د. حميد الأشهب
من أهمّ المشكلات التي تعصف بعلم الاجتماع السياسي الغربي، حالة الانفصام بين تنظيراته التأسيسيّة التي رافقت بدايات ما سمّي بـ «عصر التنوير» والتطبيقات التي أجراها في سياق بناء الدولة المركزيّة، ابتداءً من القرن الثامن عشر. ولعلّ نشوء الظاهرة الاستعماريّة واستشراء الايديولوجيّة والسيطرة واستتباع المجتمعات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كانت شاهداً لا جدال فيه على شيزوفرينيا العقل السياسي الغربي.
في هذا الحوار مع الباحث المغربي حميد الأشهب متاخمة لهذه المعضلة وما تركته من آثارٍ عميقةٍ على تحوّلات نظام القيم في العالم، وما سوف تفضي إليه من تداعياتٍ راهنةٍ ومستقبليّةٍ على مرتكزات الأمن العالمي في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
«المحرر»
* إذا كان ثمّة من مشكلاتٍ بنيويّةٍ في الاجتماع السياسي الغربي، فإنّ أكثر ما تتمظهر فيه تلك المشكلات تعود إلى ذهنيّة التفكير التي توجّه المجتمع والسلطة، والتي دفعتها أنانيتها المفرطة إلى نزعةٍ استعماريّةٍ عابرةٍ للحدود، هل لكم أن تضعونا- ولو على نحو مجمل – في أبرز معالم هذه المشكلات؟
– في عزّ نرجسيّته العميقة، لا يفقه الغربيّ أنانيّته أو يراها مشكلًا، تمامًا كما أنّه لا يعتبر الاستعمار رذيلةً أخلاقيّةً، بل الحلّ السحريّ الذي ساعده للخروج من مشاكله والاستغناء على حساب أممٍ أخرى. ما نراه نحن كمشكلٍ في الثّقافة السوسيولوجيّة والسياسيّة الغربيّة لا تفهمه الأغلبيّة الساحقة من المفكّرين الغربيين كذلك، بل تدافع بوسائلها المتاحة على كلّ الآليات والأدوات والخلفيات الفكريّة والثقافيّة، التي أسّست الاستعمار وساعدته في كلّ مناحيه: العسكريّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والثّقافيّة،… إلخ. فإذا كنّا في القرن الواحد والعشرين الميلادي ما زلنا نرى «باحثين» غربيين يدافعون على إرثهم العنصري ومركزيتهم، النابذ والمحتقر لكلّ ما هو غير غربيٍّ، بل هناك من يمجّد العنصريّة، ويُطالب بالتّفرقة الإثنيّة، ويشتغل على أطروحات تزكّي العجرفة الغربيّة، فإنّ الإنسانيّة لم تتجاوز في الحقيقة في تطوّرها الطويل المرحلة البدائيّة.
المشكل الحقيقي في الغرب حاليًا هو تقزيم فعل المفكّر المُدافع على حقوق الشعوب الأخرى، وإبعاده قدر المستطاع عن مركز القرار والاحتفاظ به كموظفٍ بسيطٍ يعيش على ماهيّة تضمن له قوته اليومي. أفل نجم المفكّر الملتزم في الغرب بصورةٍ مذهلةٍ، ولم نعد نرى إلّا مفكرين همّهم الأساس هو تقوية شوكة الغرب وتشجيعه على المضي قدمًا في تدمير العالم من أجل رفاهيّته وسيطرته. من هذا التوجّه تُفرخ نظريّات وأطروحات تمهّد لشنّ الحروب النّاعمة على كلّ من لا يرضخ للإرادة الغربيّة، وبالخصوص الأميركيّة منها. بل أصبحت الكثير من معاهد ومراكز البحث موظَّفة من طرف الليبراليّة الإمبرياليّة؛ لتقديم خلاصات دراسات تُساهم مباشرة السياسي لاتّخاذ قرارات لطحن أيّ بلدٍ يريده بأقلّ تكلفة ودون أن يتدخّل مباشرة في البلد المعني بالأمر.
هناك إذًا، غياب شبه تامّ للنّقد الإبستيمولوجي الدقيق والعقلاني لاشتغال الباحثين. تُستغلّ مناهج البحث العلمي ونتائجه ليس لتطوير هذا العلم أو ذاك، بل لتقوية المركزيّة الغربيّة، التي تسمح لصاحب القرار من إتمام السياسة الغربيّة العامّة في قهر الشّعوب الأخرى. وأدّى هذا الغياب إلى غضّ الطّرف عن التطوّرات الأخيرة للليبراليّة المتوحّشة، التي لم تعد تشكّل أيّ مشكلٍ بالنّسبة للمفكّر الغربي، بقدر ما تحاول الأغلبيّة منهم تبريرها واعتبارها أفضل نظام حكم ممكن.
* لم يكن العقد الاجتماعي الذي تأسّست عليه الحداثة سوى حاصل ضرورةٍ تاريخيّةٍ افترضتها عمليّة بناء الدولة والمجتمع المدني. أين أصبح هذا العقد اليوم بعد قرون من التجربة، وهل باتت حضارة الغرب تحتاج إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يملأ الخواء الذي يجتاحها على غير صعيد؟
– لم يكن العقد الاجتماعيّ عقدًا بمعنى التّراضي بين طرفين، بل كان تنظيرًا من طرف مجموعةٍ من المفكّرين في أزمنةٍ مختلفةٍ بعد الثورات الكبرى في أوروبا الغربية نهاية القرن الثامن عشر. فكّر المرء فيها؛ لأنّ أوروبا كانت في مفترق طرق نظامين للحكم: السّلطة الإقطاعيّة المدعومة بالكنيسة وفكر الثّورة الذي كان يطرح نفسه كبديل. وحتى وإن كان العقد الاجتماعي يُعتبر إلى حدّ الساعة أفضل ما حصل في أوروبا أنذاك، فإنّه أنتج أيضًا «حقدًا اجتماعيًا» في مختلف المستعمرات الأوروبية؛ لأنّ المبادئ التي جاء بها، وطُرق تنظيم الحكم والعلاقة بين السلطات والمواطن لم تُطبّق خارج أوروبا، التي استمرّت في فرض نظامٍ عبوديٍّ سلطويٍّ جائرٍ في كلّ مستعمراتها.
لم يصمد هذا العقد أيضًا في وجه النّزعة التّدميريّة للكثير من الدّول الأوروبيّة، ذلك أنّ الحروب التي دارت رحاها على الأرض الأوروبيّة انتهى بها المطاف إلى حربين عالميّتين كبيرتين، ساهمت في صقل موهبة الغربي للتفنّن في فرض سيادته على باقي العالم بالقوّة. ومنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، أصبح العقد الاجتماعي يضعف باستمرار؛ لأنّ الغرب تعلّم في تاريخه السّلطويّ الطويل الكيل بمكيالين في سياسته القطريّة والخارجيّة بصفة عامّة. ولعلّ هذا راجع بالأساس إلى التّفوّق المُخيف للليبراليّة وتطوّرها إلى أداة قهرٍ وعنصريّةٍ وبطشٍ، خدمةً لفئةٍ بعينها، تتوهم بأنّها «خير ما أخرج للناس»، بل على الكلّ خدمتها والاعتناء بها. ولعلّ التّطوّرات الأخيرة في السياسة الأميركيّة على عهد ترامب تؤكّد بما فيه الكفاية هذا الطرح.
وصلت التجربة السياسيّة الغربيّة إلى إقطاعيّةٍ جديدةٍ ممثّلةً في الليبراليّة المتوحّشة، التي لا تعترف بأيّ عقدٍ، سواء أكان سياسيًا أم اقتصاديًا أم أخلاقيًا. تعقد العقود كما يحلو لها وتفسخها وتلغيها كما تريد، وبهذا فقد رجعت إلى عهد الإقطاع بحذافره. يعني اكتملت دورة النّظام السياسي الغربي، وعاد إلى أصله، ولم يعد له أيّ بديل يعمل به ويقترحه. ولا نرى في الأفق أيّ مبادراتٍ فكريّةٍ لخروج الغرب من عنق الزّجاجة السياسي الذي يوجد فيه، بقدر ما هناك محاولات إصلاح وترقيع النظام القائم.
* في خلال العقود الثلاثة المنصرمة، طرأت تبدَّلات جوهريّة على جملةٍ من المفاهيم الأساسيّة التي كانت تشكّل ثوابت في الفكر السياسي الغربي ونظريّاته. نذكر في هذا المجال، وعلى وجه الخصوص، العوامل الموضوعيّة والذاتيّة التي أخذت تتحكّم باندلاع الثورات الوطنيّة ضدّ الاحتلال، وبالثورات الشعبيّة داخل المجتمعات، وكذلك بالثّوابت المتعلّقة ببناء الدّول وديمومتها.. كيف تقرأون باختصار أهمّ التبدّلات الحاصلة على هذا الصعيد؟
– يكون المرء مخطئًا إن ظنّ بأنّ الغرب السياسي يشتغل بمنطقٍ أخلاقيٍّ، قوامه العدل والحقّ والقانون ومناصرة المظلوم واسترجاع حقّ الضعيف. وينطبق هذا بالخصوص على سياسته الخارجيّة اتّجاه الشعوب والأمم الأخرى. فإذا لم يكن الغرب يؤمن بالمبادئ التي حاول فرضها على كلّ العالم، ومنها بالخصوص حقّ تقرير المصير للشعوب واستقلالها السياسي والإقتصادي، فإنّ عدم الإيمان هذا قاده إلى لغةٍ مزدوجةٍ منذ قرون: ينادي بالفضيلة وينشر الرذيلة في عموم بقاع العالم عن طريق إشعال فتيل الفتن والنّزاعات في البلد الواحد أو بين الدول.
بعدما شبع الغرب الرأسمالي الليبرالي فتكًا بالشعوب، قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وبالخصوص في المنطقة العربية، فإنّه لجأ في العقود الأخيرة إلى ما اصطلح عليه هو نفسه «الحرب الناعمة»، البنت الشرعيّة للتوربو ليبرالية، التي تحاول كسب أكثر ما يمكنها كسبه بأقلّ جهدٍ ممكنٍ.
من أهمّ التّغيّرات التي حصلت إثر هذه السياسية هو نشر الفوضى العارمة في العالم، وخلق بؤر توتّر وصراع مستدامة على أكثر من مستوى، والإنهيار التامّ للدّولة الوطنيّة وبالخصوص في العالم العربي، وفرض منطق الخضوع المطلق للسيد الليبرالي من طرف أنظمةٍ كثيرةٍ، وبالخصوص الممالك والإمارات العربّية في الخليج، وفرض علاوات على «حماية» الدول، بل ابتزازها لدفع هذه العلاوات وتقوية شوكة اليد الطويلة للغرب في منطقة الشرق الأوسط وفرض التطبيع معها… إلخ.
هناك بالفعل رغبةٌ ملحةٌ لإعادة ترسيم الحدود في الشّرق الأوسط بالخصوص، لتتماشى ورغبات وحاجيات الغرب المسيطر؛ لأنّ الحدود التي رسمها الاستعمار القديم لم تعد مجدية لخدمة المصالح الغربيّة، ولا ندري لحدّ السّاعة إلى أين تفضي هذه السياسية، ما أصبح واضح المعالم هو اشتغال الإمبرياليّة الحاليّة على محاولة مسح الفلسطينيين بالكامل وإخراجهم من وطنهم الأصلي.
* قد يكون من أبرز ما شهده الفكر السياسي الغربي المعاصر هو سيطرة النّزعة النفعيّة والماكيافليّة المفرطة على منظومات القيم الأخلاقية والسياسيّة. ما هو برأيكم أثر هذه السيطرة في انعكاسها على العلاقات التي تحكم النظام العالمي الراهن.. وهل ثمّة إمكانيّة واقعيّة لقيام مثل هذا النّظام المتكافئ في العلاقات الدوليّة؟
– بدأت السياسة البرغماتيّة للغرب اتّجاه الشّعوب الأخرى بعد القضاء على آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية. فما يُسمّى بالاكتشافات الجغرافيّة الكبرى لم تكن شيئًا آخر من غير البحث المنهجي والمستدام على السيطرة بالقوّة على خيرات بلدان أخرى. واتّضح هذا جليًا مع بداية الحركات الاستعمارية والسطو على أراض وخيرات خارج القارة الأوروبية. بل كان نظام العبودية الذي أعاد المرء تشكيله من جديد وعلى أسسٍ قانونيةٍ محضةٍ البرهان الحقيقي على السياسة النفعيّة للأوروبيين. فكلّ السياسة الاستعماريّة كانت نفعيّة ليس إلا.
بعدما تحوّل الاستعمار المباشر إلى استعمار «ناعم»، تقوّت الليبراليّة وفرضت على العالم منذ انهيار المعسكر الشّرقي نظامها الخاص، الذي لا يعني شيئًا آخر من غير الحرص على سياسة عدم ترك أيّ مكان وإمكانيّة لأيٍّ كان؛ من أجل تشكيل منافسةٍ لهذا النّظام. وبالنّظر إلى التّفاوت في القوّة، لم تستطع أيّة دولةٍ إلى حدّ السّاعة الوقوف في وجه الجبروت الأميركي بالخصوص، ولم تستطع أوروبا المتحدة، الحليف التقليدي لأميركا، من إقناع هذه الأخيرة للحدّ من الإفراط في استعمال قوّتها ضدّ الدّول الأخرى، بل في كثير من الأحيان وفي الكثير من الميادين تعاني أوروبا نفسها من الحيف الأميركي.
يتوقّع العديد من المحلّلين بأنّ التنين الصيني مرشّحٌ لبداية فرض توازنٍ في القوى العالميّة، فكلّ المؤشّرات تؤكد بأنّ الصين في طريقها إلى هذا؛ لأنّها استطاعت في السنين الأخيرة بناء اقتصادٍ عصريٍّ تنافسيٍّ وقادر على تغيير معطيات الهيمنة الأميركية. ومن أهمّ الميادين التي يلمس المرء فيها قوّة الصين هو العالم الرقمي وتطوير التكنولوجيا، الذي يُرعب أميركا بالخصوص، ويدفعها كلّما ظهرت طفرة تفوّق صينيٍّ إلى إعلان حربٍ تجاريةٍ على الصين ومحاولة محاصرتها؛ لكي تبقى في حضيرة الدول التابعة.
على الرّغم من أنّ روسيا لا تتوفّر على الإمكانيات الموضوعيّة؛ لتكون بحقّ قادرة على إعادة إحياء التوازن القديم بينها وبين الغرب عامّة وأميركا خاصّة، فإنّ ترسانتها النوويّة تفرض على الغرب التعامل معها بحذر وعدم ابتزازها إلى أقصى حدّ والوصول إلى حرب معها. كما أنّ محور المقاومة في العالم العربي الإسلامي، وعلى الرغم من سياسة الحصار والشنق والخنق التي يتعرّض لها مباشرةً من الغرب، أو باستعمال هذا الأخير لبيادقه في العالم العربي، وبالخصوص الدول النفطيّة، قد أصبح يمثّل معادلة لم يعد الغرب قادرًا على تجاهلها، كما أنّه يصعب عليه كثيرًا القضاء عليها.
* من المفارقات اللاَّفتة أنّ اليمين العالمي بإيديولوجيّته الرأسماليّة الليبراليّة هو الذي يقود الآن حركة التحوّلات منذ نهاية الحرب الباردة أواخر ثمانينيات القرن الماضي. الحصيلة أنّ هذه الظاهرة أدّت في كثير من بلدان أوروبا الشرقيّة وفي العالم العربي خصوصاً إمّا إلى حروبٍ أهليةٍ مفتوحةٍ، أو إلى إعادة تركيب سلطةٍ سياسيةٍ مواليةٍ بالمطلق للرأسماليّة المتوحّشة، ما تعليقكم على هذه المفارقة؟
– إذا كانت الليبراليّة تعني مبدئيًا عدم التّدخّل في سيرورات المجتمع، أكانت اقتصادية أم ثقافيّة، فإنّ هذا التعريف يتناقض وكنه الليبرالية؛ لأنّها منذ البداية أداة للتدخل والسيطرة والتوجيه والسيادة، سواء داخل مجتمعاتها أو خارجها. ودون التدخل في شؤون الدول الأخرى، لن يكون للليبراليّة وجودٌ؛ لأنّها في العمق تعيش في ومن الماء العكر. ويكون التدخّل دائمًا من أجل خلق الفوضى وإشعال فتيل الفتن حيثما مرّت الأنظمة الليبرالية. والواقع أنّ التّطوّر الحالي لهذه الأخيرة يحتوي على عناصر عدّة لأنظمةٍ سياسيةٍ مختلفةٍ: فهي إلى جانب نزعتها الاستعماريّة الواضحة، ديكتاتوريّة على الأصعدة كلّها وبالخصوص فيما يخصّ السياسة العالميّة وسلوكها في مختلف المؤسّسات الأمميّة، التي كان الهدف منها التقليل من الصّراعات بين الدول وحلّ مشاكلها بعدلٍ وإجماعٍ عالميٍّ… إلخ.
إضافة إلى هذا من التكتيكات التي تنهجها الليبرالية الهمجيّة، هو خلط الأوراق في الدول التي تتحكم فيها كلّ مرّة كانت في حاجة إلى ذلك، إمّا لتقوية قبضتها عليها أو لتغيير البيادق الذين لم يعودوا نافعين لها، كما يحدث في الدول العربية. ولا تأخذ بعين الاعتبار في مثل هذه التدخّلات مصالح الشّعوب ولا مصيرها، بل فقط مصالحها الخاصّة وأهدافها الاستراتيجية.
* حظيَ العالمان العربي والإسلامي – كما تُبيّن الوقائع – بالقسط الأعظم من النتائج الكارثيّة المترتّبة على الفوضى الخلاقَّة خلال العقدين المنصرمين. هل ترون من رابطٍ بين استراتيجيات الفوضى التي يقودها الغرب وما عرف بثورات الربيع العربي وما أفضت إليه من تداعيات ونتائج إلى الآن؟
– كانت الدول العربية والإسلامية على الدوام، ومازالت، حقل تجاربٍ بالنّسبة للإمبرياليّة الليبراليّة. ومردّ هذا ليس فقط الوهن العربي وخذلان حكامه لشعوبهم، بل في المقام الأوّل خوف هؤلاء الحكام من شعوبهم وعدم ثقة هؤلاء الحكام في بعضهم البعض. وبهذا نشأت ثقافةٌ سياسيّةٌ عربيةٌ مبنيّة على الولاء للسيد الغربي؛ لأنّه الضّامن لهذه السياسة، أو على الأقل هذا ما هو مغروس في اللاوعي السياسي العربي إلى حد الآن.
ما يُسمّى عبثًا «الربيع العربي» ليس منتوجًا محليًا خالصًا، بل هو ورشة عملٍ عملاقة جرّب فيها الغرب عامّة وأميركا على وجه الخصوص استراتيجيّة عدم التدخل العسكري المباشر؛ لتغيير ديكتاتوريي السياسة العربية وتبديله بما اصطلح عليه «التغيير أو التدخل الناعم». فقد سبقت حركات الهدم المنظم للبلدان العربية في السنين الأخيرة حركة دائبة للمخابرات الأميركية في «قنص» مجموعة من الشباب العرب الساخطين على الأوضاع لتأهيلهم لمهام التخريب الجماعي لأوطانهم، ضانين بأنّهم ينتقمون من حكّامهم الظالمين، في الوقت الذي كانوا ينتقمون فيه من أنفسهم.
إضافة إلى هذا، عندما ينتبه المرء إلى ما يُصطلح عليه «مراكز البحث» في العالم العربي، فإنّه يُصاب بالدوران، خاصة وأنّ العاملين فيه هم من «خيرة» أبناء الأمة من المثقفين، الذين يجنّدون فيالق من الطلبة لـ «دراسة» ما يود رجال المخابرات الغبية دراسته؛ بهدف تفتيت المجتمعات العربيّة. فكم من دورات تكوينيّة ترأّسها استراتيجيون غربيون -أميركان بالدرجة الأولى- تمّت علنًا في الكثير من الفنادق الفاخرة في الدول العربية تحت مسميات كثيرة: «ثقافة السلام»، «حوار الشباب»، «حقوق الإنسان». بمعنى أنّ الإمبريالي لم يعد في حاجة لإرسال متخصّصيه لدراسة مواطن الضّعف قصد تهييئ الضربات؛ لتخريب الأوطان العربية، بل زرع في جسم الأمّة المسلمة جراثيم منها، عادة ما درست بين ظهرانيه ورجعت للاشتغال في أوطانها الأصلية. والتعريج على هذه النقطة مهمّ للغاية؛ لأنّه توصيفٌ لجانب من جوانب الاستراتيجيّة الخبيثة للإمبريالية الليبرالية. وهو مهمّ أيضًا لجرّ ناقوس الخطر للطريقة التي تنهجها هذه الأخيرة لزرع ليس فقط الغضب في نفوس الشباب العربي، بل مقت أوطانهم وكرهها، تحت ذريعة «ديكتاتورية» حكّامها. يعني بأسلوبٍ نفسيٍّ معقّدٍ، تنشر الإمبريالية حنق الشباب وعموم الشّعب على أوطانهم، عوض توجيه هذه الكراهية إلى الحكام مباشرة. ولهذا الأمر أيضًا علاقة بتخلّي الشّعوب وشبابها على الالتزام في مجتمعاتها والانخراط الواعي والمسؤول في المقاومة المنظّمة قصد الخروج من الوضع الحالي المفروض على العرب.
تؤكّد النتائج العامّة لخراب الأوطان العربية، الذي نظرت له الإمبريالية الحالية، استمرار التّوجّه العدواني لهذه الإمبريالية، بل لجوؤها إلى شيءٍ جديد كليًا: توظيف أبناء الأوطان العربية للقيام بالمسؤوليّة، وتبقى أيدي الغرب «نظيفة» في الظاهر. والواقع أنّ هذه الإمبرياليّة لا يهمّها من هذا التحرّش والتنمّر على الشعوب العربية بهذه الطريقة تغيير الأوضاع نحو الأفضل، بل فقط زرع الفوضى وحفر مستنقعات للماء العكر؛ حيث يحلو لها السباحة. إذا كانت هناك من نتيجة لهذا التدخّل غير المباشر في مصير الدول العربية بالخصوص، فهو فقط خلق مناخ بلبلة وفوضى وتدمير سيدوم لمدّة أطول مما تتوقع الشعوب العربية، إن لم تقم بإيقافه بسواعدها ومعاولها في حركات نضال مشترك. بل أكثر من هذا نجحت الديكتاتورية الإمبريالية في تفتيت ما تبقى من الأنسجة الاجتماعيّة للدول العربية، بما فيها النسيج الأسري، الذي يعتبر النواة الحقيقيّة للمجتمع. «قنبلت» العائلة العربية بما يُسمّى وسائل التواصل الاجتماعي ومزّقتها وأدخلت إلى قلبها الرذيلة والعنف إلخ، بائعة إيّاها كعوامل تقدّم وتحديث للمجتمعات العربية. فعدو الأمّة العربية قابع في بيتها، والمُراد من هذا الكلام ليس هو حرمان الأجيال العربية من «نعمة» التكنولوجيا والرقمنة، بل نهج سياسة ترشيدٍ محكمةٍ تسمح لهم من ضبط العوالم الافتراضية والتعامل معها بحذر، قبل أن تضبطهم ليصبحوا تابعين لها بالمطلق، وهذا ما يحدث حاليًا.
التبعات السلبيّة لحركات التخريب، التي سمّيت تعسّفًا بـ «الربيع العربي»، طويلة الأمد، وكارثيّة على أكثر من مستوى، لا يمكن مواجهتها وإصلاحها إلا بتظافر الجهود وإرادة سياسية واضحة، ولن يتأتّ ذلك إلّا بقيام ثورة حقيقيةٍ في مجموع الدول العربية؛ لاستئصال الفيروس الحقيقي المتمثّل في حكّامها الحاليين، على الرغم من أن هذه المهمّة صعبة للغاية، وقد تتطلّب أجيال متعاقبة، تؤسّسها ثقافة نضال ومقاومة واعية ومقتنعة بمبادئها الأساسية.
* أخذت نظريّة ما بعد الاستعمار ولا تزال، جدلاً عميقاً بين النّخب في الغرب والشّرق معاً. وقد ظهرت هذه النظرية في حقبة ما بعد الحداثة لتؤسّس لفكرٍ سياسيٍّ يُعيد تأسيس الهيمنة بأدوات ومناهج كثيرة، وخصوصاً في حقول العلوم الإنسانيّة. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى ما سمّي بالاستعمار الأكاديمي والمعرفي، الذي يعيد إنتاج نفسه من خلال اختراق البنية الثقافيّة والفكريّة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. كيف تنظرون إلى هذه النظريّة في ميدان التطبيق، وما هي الأسس التي تقترحونها لمواجهة الآثار الناتجة عنها؟
– لهذا السؤال علاقةٌ وطيدةٌ بالسّؤال السابق، وهو من الأهميّة بمكان؛ لأنّ الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة للغرب كانت مصحوبة دائمًا باستعمار ثقافيٍّ مباشر. وقد ساهم الكثير من كبار المفكرين والفلاسفة الغربيين في التأسيس لهذا الاستعمار منذ التنوير الأوروبي، بتغذية المركزية الأوروبية والتقليل من قيمة الثقافات والحضارات الأخرى في كلّ مكان وصلوه، سواء في الأميركيتين أو في آسيا وأستراليا أو في إفريقيا. ولعلّ أسماء مثل كانط وهيغل وماركس كافية للبرهنة على المنحنى العنصري الاستعماري للفكر الغربي، دون أن ننفي وجود بعض المفكّرين الآخرين الذي كانوا يرفضون العنصريّة الفكريّة والثّقافيّة، على الرغم من عددهم الضّئيل.
مثّل فرض اللّغات الأوروبيّة في المستعمرات الأساس المهمّ للاستعمار الثقافي، ففي هذا الفرض عشّشت سياسةُ محو هويّة الشّعوب المستعمرة وبتر جذور ثقافتهم. ولا جدال في كون التبشير المسيحي الذي رافق الاستعمار السياسي قد لعب دورًا مهمًا في هذا البتر، ذلك أنّ فرض دين جديد على بشر كانت لهم دياناتهم ومعتقداتهم الخاصة، يفترض أيضًا فرض ثقافة الرجل الأبيض ولغته.
عمل الاستعمار الغربي أيضًا على فرض نظامه التعليمي في المستعمرات، وأصبحت مناهجه التعليميّة وطرقه البيداغوجيّة أداةً مهمّةً لإفراغ روح المستعمرات من كلّ مكوّناتها الأصليّة ومحاولة ملئها بروح غريبة، أي أنّ عمليّة استيلاب الشّعوب مرّ أيضًا وبالخصوص عن طريق المدرسة الاستعماريّة.
يتّضح إذًا، بأنّ التاريخ الطويل للاستعمار الثّقافي قد عمل عملته في البنيات الذهنيّة والسيكولوجيّة للإنسان المُستعمَر، وهذا ما نلمسه أيضًا في البلدان العربية والإسلامية إلى حد الآن، بل تعقّد الوضع أكثر؛ لأنّ المنتوجات الثّقافيّة قد تعدّدت وكثرت وتعقّدت وأصبحت أكثر فتكًا بالهويّة العربيّة والمسلمة. فالفضائيات ووسائل التّواصل الإجتماعي تروّج على نطاق واسع للثقافة الغربية، وتقدّمها كالثّقافة الوحيدة الممكنة والصالحة، ولا تهتمّ بالثّقافات الأخرى إلا في إطار تقديمها كفلكلورات بدائيّة بسيطة، قد تُسلّي لبعض الوقت، لكنّها لا ترقى إلى مستوى الثقافة الغربية. لهذه الأسباب مجتمعة أضحى من الضرري التفكير في حاضنات متكاملة للتصدي لسيرورة الاغتراب الثقافي الساري المفعول عندنا. ولن توفّر هذه الحاضنات الأنظمة القائمة في الدول العربية؛ لأنّها من جهة تخدم أجندات ثقافيّة استعماريّة ومن جهة أخرى تعي جيّدًا خطر تشجيع ثقافةٍ عربيةٍ ومسلمةٍ واعيةٍ بذاتها وبالتحديات التي تواجهها. لا يمكن أيضًا لما تبقّى من المثقفين المناضلين والملتزمين عندنا القيام بهذه المأمورية؛ لأنّها تتجاوز إمكانياتهم الفردية. ومقترح الحلّ الذي نراه واقعيًا وقابلًا للتطبيق هو حاضنة عابرة للأوطان في العالم العربي، تتجاوز النزعات الإثنية والعقائدية والوطنية، لتشمل كلّ مثقّف عربيٍّ ومسلمٍ يشعر بمسؤوليته الثّقافية والحضارية.
بما أنّ الاستعمار الثّقافي، مثله مثل الاستعمار السياسي والاقتصادي، قد عمّر طويلًا في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فإنّ استراتيجيات القضاء عليه يجب أن تكون أيضًا طويلة الأمد، تمتدّ لقرونٍ طويلةٍ وتساهم فيها أجيال متعدّدة، لذا ضرورة انخراط الباحثين الشباب في التنظير وبناء ثقافة مقاومة ونضال وتمريرها للأجيال اللاحقة في تتابعٍ زمنيٍّ تاريخيٍّ محكمٍ.
* إلى أيّ مدى تستطيع النّخب في مجتمعاتنا صوغ استراتيجيات معرفيّة للمواجهة الحضاريّة مع الغرب، خاصة ثقافياً وسياسياً في إطار مشروع التأسيس لعلم الاستغراب؟
– للأسف، إنّ عمل نخبنا محصورٌ جدًا في الغالبيّة العظمى من الدول العربية والمسلمة؛ لأنّ سيف الرقابة بتّارٌ ولا يسمح إلا بما يستطيع تحمّله. فالرقابة تسمح بالقيام ببحوثٍ لا تُسمن ولا تغني من جوع، بل التي تساهم في الإبقاء على الوضع الرّاهن كما هو عليه. ومع ذلك هناك ـ كما أشرنا ـ الكثير من المراكز التي تشتغل علانية، مدعومة من مؤسّسات ومال غربيين، وتشغل الكثير من الباحثين العرب والمسلمين ـ في غالب الأحيان قصد جمع المادة الخام عن موضوع أو ظاهرة يرغب الغرب في دراستها. مثل هذه المراكز محضونة من طرف جهات غربية، ومسموح بها في الدول العربية والإسلامية؛ لأنّ آليات المراقبة تصدم بالأمر الواقع ولا تتجرّء على الفعل.
في المقابل هناك بعض المراكز الشريفة، التي تحاول بإمكانياتها المحدودة الاشتغال والعمل الجدّي والبناء لتنوير الساحة الثقافيّة العربية والإسلامية بمساعدة ثلّة من المفكرين الشرفاء، الذين يشتغلون عمومًا طواعيّة؛ لأنّهم يحملون أيضًا هموم أوطانهم. ومن الأمور التي من المحبّذ الاشتغال عليها هي إخراج هذه المراكز من تنافسٍ سلبيٍّ فيما بينها بمدّ الجسور بينها وتوحيد الرّؤى والعمل المشترك؛ لأنّ ذلك مهمّ بالنّظر إلى المرحلة التي نعيشها. ما ينقصنا ليس هو العدد؛ لأنّ لنا ما يكفي من الكفاءات والعقول في مختلف الميادين والتخصّصات المعرفيّة. وتعتبر هذه الكفاءات كنزًا عظيمًا، يجب التعامل معه ككنزٍ والاعتناء به والتنسيق بين أفراده والتشجيع على الانخراط في ثقافةٍ تؤمن بقضايا الأمّة العادلة وتدافع عليها. هذه إذًا بعض الشّروط الموضوعية التي تسبق نظريًا أيّ مشروع حضاريّ، بما في ذلك التأسيس لعلم الاستغراب وتطويره.
مهمّة علم الاستغراب ومسؤوليّته ضخمة للغاية، لا يمكن أن تنجح إلا إذا وعى كلّ باحث عربيّ ومسلم الخطر الحقيقي الذي سببه الاشتشراق والدّراسات الغربية لأوطاننا. إذا بقينا على مستوى دحض الدّراسات الاستشراقيّة والبرهنة على عنصريّتها وأحاديتها ومركزيّتها وزرعها للفتن في بلداننا، فإنّنا لن نجني شيئا يُذكر، اللّهمّ الشّعور بأنّنا تصدّينا إلى الاستشراق. في اعتقادي، الورشة الكبرى التي يجب الاشتغال عليها هي بالضبط ما اشتغل عليه أوائل المستشرقين، وأقصد دراسة الغرب من الداخل. ومثل هذه الدراسة ممكنة على أكثر من مستوى، فالظواهر الاجتماعية الموجودة في الغرب كثيرة جدًا، ولنا فيالق من الباحثين الشباب الذين يتقنون أكثر من لغة أوروبية ومتخصّصين في مختلف العلوم الإنسانيّة. مثل هؤلاء الباحثين مهمّون جدًا، إذا كانت هناك حاضنة توجّههم -كما قلنا- للقيام ببحوثٍ في قلب الغرب وبأدواته عنه. فغالبًا ما يشتغل الباحث العربي والمسلم وهو في الغرب على مواضيع مرتبطة بوطنه الأصل، وبهذا يقدّم للغرب هدايا قيّمة وبالمجّان؛ حيث إنّ البحوث والرسائل الجامعية التي يمكنها أن تفيد الغرب لا تبقى نائمة في رفوف مكتباته الجامعية، بل يستغلّها باحثوه في دراستهم.
ليس هناك أي تخصّص علم إنساني باستطاعته المساهمة الفعّالة والمباشرة في تغيير تصوّرنا للغرب من غير علم الاستغراب. إذا وُفّرت له الظّروف المناسبة سيجد فيه كلّ باحثٍ عربيٍّ ومسلمٍ قاطرته المفضّلة؛ حيث يمكنه الاشتغال والإبداع في تخصّصه، بُغية الحدّ من الاستلاب الثّقافي حيث نعيش حاليًا، فرادى وجماعات، والمرور إلى الفعل على مستوى الثقافة العالميّة لفرض أنفسنا كباحثين.
.
رابط المصدر: