مسلم عباس
عام 2011 تحدث أحد أساتذتي في كلية الإعلام بجامعة بغداد عن عمليات التطوير الكبيرة في شارع مطار بغداد الدولي، ووصفه بأنه شارع جميل جداً وقال حرفياً “كأنه خارج العراق”، فاستغربت من وصف الأستاذ رغم أنه تحدث عن الشارع في إطار المديح وليس الذم.
لماذا يقوم هذا الأستاذ بانتزاع المشروع الجميل من هويته الوطنية العراقية ويلصقه بالخارج؟
هل العراق دولة لا تستحق أن توصف إلا بالتوصيفات السلبية؟
وهل من واجبنا عند مديح مشروع معين أن ننزع عنه صفة العراقية لنؤكد على جودته؟
منذ تلك المحاضرة وأنا أسمع بين مدة وأخرى ما أسميه “المديح الأسود”، فغالبية المشاريع العراقية المتميزة توصف بطريقة “كأنه خارج العراق”، وحتى عند افتتاح ملعب كربلاء الدولي قرأت العديد من المنشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تمتدح جمالية الملعب وتصفه بأنه تحفة معمارية “كأنها خارج العراق”.
الأسباب عديدة لتجذر هذا التفكير العراقي تجاه المشاريع الوطنية، بعضها موضوعية وأخرى ليست كذلك.
مثلاً هناك مركزية غربية في العقلية العربية بوجه عام، العربي سواء كان مثقفاً أو أكاديمياً أو سياسياً يتخذ من الغرب معياراً لجودة الأشياء، فالغرب على مدى القرون الأخيرة هو رائد التقدم العلمي والصناعي والتكنلوجي، ومن الطبيعي أن يتحول إلى معيار للجودة، لتكون فكرة معيارية الخارج إشارة مبسطة إلى أنه في دول الغرب المتقدمة.
كما أننا قوم تعرضنا لهزائم متعددة من البلدان المتقدمة التي نلصق مشاريعنا باسمها لكي نبين مدى رقيها، وقد تحدث ابن خلدون عن حال المجتمعات المهزومة بقوله: “المغلوب مولع أبداً بالغالب؛ في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده”. وبالفعل لم يبقى شيء لم نولع بالغالب، حتى المشروع الذي نبنيه بأيدينا وأموالنا نقول إنه يشبه مشاريع الخارج لنبين مدى جودته، نجعله ينتمي إلى هناك حيث الجودة والكفاءة في التنفيذ والإدارة.
بالنسبة للعراقي فإن الخارج المتقدم المنتصر هو الجنة التي يحلم بها، إما أن يصير مثلها، أو يهاجر إليها، أو يسافر إليها على أقل تقدير، لذلك فهو عندما يمتدح المشروع بإلصاقه بالخارج إنما يريد أن يقول بأنه يشبه الجنة الموجودة هناك.
العديد من دول العالم المتقدم أفضل حالاً من العراق وتسبقنا في التطور، والسبق الغربي يضيف ثقلاً إضافياً على الهزيمة العسكرية والثقافية والاقتصادية، نحن دولة متأخرة في العديد من المجالات، لدينا فساد مالي وصل إلى أسماع سكان الكوكب، بلادنا على رأس التقارير التي تتحدث عن الإرهاب وسوء الإدارة، وباتت دولتنا ممراً ومقراً للمخدرات، والنظام السياسي فاشل في غالبية مجالات الحياة.
ينطبق على العراق قول الإمام علي عليه السلام: “إذا أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه”.
الدنيا مقبلة على دول العالم المتقدمة، وقد أعارتها حتى محاسن مشاريعنا، بينما العكس يجري في العراق، الدنيا مدبرة عنا فسلبتنا حتى محاسن مشاريعنا.
بعض ثقافة “المديح الأسود” أو الصورة السوداوية للعراق هي نتيجة لسلب المحاسن بسبب “إدبار الدنيا” أو بسبب تراكم أزماتنا والإعلام يستسهل وضع الأخبار والمعلومات في قالب، أي تصنيف الدول حسب التقدم والتأخر، وقالبنا هو الفشل فصار من المنطقي انتشار ثقافة التقليل من شأن الذات الوطنية.
بعض الأحاديث اليومية للمجتمع العراقي تكشف عن تجذر ثقافة عدم الثقة بالذات الوطنية، ربما بسبب تكرار خيبات الأمل وعدم تحقيق المطالب الشعبية، وجزء من أسباب انتشار هذه الثقافة هي المؤسسات الحكومية التي أهملت عملها وخضعت للمحاصصة الطائفية والحزبية.
يحاول بعضنا استحضار أيام “إقبال الدنيا علينا” واستحضار أيام الانتصارات لعله يعالج بعض ثقافة الهزيمة، لكن الحقيقة لا ترحم، نحن شعب مهزوم يهدي أجمل ما عنده لغيره، ليست توصيفات المشاريع الناجحة هي المشكلة فقط، بل ثرواتنا ومواردنا البشرية وكفاءاتنا.
.
رابط المصدر: