المدرسة النمساوية وإقتصاد السوق الحر

كيف ساهمت المدرسة النمساوية في خلق سوق مقيدة؟

 

حقيقة السوق الحرة وخرافة الحرية الإقتصادية في النيوكلاسيك

يسيطر على علم الاقتصاد منذ النصف الثاني من القرن العشرين اتجاه يسمى بالاقتصاد النيوكلاسيكي، وعادة يتم اختزاله في “المدرسة النمساوية” اللتي أسسها كارل منجر وتضم بوم بافرك وفون فيز.
كما أن أتباع الاتجاه النيوكلاسيكي في إنجلترا وأمريكا طوال القرن العشرين ظلوا يأخذون أعمال المدرسة باعتبارها مصدرا رئيسيا يعتمدون عليه في تلمس الأسس النظرية والمنهجية لتحليلاتهم خصوصا بدايتها الجزئية اللتي رافقت بداية انتشار الفكر السياسي لليبرالية بالنمسا في الستينات اللذي لم يكتمل فيها بل ظهرت في الولايات المتحدة ذاتها في أشخاص الجيل الثاني منها وأهمهم لودفيج فون ميسز وفريدريك فون هايك.
والحقيقة أن ما يفرق المدرسة النمساوية عن النيوكلاسيك الإنجليز والأمريكان هو أنها وضعت في اعتبارها أننا نعيش في عالم لا يتطابق تماما مع النظرة المثالية النيوكلاسيكية للسوق وللعملية الاقتصادية، مع العلم انها أخطأت في تقدير علاقة ميكانزمات السوق و طبيعتها مع الاقتصاد وغيره.
فإذا كنا نعيش في عالم يتحصل فيه الأفراد على المعلومات الكاملة ويتم فيه التبادل بين عدد لانهائي من البائعين والمشترين ويعمل فيه السوق بانتظام تام فمن الممكن أن تنطبق عليه نظريات النيوكلاسيك الأنجلوساكسونيين، وهذا في حقيقة الامر غير موجود على أرض الواقع نظرا لطبيعة السوق المعقدة اللتي تشمل تدخل الحكومات و الأبناك و الاتفاقيات الدولية و سلطة المنظمات وغيرها.
ترى المدرسة النمساوية ان العملية الاقتصادية تختزل إلى آليات في السوق من عرض وطلب، وينظر إلى السوق على أنه مجال مستقل بذاته ومسيرا ذاته بذاته، عازلا بذلك أي تأثير من المجتمع أو بنائه السياسي؛ كما ينظر هذا الاتجاه إلى المجتمع ذاته على أنه ليس إلا ملحقا للسوق، ويقدم توصياته بحيث يتم تنظيم المجتمع بكيفية تضمن استقلال السوق وسيره وفق قوانينه الخاصة التي يعتقد في انفصالها عن البناء الاجتماعي.
وقد تحول الاتجاه النيوكلاسيكي في الاقتصاد إلى عقيدة ورؤية للعالم تبنتها المنظمات المالية والسياسية الدولية من الأمم المتحدة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكانت هذه العقيدة هي ما يكمن تحت برامج التحرير الاقتصادي والخصخصة والتحول إلى اقتصاد السوق الحر والتي فرضتها تلك المنظمات الدولية على العالم النامي والدول الاشتراكية السابقة.
تعطينا نظريات النمساويين وهما بأنهم يعطون الأولوية للقيمة الاستعمالية (الفائدة والنفع الفردي الاستهلاكي) ويلحقون بها القيمة التبادلية (سعر السلعة في السوق)، وهم بذلك كأنما يصدرون وعدا بألا يعاملوا السوق على أنه مجرد وسيط للحصول على قيمة تبادلية وحسب، أي على أرباح وتراكم رأسمالي بالتالي، بل على أنه كذلك وسيلة لإشباع حاجات الأفراد.
وهم بذلك إنما يحاولون وضع بديل عن التحليلات الماركسية للقيمة الزائدة التي تختفي تماما من أعمالهم اختفاء مقصودا ومنهجيا، نظرا لأن مناقشة قضية القيمة الزائدة سوف يجرهم رغما عنهم إلى الأرضية الماركسية، وهو ما كانوا يتجنبونه بحذر.
وقد تعرضت هذه النظرية لنقد حاد على يد عالم الاقتصاد والاجتماع الأمريكي ثورشتاين فبلن.
ويوضح فبلن أن نظرية سلوك المستهلك تكشف عن التحيز الفردي للاقتصاد النيوكلاسيكي ونزعته النفعية، ويقول في ذلك:
إن نظرية دقيقة للسلوك الاقتصادي لا يمكن استقائها من الفرد ببساطة، حتى للأغراض الإحصائية –كما هو الحال في اقتصاديات المنفعة الحدية- لأنها لا يمكن أن تـُستنج بمفردات الطبيعة البشرية؛ ذلك لأن الاستجابة التي تشكل السلوك الإنساني تحدث في ظل معايير مؤسسية (إجتماعية) وتحت مثير ذي طابع مؤسسي”. ينقد فبلن في هذا النص الآتي:
1. رد الأداء الاقتصادي إلى سلوك الأفراد.
2. النظر إلى سلوك الأفراد على أنه يصدر عن طبيعة بشرية سابقة في وجودها على المجتمع ومؤسساته.
3. تصوير هذه الطبيعة البشرية على أنها نفعية وأنانية.
4. تجاهل السياق المؤسسي أو الاجتماعي الذي يشرط السلوك الفردي ويشكل له مثيرا.
5. اعتماد سلوك الأفراد باعتباره دالة إحصائية بحجة أنه يمكن حصره وقياسه، حيث يقام على هذه الدالة نظرية في الأداء الاقتصادي لمجتمع بأكمله.
و يكشف فبلن عن مسلمة ضمنية في نظرية المنفعة الحدية بتناوله لصيغتها لدى المدرسة النمساوية وخاصة لدى مؤسس المدرسة كارل منجر، إذ افترضت أن المنتج بائع مباشر للمستهلك، والشاري مستهلك مباشر وأخير للسلعة.
وهذا في نظر فبلن يلغي دور السوق وينظر إلى المعاملات النقدية على أنها مجرد وسيط للتبادل، وبالتالي تأتي نظرية المنفعة الحدية وتقول إن سعر السلعة، بما يتضمنه هذا السعر من تكاليف إنتاج، يتحدد بالقياس على أقل سعر لآخر وحدة منها، وأقل سعر هو أقل ما يمكن أن يدفعه المستهلك فيها، وهي بذلك تفترض أن المنتج هو الذي يباشر عملية البيع مباشرة للمستهلك، وهذا غير صحيح.
هذا الإلغاء للسوق باعتباره وسيطا بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير يتم على مستوى النظرية فقط والواقع عكس ذلك تماما.
يسعى دعاة المدرسة النمساوية وغيرهم من النيوكلاسيك نحو جعل علم الاقتصاد علما تصنيفيا مولع باختراع الفئات والأصناف والمقولات، وبتقسيم وتوزيع كل الواقع بتنوعاته الهائلة على هذه الفئات:
الإيجار العقاري والفائدة وأجر العمل، الأرض ورأس المال وقوة العمل، مقاول الأعمال والسوق الحر..إلخ.
 صحيح أن هذه الفئات تعبر عن شئ من الواقع، إلا أنها لا تعبر عنه كله وبدقة.
فغالبا ما يعمل علماء الاقتصاد على فهم الواقع الاقتصادي بناء على هذه التصنيفات المسبقة لا بناء على البحث الواقعي، وبذلك فهم يحشرون الواقع في هذه التصنيفات المقولية بصرف النظر عما إذا كانت تستجيب للواقع أم لا.
تكشف تلك النـزعة التصنيفية عن فلسفة في الماهيات وعن مفهوم عن طبيعة إنسانية ثابتة ذات حاجات بيولوجية فردية، وعن تبنيهم لمفهوم عن قانون طبيعي ثابت وأزلي عبر التاريخ غير خاضع للتغيرات الاجتماعية والتاريخية.
ومن هذه الخلفية يسعى علماء الاقتصاد الكلاسيك والنيوكلاسيك على السواء نحو البحث عن انتظامات وعن قوانين أزلية تحكم السلوك الاقتصادي، ونحو وضع نظرية في التوازن الاقتصادي يدَّعون أن الواقع يكشف عنها.
وهذا التوازن الذي يتكلمون عنه ليس سوى توازن وتكامل نظريتهم الاقتصادية نفسها لا توازن وتكامل الواقع، وفي النهاية تعبر فكرة التوازن لديهم عن التوازن النظري باستخدام المعادلات الرياضية والمسائل الحسابية. وبذلك ينغلق علمهم على نفسه ولا ينفتح أبدا على التنوع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية و البعد التاريخي للنظم الاجتماعية.
فقد سعى النيوكلاسيك، وخاصة في الولايات المتحدة، نحو تطوير التحليلات الرياضية الاقتصادية، وكان الموجه لهم في ذلك رغبتهم في إثبات أن التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية متساوية، على الرغم من عدم تساويها واقعيا.
وبكلمات أخرى سعى هؤلاء نحو توضيح أن المجتمع ليس سوى مجموع أفراده المكونين له، وبالتالي ليس في حاجة إلى ترتيبات اقتصادية خاصة به مختلفة عن الآليات التلقائية للسوق والتي تضمن رفاهية الأفراد؛ وكانوا في ذلك يكشفون عن التمسك بالعقيدة الليبرالية التقليدية عن السوق الحر وعن عدم استقلال المجتمع عن الأفراد المكونين له وعدم تشكيله لكيان مختلف عن الأفراد.
وهذا مايفسر تماما سبب تجذر هذا الفكر الاقتصادي لدى الليبراليين في امريكا و اعتمادهم له كمقاس اقتصادي في غزوهم كبيروقراطيين للاسواق الخارجية ويتم ذالك عبر سيطرتهم الفعلية للابناك و المؤسسات الدولية و المنظمات الاقليمية الكبرى.
ما أدى الى ظهور طبقة مخملية من “الرأسماليين اللاسلطويين” يحاربون كل أبجديات القيم المجتمعية من “حدود” و “أوطان” و “قوميات” او “عملات وطنية” و “ابناك مركزية متحررة”..
بل ومستعدون لتدمير دول و شعوب ان لم ترضخ لشروطهم الاقتصادية على السوق.. كفرض “الدولار” مقابل النفط أو نيل نصيب من أسهم و رساميل اسواق الطاقة و المال العالمية و مصادرة سندات خزائن الدول لدى بعضها البعض او فرض مشاريع ربحية بموافقة مسبقة من الحكومات الخاضعة لهم. (رسمالية المحاسيب) و الاخطر من ذالك سيطرتهم على السوق النقدية العالمية و احتكارهم لصناعة المال.
و تم تعزيز ذالك، عبر مايسمى بالعولمة او النيوليبرالية اللتي تكرس لتدخلهم من اجل ضبط الاسواق بحسب متطلباتهم ضدا في حريات الافراد و شعوب الدول.
وينتمي هؤلاء البنكيين، لكلا الاتجاهان سواء لليسار او اليمين السياسي خصوصا في الولايات المتحدة الامريكية، ويبرزون بعدة مصطلحات قصد التعتيم و الشوشرة.
تارة باسم الليبرالية اليسارية كجورج سوروس او الليبرتارية الاشتراكية كنعوم شومسكي او بمعنى اخر: الباليو-ليبرتارية او اللاسلطوية الراسمالية كعائلة روتشيلد في امريكا وكلها لها نفس المضمون سياسيا او اقتصاديا.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M