المحكمة الاتحادية العليا .. والشكوك حول شرعية تشكيلها

بقلم : د. عبد الحليم قاسم محمد – مختص بالقانون الدستوري – زميل زائر في جامعة ردنك/ المملكة المتحدة

  • المركز الديمقراطي العربي

 

يتصاعد الجدل حول مصير المحكمة الاتحادية العليا في العراق بعد أن فقدت اثنين من أعضائها وعدم وجود سند قانوني فعال لاستبدال هذين العضوين مما يشكل تهديد جدي لفعالية المحكمة وشرعية وجودها وهذا بدوره يؤدي الا حدوث مشاكل عديدة في النظام القانوني والسياسي في العراق. منها عدم وجود هيئة قضائية متخصصة للمصادقة على النتائج النهائية لانتخابات مجلس النواب العراقي الذي بدوره يؤدي الى التشكيك في شرعية أي انتخابات برلمانية قادمة. في هذه المقال احاول ان اناقش هذه المشكلة من الناحية الدستورية واقتراح الحلول الممكنة للخروج بحل دستوري لهذا الوضع المتأزم.

كان تشكيل المحكمة الاتحادية العليا في العراق بعد 2003 تطوراً هائلاً في النظام القضائي العراقي. ومع ذلك ، فقد شهد إنشاء وتشكيل المحكمة الاتحادية العليا مناقشات عدة بعد إقرار الدستور الجديد عام 2005. منها الجدل حول ومدى دستوريتها حاليا فقد تم إنشاء المحكمة الاتحادية العليا في العراق وفقا لـقانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الصادر من إدارة الائتلاف المؤقتة. إذ أوضحت المادة (44) من هذا القانون طريقة تشكيل هذه المحكمة بنصها على أن: “(أ) يجري تشكيل محكمة في العراق بقانون وتسمى المحكمة الاتحادية العليا”

ونص قانون ادارة الدولة أيضا على اختصاصات هذه المحكمة وهي: 1 ـ الاختصاص الحصري والأصيل في الدعاوى بين الحكومة العراقية الانتقالية وحكومات الأقاليم وإدارات المحافظات والبلديات والإدارات المحلية. 2 ـ الاختصاص الحصري والأصيل، وبناءً على دعوى من مدّعٍ، أو بناءً على إحالة من محكمة أخرى، في دعاوى بأن قانوناً أو نظاماً أو تعليمات صادرة عن الحكومة الاتحادية أو الحكومات الإقليمية أو إدارات المحافظات والبلديات والإدارات المحلية لا تتفق مع هذا القانون. 3 ـ تحدّد الصلاحية الاستثنائية التقديرية للمحكمة العليا الاتحادية بقانون اتحادي. (ج) إذا قرّرت المحكمة العليا الاتحادية أنّ قانوناً أو نظاماً أو تعليماتٍ أو إجراءاً جرى الطعن فيه أنه غير متفقٍ مع هذا القانون يعتبر ملغياً”

كما نص القانون على تشكيل المحكمة الاتحادية إذ نص على أن ” هـ) تتكوّن المحكمة العليا الاتحادية من تسعة أعضاء، ويقوم مجلس القضاء الأعلى أولياً و بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بترشيح ما لا يقلّ عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين فرداً لغرض ملىء الشواغر في المحكمة المذكورة، ويقوم بالطريقة نفسها فيما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكلّ شاغر لاحق يحصل بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العزل، ويقوم مجلس الرئاسة بتعيين أعضاء هذه المحكمة وتسمية أحدهم رئيساً لها. وفي حالة رفض أيّ تعيين يرشح مجلس القضاء الأعلى مجموعةً جديدةً من ثلاثة مرشحين”

وأصدرت الحكومة العراقية المؤقتة بموجب ذلك  الامر التشريعي المرقم (30) لسنة 2005 والذي يعتبر بمثابة قانون المحكمة الاتحادية العليا. وتشكلت المحكمة بموجب هذا القانون ولا تزال على  هذا التشكيل حتى الآن، رغم أن دستور 2005 ذكر المحكمة الاتحادية العليا بصيغة مختلفة. إذ نص دستور 2005 على أنها يجب أن تتالف من قضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء في القانون. ولم يذكر عدد هؤلاء القضاة والخبراء والفقهاء، وما هو دور كل منهم؟ لذا فإن هناك مناقشات عديدة حول هذه القضايا بين المختصين بالقانون الدستوري. إذ إن الدستور ينص على أن يتم تنظيم جميع هذه القضايا الهامة بموجب قانون يصوت عليه بالموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب. ألا أن هذا القانون لم يشرع حتى الآن، وبالتالي فإن المحكمة الاتحادية العليا لا تزال مشكلة وفقا لقانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بموجب الأمر التشريعي رقم (30) لعام 2005.

لذلك يجادل البعض بأن التشكيل الحالي لها ليس له الحق على الاقل في تفسير نصوص الدستور لأنها لم تتشكل وفق دستور 2005. ويجادل البعض الآخر بأن المحكمة الحالية غير دستوريةأساسا، وليس لديها سلطة ممارسة أي من الاختصاصات التي أعطيت للمحكمة الاتحادية العليا بموجب دستور 2005. فضلا عن الجدل الدائر الآن بخصوص مدى تعطل المحكمة الاتحادية العليا بعد ان فقدت اثنين من اعضائها واستحالة استبدالهم بسبب ان المحكمة الاتحادية نفسها نصت على عدم دستورية المادة (3) من الأمر التشريعي المرقم (30) لعام 2005 المتعلقة باستبدال الأعضاء داخل المحكمة على اعتبار إن هذه المادة مخالفة لدستور 2005 وذلك بموجب قرارها المرقم (38) في 2019.

والذي أراه أن المحكمة الحالية لازالت تستطيع أداء مهامها للأسباب التالية:

أولاً: تنص المادة 92 / ثانياً من الدستور على أن:  تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء القانون، يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب . كما ينص الدستور على اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا في المادة 93. ولم يذكر أن المحكمة الحالية قد تم حلها. كما تنص المادة (130) من الدستور على ما يلي: “تظل القوانين القائمة سارية المفعول ما لم تلغ أو تعدل وفقاً لأحكام هذا الدستور” أي أن الأمر التشريعي رقم (30) لا يزال ساري المفعول والمحكمة الحالية مازالت دستورية. وتتعلق مسألة حل المحكمة الحالية بسن قانون جديد يوفر تشكيلا جديدًا للمحكمة وفقا للدستور.

ثانيًا: القول إن المحكمة الاتحادية العليا الحالية غير دستوري سينتج عنه فراغ مؤسسي ويلحق الضرر بمبدأ الدستورية الذي ورد في الدستور لعدم وجود مؤسسة لها صلاحية مراقبة دستورية القوانين والاختصاصات الأساسية الأخرى. وفي هذه الحالة، البرلمان وحده من له الحق بإنشاء هذه المحكمة وفقا للدستور، ولا يريد المشرعون بطبيعة الحال إنشاء مؤسسة تراقب عملهم. في حين أن حقيقة أن المحكمة الاتحادية العليا تم إنشاؤه بموجب الدستور الذي يعطي السلطات والاختصاصات للسلطات كافة، والبرلمان لديه فقط سلطة تشريع القوانين لتنظيم وتشكيل هذه المؤسسات. من ناحية أخرى، فإن القول بأن المحكمة الحالية غير دستورية هو مجرد رأي لا يمكن تطبيقه بشكل واقعي لأنه يعني أن لا توجد سلطة لديها القدرة على تطبيق اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا وهذا يؤدي إلى العديد من المشاكل الدستورية.

إحدى هذه المشاكل، على سبيل المثال، انهيار كل النظام السياسي والقانوني الذي تم إنشاؤه منذ الدورة الثانية للبرلمان لأن الدستور ينص على أن المحكمة الاتحادية العليا تصادق على نتائج الانتخابات العامة النهائية فإذا كانت المحكمة الحالية غير دستورية، فإن قراراتها لاغية وهذا يعني أن مجلس النواب في دورتي 2010 و 2014 وحتى في دورة 2018 الحالية غير دستوري لأنه لا توجد جهة مخولة بالموافقة على نتائج الانتخابات بموجب الدستور.

ثالثاً: هناك عرف دستوري نشأ في العراق جعل جميع قرارات المحكمة الحالية مقبولة لأن جميع دوائر الدولة قبلت واحترمت قرارات المحكمة خلال الخمسة عشر سنة الماضية دون أي اعتراض أو شك في دستوريتها. ولا توجد قاعدة دستورية تمنع تشكيل هذا العرف الدستوري. كما يمكن اعتبار الاحتفاظ بـالمحكمة الاتحادية العليا الحالية بمثابة عقوبة على فشل البرلمان بتشريع قانونها.

رابعا: أن المحكمة الاتحادية العليا الحالية هي أحدى مؤسسات الدولة الدستورية التي يجب أن تظل قائمة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم وظيفتها بعد أن أصبح الدستور الجديد ساريا مثلها كمثل أي مؤسسة اخرى. فعلى سبيل المثال، رئاسة الجمهورية التي لا تزال قائمة لا يوجد هناك تشريع ينظمها وفقا لدستور 2005 وعلى الرغم من ذلك لاتزال هذه المؤسسة قائمة

لكل هذه الأسباب ، فإنني أؤيد أن المحكمة الاتحادية العليا الحالية لديها السلطة الكاملة لممارسة جميع الاختصاصات التي تم منحها للمحكمة الاتحادية العليا بموجب دستور 2005. وهذا سيدعم موقفها المتمثل في مراقبة تصرفات المشرعين والمصادقة على النتائج النهائية لانتخابات مجلس النواب.

  • ولكن ماذا عن النقص الحاصل في تشكيلة المحكمة بعد تقاعد أحد القضاء ووفاة قاض آخر؟

ينص الأمر التشريعي المرقم (30) لسنة 2005 في المادة (3) على أن: “تكون المحكمة الاتحادية العليا من رئيس وثمانية أعضاء يجري تعيينهم من مجلس الرئاسة بناء على ترشيح من مجلس القضاء الاعلى بالتشاور مع المجالس القضائية للاقاليم وفق ما هو منصوص عليه في الفقرة هـ من مادة رقم الرابعة والاربعين من  قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية” كما أن المادة (5) تنص على : “… ولا يكون انعقاد المحكمة صحيحا الا بحضور جميع اعضائها“. بسبب ذلك يدعي بعض المختصين في الشأن الدستوري أن المحكمة الحالية أصبحت معطلة عن العمل بسبب استحالة انعقادها بجميع اعضائها على اعتبار ان هناك نقص في عدد القضاة الذين يكونون المحكمة. كما لا يمكن سد هذا النقص لأن المحكمة الاتحادية العليا نفسها نصت في قرار لها على عدم دستورية المادة (3) من الامر التشريعي رقم (30) والتي كان يمكن من خلالها سد الشواغر الحاصلة في المحكمة.

والذي أراه أنه على الرغم من النقص الحاصل في عدد قضاة المحكمة إلا أنها تستطيع القيام بعملها بالاعضاء المتبقين على اعتبار أن المادة (5) نصت على أن انعقاد المحكمة لا يكون صحيحا إلا بحضور جميع أعضاء المحكمة ويمكن أن يعني النص ان الانعقاد يصح بحضور جميع الأعضاء المتبقين في المحكمة على اعتبار ان الاعضاء الاخرين قد فقدوا عضوية المحكمة أما بالوفاة او التقاعد فقد انتفت صفة العضوية عنهم وبقيت هذه الصفة للاعضاء المتبقين. ولكن هذا التفسير يجب أن يبقى لغاية إتمام قانون المحكمة الاتحادية العليا وتشريعه من قبل البرلمان الذي يعد الحل الوحيد لتلافي مشكلة التشكيك في دستورية المحكمة الاتحادية العليا.

أما القول بأن البرلمان يمكنه تعديل المادة (3) من الامر التشريعي رقم (30) لسنة 2005 لتلافي عدم دستوريته فإنه رأي غير صحيح لأن الأمر التشريعي اساسا يستند إلى قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية ويؤسس محكمة اتحادية مختلفة تماما عن المحكمة التي نص عليها دستور 2005 وان كان هناك قبول لوجود هذه المحكمة رغم العوار الدستوري الذي يكتنفها فلا يجب قبول شرعنة تشكيلها بشكل غير دستوري.

لذا فإن أي تعديل للامر التشريعي سيكون غير دستوري ويمكن الطعن بدستوريته مجددا على اعتبار انه يخالف المادة (92) من لدستور. كما أن تعديل الامر التشريعي قد يدفع بالبرلمان الى ترك تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي هو الاولى بالتشريع لتجاوز هذه المشكلة بالكلية. كما أن المحكمة الاتحادية العليا لم تتطرق لمثل هذا الحل عندما أصدرت قرارها بعدم دستورية المادة (3) من الأمر التشريعي وإنما طلبت من البرلمان أن يضمن نصا متعلقا باستبدال أعضاء المحكمة في القانون الخاص بالمحكمة المنظور أمام البرلمان.

الخلاصة: أذا كانت هناك ضروف سياسية دفعت للقبول بشرعية المحكمة الاتحادية العليا الحالية على الرغم انها لم تشكل وفق الدستور النافذ فأن تشكيلها هذا مهدد بشكل جدي الان بعد ان فقدت المحكمة اثنين من اعضائها وانعدام الاساس القانوني لاستبدالهم الامر الذي يؤدي الى فقدان مؤسسة على قدر كبير من الاهمية في النظام الدستوري والسياسي في العراق وما يتبعه ذلك من مشاكل عديدة.

لذا فأن من واجب البرلمان التاريخي اليوم هو الاسراع بتشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا وتشكيلها قبل الانتخابات المبكرة المقبلة أو قبل انتهاء مدة الدورة البرلمانية الحالية. وعلى المحكمة الحالية حسم امر شرعيتها باعتماد حضور جميع اعضائها المتبقين لاصدار أي قرار يطلب منها في المستقبل القريب.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M