأفكار الداخلية التي تفسّر بل وتتجاوز قصة “دانييل بليك” لتفهم نظامًا اجتماعيًا عامًا، وتحتج عليه من وجهة نظر أخلاقية. ذلك ما هو بحاجة لأكثر من مشاهدة ثاقبة وفاحصة ليتمكن المشاهد من فهم ما يدل عليه الفيلم بمشاهده الكثيفة والمتعددة. ما تحاوله هذه المقالة هو أن تقدّم قراءةً تفكيكية للفيلم في شقين: ما يفسر الأحداث بما هي نقد مباشر للبيروقراطية والحداثة بشكلها الرأسمالي، وتفكيك رمزيات الفيلم بما هو أعم ومتعلق بمفاهيم يسارية في شق آخر.

البيروقراطية والظلم الممنهج

يفتتح المخرج، المهتم بقضايا العمال في مجمل أعماله، الفيلم من خلال حوار لرجل يتذمر كثيرًا عند مسؤولة التأمين الصحي، ما قد يُفهم أنه تذمر رجل عجوز كأي تذمر اعتيادي وروتيني. ذلك قبل أن نفهم فيما بعد أن الفيلم يبدأ من حيث تنتهي قصة السيد بليك بوصفه عامل أو موظف. حيث أن ذهابه للتأمين هو لتأمين مصدر دخل بعد أن منعه الطبيب من أن يستمر في عمله أو أي عمل آخر مما قد تعوّد عليه، باعتباره معفى من العمل وفق النقابة العمالية. غير أن ما تقوم به موظفة “اتحاد دعم التوظيف”، أو ما يعد تأمينًا اجتماعيًا، هو أنها تعاين حالته إن كانت مستوفيةً لشروط الضمان، وذلك عبر فحص كل جزء لا يرتبط بمشكلة السيد بليك الأساسية، وهي القلب. ذلك ما يظهر أن السيد بليك لم يكن يتذمر تذمر رجل عجوز اعتيادي، بل هو يتذمر وكأنما هو يتنبأ بمشاكل البيروقراطية اللانهائية التي لن تنتهي مع نهاية حياته. يقدّم الفيلم بعدها، في مشاهد متعددة ومتعاقبة، معاناة السيد بليك مع هذه البيروقراطية. فمثلاً، هو لا يمكنه أن يتأكد من استحقاقه للإعفاء عن العمل إلا من خلال رسالة تصله عبر البريد تعقبها مكالمة من طبيب الضمان. بيد أن الرسالة التي لم تصل أبدًا تجبره على أن يتصل على خدمات الضمان ويبقى على خط الانتظار لما يزيد عن الساعة والعشرون دقيقة فقط ليقول له الموظف أنه سوف يحرص على إرسال الرسالة التي قد لا تصل مرة أخرى. هكذا يسرد المسلسل الأحداث بما يبعث على الملل المتعاطِف مع ملل السيد بليك. الملل الذي يشعر به المشاهد والسيد بليك على حد سواء هو ملل ممنهج من قبل مؤسسة الضمان الاجتماعي تلك، أو هكذا يدعي السيد بليك.

ليست البيروقراطية هنا سوى وسيلة لبث اليأس في المستحقين للضمان -الذي توفره الدولة أصلاً ضمن برامج التأمينات الاجتماعية- عبر الخطوات الطويلة والمتعبة، والتي تتطلب جلدًا وصبرًا لا يتحلى به معظم الناس. بيد أن السيد بليك لم يكن لديه سوى خيار الحرب والجلَد. لم تلبث حرب السيد بليك كثيرًا قبل أن تجرده في وقت قياسي من مقتنياته الشخصية، كما أنها جردته من أثاث منزله أيضًا، وذلك في ظل نضاله مع هذه البيروقراطية التي لم تتوانى عن وضع عقبة بعد الأخرى في وجهه ليحصل على الإعفاء. كل ذلك كان قبل اللقاء الأخير في مكتب التأمينات الاجتماعية. في هذا اللقاء تبين من قبل الموظفة أن كل محاولاته في تخطي العقبات باءت بالفشل، حيث أنها تقول له بالحرف الواحد أن “كل هذا ليس جيدًا بما فيه الكفاية”. ينفجر بعدها السيد بليك في الشارع معترضًا، وذلك عبر جلب الانتباه له من خلال كتابة عبارة “أنا، دانييل بليك” بالخط العريض على جدار شركة التأمين نفسها يتبعها ملخص بسيط عن مأساته ومعاناته مع خدمات الضمان الاجتماعي، جاذبًا انتباه أي مار في تلك الناحية. لم يكن اعتراض دانييل بليك هنا الأول، غير أنه الأول من نوعه بالتأكيد، وهو الذي انتهى بالتوقيف والتعهد عند الشرطة، قبل أن يصيبه اكتئاب حاد منعه من مغادرة المنزل. ما يجب الالتفات له هنا أن قصة السيد بليك هي قصة مواطن صالح متقيد ومتبع للقانون، ليس لديه سوى أن يبحث عن عمل وعن طريقة يتجاوز فيها معضلاته الصحية والبيروقراطية. غير أن ذلك بكل تأكيد غير كاف في ظل نظام يتهرب من مسؤولياته ولا يتسامح مع الإنسان سوى ذلك الذي يصبح آلة تستفيد منها الرأسمالية في المقام الأول، ومن هنا تأتي أهمية القصة الأساسية للشخصية الأخرى في الفيلم، وهي التي تبيّن تأثير النظام الرأسمالي، لا سيما عند ارتباطه ببيروقراطية حادة كالتي تتبعها شركات التأمين والضمان الاجتماعي في بريطانيا، وذلك ما يناقشه الجزء القادم.

 

الرأسمالية حينما تلتحم مع البيروقراطية

تدور الأحداث في الفيلم حول قصة دانييل بليك في المقام الأول. غير أن الفتاة التي ارتبطت قصته المأساوية بقصتها المأساوية هي الأخرى لا تقل أهميةً في سرد المخرج والكاتب في نقد النظام الاجتماعي والاقتصادي العام. يلتقي السيد بليك، في إحدى مرّاته الأولى في مكتب الضمان الاجتماعي، بفتاة مع طفليها، وذلك حين تم طردها من مكتب التأمينات الاجتماعية لتأخرها على موعدها بعشرة دقائق. لقاء دانييل بليك بـ”كايتي” هنا جاء لتضامنه معها رفضًا لمعاملتهم اللاإنسانية، كما يقول صارخًا، وذلك قبل أن يُطرد معها هو الآخر. لم تكن قضية السيد بليك حين رأى كايتي إلا معاناة تافهة أمام أم لطفلين، وهي التي لا يمكنها -حرفيًا- أن تطعم طفليها قبل أن تطعم نفسها. هي نفسها التي تمكنت من الخروج من دار المشردين بعد عناء طويل، ولم تحصل على موافقة خدمات الضمان الاجتماعي لإعالة طفليها. قصة كايتي هنا تحمل المشاهد الأكثر كثافة في الفيلم. إذ أن مجرد سقوط رخامة صغيرة وتكسرها، أثناء محاولتها ترميم حمام شقتها المتواضعة جدًا بعد يوم مليء بالنضال من أجل البحث عن عمل غير موجود، مجرد سقوط الرخامة كان كفيلاً بإطاحة دمعها المتردد والمنكسر أمام أطفالها. ذلك الذي لم يكن شيئًا أمام انهيارها في مخزن طعام المحتاجين وذلك لمباشرتها بالتهام ما حصلت عليه، وهي تمثّل في بكائها كل ما يشعر به عامل لم يجد لقمة عيش بعد أشهر من النضال والبحث عنها من ذل. قصة كايتي هنا هي التمثُّل الأكثر بشاعة لقهر النظام الرأسمالي لمن لم يحالفه الحظ في أن يولد في بيئة غنية. وهي التي تضطر في نهاية المطاف لأن تصبح بائعة هوى إن صح التعبير. يمكن للقارئ أن يلحظ أن قصة كايتي هنا ليست قصة جديدة في فهم تأثير الرأسمالية الفردانية المتوحشة على الأفراد. إلا أن الأهم هو تقاطع قصة كايتي مع قصة السيد بليك، وهو الذي يمثّل تقاطع البيروقراطية مع الرأسمالية في حالاتهم الأبشع.

ما يحاول أن ينتقده الفيلم هنا ليست فكرة البيروقراطية بذاتها ولا الرأسمالية بالضرورة، بل هو يقدم نقدًا للاستخدام الرأسمالي للبيروقراطية في ما يسمى بالخدمات الاجتماعية. ليست الخدمات الاجتماعية هنا سوى محاولة لتخفيض الخسائر الإنسانية الناتجة عن الوحشية الرأسمالية. بيد أن النظام نفسه الذي أنتج هذه الخدمات صيّرها وسيلة لإعادة إنتاج أفراد استهلاكيين ومفيدين للنظام الرأسمالي نفسه، ولا يمكنه أن يخدم ما يخرج عن هذه المعادلة، هذا ما يتناص مع أن هذه الخدمات باردة وجافة وغير واقعية. ذلك ما يمكن رؤيته من خلال شخصيتي السيد بليك وكايتي. إن ما توضحه علاقة الشخصيتين ببعضهما البعض هو أن العلاقات الإنسانية التكافلية الحقيقية، والتي تصدر من المعاناة المشتركة، هي ما يمكنها أن تقدّم ضمانًا اجتماعيًا عامًا، وذلك ما لا يقوم به النظام البيروقراطي للضمان الاجتماعي. ما تقوله قصة السيد بليك، وهي التي تنتهي بوفاته في اللحظات الأخيرة، هو أن نظام الضمان الاجتماعي هو على العكس من غايته. هو مجرد صورة تحسينية لواقع رأسمالي/فرداني مزرٍ، بل وهو مجرد عقبة أخرى في وجه الطبقة العمالية.

الرمزية اليسارية

لا يخفي الفيلم توجهاته الأيديولوجية والسياسية إطلاقًا. فهو يرمي سهامه نحو النظام وكل ما يمثله منذ الوهلة الأولى. ذلك ما يؤكد أن أجندة الفيلم لا تنحصر على قصة السيد بليك والسيدة كايتي، بل هي محاولة لقراءة البنى التحتية ككل للمجتمع البريطاني الحديث في ظل الرأسمالية وما يتبعها من نظام بيروقراطي معقد، وذلك ما هو واضح من خلال الأنظمة، وذلك في قبال الاعتراض اليساري والذي ترمز إليه قصة السيد بليك بالتحديد. يعترض الفيلم بكل تأكيد على البنية الحديثة للمجتمعات فيه ماهيتها، ويعترض على كل إنتاجاتها وإن بدت أنها تتقاطع وتتلاحم مع اليسار. رؤية الفيلم هنا ثورية، حيث لا يقبل المخرج بأنصاف الحلول التي تتمثل على هيئة الضمان الاجتماعي. بيد أنه على الرغم من ذلك كله، لا نرى معارضةً غير اعتيادية. كل ما يقوم به السيد بليك اعتراضًا على النظام هو كتابة جملة بسيطة على جدار مؤسسة الضمان الاجتماعي، وذلك ما يمثل خروجًا تافهًا على القانون لا يؤثر سوى على السيد بليك. تصل معارضة السيد بليك إلى أقصاها في محاولته أن يتحدى القانون في مقاضاته عبر المؤسسات الرسمية نفسها للمؤسسة التي عانى مع بيروقراطيتها. بيد أن السيد بليك هنا هو ما يمثله اليسار في بريطانيا: المعارضة الأخلاقية المحبطة والتي وإن كانت على وشك حصولها على بعض حقوقها، فهي تخسر النزال لما بذلته من مجهود مرهق. توفي السيد بليك بسكتة قلبية مفاجئة قبيل اجتماع كان على الأرجح أنه سيكسب به النزال الطويل ضد البيروقراطية ليتمكن من أن يحصل على ما يكفل لقمة عيشه، وكان بذلك يمثّل معظم محاولات اليسار: نضال أخلاقي ومن رحم المعاناة يخوضه وحيدًا وضعيفًا في مقابل نظام هائل ووحشي يستهلك كل نقطة في خلد هذا المناضل ليخسر كل النِزالات البسيطة وإن أوشك على أن يكسب أبسطها.

 

ختامًا

تتصف معظم الأعمال المؤدلجة والتي تحمل أجندة سابقة على العمل في تكرارها لشعارات رنانة لا تحوي أفكارًا ولا محتوًى فنيًا أصيلاً في جوهرها. بيد أن مخرج الفيلم، كين لوتش، المشغول بالطبقة العمالية البريطانية منذ بداياته السينمائية، تمكن من أن ينطلق من الإنسان ومن فرادة التجربة الإنسانية للفرد في فهم البنية التحتية للنظام الرأسمالي/البيروقراطي ولا ينطلق من الأيديولوجيا والنظرية. إن السيد بليك في نظر المخرج هو الشخص البسيط والمقاتل، والذي لا يعرف شيئًا عن اليسار أو اليمين، ولا يفهم ماهية الرأسمالية والبيروقراطية، ولكنه وقع ضحيتهم وقاوم كما يقاوم اليسار تمامًا. تقرأ كايتي رسالته الأخيرة في جنازته، وهي التي تمثّل حقيقة نضاله ونضال اليسار أيضًا، وتمثّل الوجه المعترض والصارخ على النظام، خاتمة الفيلم بعبارة لا تقل مأساويةً عما حدث لصاحبها، وما يمثله كله: “أنا إنسان ولست كلبًا. أنا، دانييل بليك، أطالب بأن أُعامل باحترام. لا شيء أكثر من ذلك”.

 

رابط المصدر:

https://manaa.net/archives/2135

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M