الآيات المكية والمدنية: الثمرات وطرق الإثبات

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (15)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).

والبحث في الآيات المكية والمدنية يدور في ضمن فصول:

مصطلحا المكي والمدني في روايات الشيعة

الفصل الأول: حول ورود المصطلحين في لسان الشارع، فقد ارتأى بعضٌ بأن مصطلحي المكي والمدني لم يردا في الروايات الشريفة، ولذلك لا وجه للدوران مدارهما، بل ان البحث عنهما وتحقيق الحال فيهما، لا ضرورة له بل لا حاجة إليه بل البحث عنهما مجرد قضية جمالية أو تاريخية محضة.

وقال بعض: بأن هذين المصطلحين إنما وردا على لسان علماء العامة، ولم يردا على لسان علماء الخاصة، فما الوجه المقتضي للبحث عنهما؟

ولكنّ الصحيح هو: ان هذين المصطلحين مصطلحان شرعيان، بمعنى ورودهما، أو ما يقاربهما، في الروايات الشريفة، كما أن العديد من تفاسير الخاصة وكتبهم مشحونة بتحديد الآيات المكية والمدنية أو الكلام عنها.

وسوف نكتفي ههنا بالإشارة إلى احدى الروايات، باعتبارها قد وردت في واحد من أهم مصادرنا وهو الكافي الشريف، فقد روى الكليني بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) رواية مطولة جداً ينص فيها الإمام (عليه السلام) على أسماء سور عديدة باعتبارها سوراً مكية، وعلى أسماء سور عديدة أخرى باعتبارها مدنية، كما ينص على آيات كثيرة مصرحاً بأن بعضها نزل في مكة وبعضها الآخر نزل في المدينة، وقد جاء تصنيف الإمام (عليه السلام) للسور والآيات ضمن عملية استنباط مسألة كلامية هامة عنوانها ان الإسلام بالمعنى الأعم في مرحلة ما قبل الهجرة، كان كافياً للدخول إلى الجنة وهو الذي عبّر عنه الإمام (عليه السلام) بإيمان التصديق، ولكن وفي مرحلة ما بعد الهجرة لم يكن ذلك كافياً لدخولها بل لا بد من ضميمة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت والصوم، وهذه مقتطفات لرؤوس الفقرات في الحديث الشريف، قال: (فَالْمَنْسُوخَاتُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْمُحْكَمَاتُ مِنَ النَّاسِخَاتِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ‌ وَاتَّقُوهُ‌ وَأَطِيعُونِ‌) (سورة نوح: الآية 3) ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ‌ وَحْدَهُ وَأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ثُمَّ بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ (عليهم السلام) عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ بَلَغُوا مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) فَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَقَالَ‌ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ‌ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى‌ وَعِيسى‌ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‌ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‌ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (سورة الشورى: الآية 13) فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ إِلَى قَوْمِهِمْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ [بِهِ‌] مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ آمَنَ مُخْلِصاً وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِذَلِكَ وَذَلِكَ‌ (أَنَّ اللَّهَ‌ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) )… (فَلَمْ يَمُتْ بِمَكَّةَ فِي تِلْكَ الْعَشْرِ سِنِينَ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ إِيمَانُ التَّصْدِيقِ وَلَمْ يُعَذِّبِ اللَّهُ‌ أَحَداً مِمَّنْ مَاتَ وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ أَشْرَكَ بِالرَّحْمَنِ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَكَّةَ (وَقَضى‌ رَبُّكَ‌ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‌ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‌ (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) )…

(وَأَنْزَلَ فِي‌ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى‌) (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى‌ لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى‌ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‌) فَهَذَا مُشْرِكٌ، وَأَنْزَلَ فِي‌ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ‌) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ‌ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَ يَصْلى‌ سَعِيراً إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ‌ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلى‌) فَهَذَا مُشْرِكٌ، وَأَنْزَلَ فِي سُورَةِ (تَبَارَكَ): (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ‌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى‌ قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ) فَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ، وَأَنْزَلَ فِي (الْوَاقِعَةِ) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ‌ الضَّالِّينَ‌ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ‌ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‌) فَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ، وَأَنْزَلَ فِي (الْحَاقَّةِ) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ‌ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ‌ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى‌ عَنِّي مالِيَهْ‌) إِلَى قَوْلِهِ‌ (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ‌) فَهَذَا مُشْرِكٌ، وَأَنْزَلَ فِي (طسم‌)(1) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ‌ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‌ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ‌ أَوْ يَنْتَصِرُونَ‌ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ‌ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ‌ أَجْمَعُونَ‌) جُنُودُ إِبْلِيسَ ذُرِّيَّتُهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ…)

إلى أن قال (عليه السلام): (وَالْآيَاتُ وَأَشْبَاهُهُنَّ مِمَّا نَزَلَ بِهِ بِمَكَّةَ وَلَا يُدْخِلُ اللَّهُ النَّارَ إِلَّا مُشْرِكاً فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَنَى الْإِسْلَامَ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحِجِّ الْبَيْتِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْحُدُودَ وَقِسْمَةَ الْفَرَائِضِ وَأَخْبَرَهُ بِالْمَعَاصِي الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَبِهَا النَّارَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا وَأَنْزَلَ فِي بَيَانِ الْقَاتِلِ…‌).

(وَأَنْزَلَ فِي الْعَهْدِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ‌ وَأَيْمانِهِمْ‌ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ‌ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ‌ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ‌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‌) وَالْخَلَاقُ النَّصِيبُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْآخِرَةِ فَبِأَيِّ شَيْ‌ءٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ

وَأَنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ‌ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‌) فَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الزَّانِيَ مُؤْمِناً وَلَا الزَّانِيَةَ مُؤْمِنَةً…).

(وَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ‌ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ‌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ‌ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‌)…)

إلى أن قال (عليه السلام): (وَسُورَةُ النُّورِ أُنْزِلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ‌)…)(2)

وكما ترى فإن الرواية الشريفة صريحة في تحديد العديد من السور والآيات المكية والمدنية، أي ما نزل بمكة وما نزل بعد الخروج منها.

وهناك روايات عديدة أخرى تصرح تارة بالكبرى الكلية(3)، وهو العلم بمكان النزول وانه سهل أو جبل أو ليل أو نهار أو… وأخرى بالمصاديق الجزئية كمكان نزول هذه الآية أو تلك أو بزمانه أو بشؤون وحالات أخرى عديدة.

من ثمرات بحث المكي والمدني

الفصل الثاني: الثمرات التي يمكن أن تترتب على تحديد كون الآية الكريمة مكية أو مدنية، وقد سبقت بعض الثمرات، ونضيف أن الثمرة قد تكون ثمرة خاصة بهذه الآية وتلك الآية وهكذا، وقد تكون ثمرة عامة تشمل كل الآيات المكية والمدنية بضابط عام وثمرة عامة:

أولاً: بعض الثمرات الخاصة:

ان تحديد زمان نزول الآية الكريمة وانه كان قبل الهجرة، لتكون مكية، أو بعدها لتكون مدنية، يثمر بشكل مباشر في العديد من مسائل علم الكلام والكثير من مسائل علم الفقه.

على المستوى الكلامي: آيةُ المودة مدنيةٌ

فعلى مستوى علم الكلام، يمكن أن نمثّل بآية المودة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) (سورة الشورى: الآية 23) فقد اعترض بعضهم على ما يقوله علماء الشيعة من أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) بأن هذه الآية الكريمة وردت في سورة الشورى وسورة الشورى مكية، فكيف يعقل أن تكون قد نزلت في الحسن والحسين مع أنهما لم يولدا بمكة بل ولدوا بالمدينة والتي تزوج فيها علي بفاطمة عليها السلام.

وهنا تتجلى احدى فوائد تحديد موقع نزول الآية، بعد تحديد موقع نزول السورة، فعلى الرغم من أن السورة مكية إلا أن آية المودة نزلت بالمدينة، كما صرح به العديد من الرواة والعلماء من العامة والخاصة، وفي تفسير مجمع البيان: (سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون (53) وتسمى سورة حم عسق أيضاً، وهي مكية عن الحسن إلا قوله (وَاَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا) (وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ) إلى قوله (لاَ يُحِبُّ اَلظَّالِمِينَ) وعن ابن عباس وقتادة إلا أربع آيات منها نزلن بالمدينة (قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى‌َ) قال ابن عباس ولما نزلت هذه الآية قال رجل والله ما أنزل الله هذه الآية فأنزل الله (أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرى‌َ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً) ثم أن الرجل تاب وندم فنزل (وَهُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) إلى قوله (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ))(4) ورواية ابن عباس أرجح لأنه أكثر خبروية ولاعتضاده بقتادة، ولأنه يؤيده الاعتبار(5)، حتى مع قطع النظر عن أن كلام ابن عباس منطوق وكلام الحسن مفهوم، وهو مقدم عليه، كما أن المثبت مقدم على النافي إذ النافي قد ينفي لعدم علمه عكس المثبت، فتدبر.

وقال بعض العلماء: (أولاً: إن الأخبار والأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين عليهم السلام وتصريح الأصحاب والتابعين والعلماء على أن الآية ثابتة بحق أهل البيت عليهم السلام، كاف في رد الشبهة وإبطالها.

ثانياً: إن ظاهرة وجود آيات مدنية في سور مكية، أو وجود آيات مكية في سور مدنية، كثيرة جداً في القرآن الكريم، ولا يمكن لأحد إنكارها أو التشكيك فيها)(6).

على المستوى الفقهي: آيةُ المتعة مدنيةٌ

وعلى المستوى الفقهي، وكما هو معلوم فان الشيعة على مرّ التاريخ استدلوا على جواز عقد المتعة ومشروعيتها بقوله تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (سورة النساء: الآية 24) بينما خالف غالب العامة، بوجوه مختلفة، ومن أغربها ما قاله بعضهم من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (سورة المؤمنون: الآيات 5-7) وقال بعضهم بان المتعة ليست بنكاح أصلاً وليست المتمتع بها زوجة أبداً! ويمكن لنا الاستعانة بتصنيف الآيات إلى مكي ومدني في الجواب عن ذلك كما يمكن لنا أن نجيب بوجوه أخرى:

لا يعقل ناسخية (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) لـ(فَمَا اسْتَمْتَعْتُم)

أولاً: لا يعقل منسوخية آية المتعة بآية (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) وذلك لأن آية المتعة نزلت بالمدينة في سورة النساء المدنية، بينما آية (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ…) مكية في سورة المؤمنون وهي مكية وفي سورة المعارج وهي مكية أيضاً.. وهل يعقل أن ينسخ المكي المتقدم، المدني المتأخر؟

نقد تاريخي لما جاء في سنن الترمذي

ولأجل ذلك ووضوح بطلان هذا الإشكال حاول بعضهم تحريف التاريخ عبر دعوى أن المتعة إنما كانت في أوائل الإسلام – في مكة! كي يصح لهم القول بأن آيات سورة المؤمنون والمعارج المكيات قد نسخت آية المتعة! فقد جاء في (سنن الترمذي): (حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا سفيان بن عقبة، أخو قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: (إِنَّمَا كَانَتِ الـمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ البَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ المَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ، وَتُصْلِحُ لَهُ شَيْئَهُ، حَتَّى إِذَا نَزَلَتِ الآيَةُ: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) (المؤمنون: ٦)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ حَرَامٌ)(7).

فحيث رأوا بداهة أن آيات سورتي المؤمنون والمعارج، مكية ولا يمكن أن ينسخ المكيُّ المدنيُّ وهو (اسْتَمْتَعْتُم) ادعوا بأن المتعة كانت فقط أوائل الإسلام!

وذلك من الغريب حقاً فانه مع قطع النظر عن ثبوت كون سورة النساء مدنية وكون آية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) مدنية كما صرح به العديد من علماء العامة والخاصة، فان من المسلّمات التاريخية أن أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) تمتعوا في المدينة المنورة بإذنه (صلى الله عليه وآله) بل غاية الأمر ان ادعى العامة مستندين إلى روايات متعددة أنه (صلى الله عليه وآله) نهى عنها في المدينة بعد أن أذن بها مما يدل بالمنطوق على انها كانت مباحة بالمدينة ثم حرّمت فلاحظ ما جاء في صحيح مسلم والبيهقي والدارقطني:

(٢٩ – (١٤٠٧) حدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما عن علي بن أبي طالب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى، عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ، يَوْمَ خَيْبَرَ(8). وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الحمر الإنسية)(9).

١٤١٠٧ – أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأُمَوِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ عَامَ أَوْطَاسٍ(10) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا بَعْدُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ ⦗١٧٨⦘)(11)

٣٦٤٢ – نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ , نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى , نا يُونُسُ ⦗٣٨٣⦘ بْنُ مُحَمَّدٍ , ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ, حَدَّثَنِي أَبُو عُمَيْسٍ, عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ, عَنْ أَبِيهِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَخَّصَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ عَامَ أَوْطَاسٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا)(12).

ولاحظ ما ذكره العسقلاني:

(قَوْلُهُ بَابُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ:

أَخِيرًا يَعْنِي تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ فَإِذَا انْقَضَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ أَخِيرًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَقَعَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّتِي أَوْرَدَهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّ عَلِيًّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ بِالنَّهْيِ عَنْهَا بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهَا وَأَقْرَبُ مَا فِيهَا عَهْدًا بِالْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَتَذَاكَرْنَا مُتْعَةَ النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَسَأَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ هَذَا وَهُوَ بن مَعْبَدٍ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ… إلى أن قال:

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَأَغْرَبُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ثُمَّ رِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَالْمَشْهُور فِي تَحْرِيمهَا أَن ذَلِك كَانَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الرَّبِيعِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ وَمَنْ قَالَ مِنَ الرُّوَاةِ كَانَ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسَ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَنْ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ اه

فَتَحَصَّلَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ سِتَّةُ مَوَاطِنَ خَيْبَرُ ثُمَّ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ ثُمَّ الْفَتْحُ ثُمَّ أَوَطَاسُ ثُمَّ تَبُوكُ ثُمَّ حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُنَيْنٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي رِوَايَةٍ قَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهَا قَبْلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَهِلَ عَنْهَا أَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا لِخَطَأِ رُوَاتِهَا أَوْ لِكَوْنِ غَزْوَةِ أَوْطَاسَ وَحُنَيْنٍ وَاحِدَةً)(13)

(١٤١٥٥ – أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أنبأ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، ثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَتَّى نَزَلُوا بِعُسْفَانَ، فَقَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ أَوْ مَالِكُ بْنُ سُرَاقَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْضِ قَضَاءً كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ، قَالَ: ” إِنَّ اللهَ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حَجَّتِكُمْ هَذِهِ عَمْرَةً فَإِذَا أَنْتُمْ قَدِمْتُمْ فَمَنْ تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَحِلُّ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْهَدْيِ “، فَلَمَّا أَحْلَلْنَا قَدِ اسْتَمْتَعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ عِنْدَنَا التَّزْوِيجُ فَعَرَضْنَا ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ فَأَبَيْنَ إِلَّا أَنْ يَضْرِبْنَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ” افْعَلُوا “، فَخَرَجْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي مَعِي بُرْدٌ وَمَعَهُ بُرْدٌ، وَبُرْدُهُ أَجْوَدُ مِنْ بُرْدِي، وَأَنَا أَشَبُّ مِنْهُ، فَأَتَيْنَا امْرَأَةً فَأَعْجَبَهَا بُرْدُهُ، وَأَعْجَبَهَا شَبَابِي، قَالَتْ: بُرْدٌ كَبُرْدٍ فَكَانَ الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشْرًا، فَبِتُّ عِنْدَهَا لَيْلَةً فَأَصْبَحْتُ فَخَرَجْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ بَيْنَ الرُّكْنِ، وَالْمَقَامِ وَهُوَ يَقُولُ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ أَلَا وَإِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا “)(14)

بل وفوق ذلك فانه تدل بعض الروايات على أن (عمر) هو الذي نهى عن المتعة رغم استمرار تمتع المسلمين زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وزمن أبي بكر وبعضاً من زمن حكومة عمر:

(وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يرحم الله عمر مَا كَانَت الْمُتْعَة إِلَّا رَحْمَة من الله رحم بهَا أمة مُحَمَّد وَلَوْلَا نَهْيه عَنْهَا(15) مَا احْتَاجَ إِلَى الزِّنَا إِلَّا شقي قَالَ: وَهِي الَّتِي فِي سُورَة النِّسَاء (فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ) إِلَى كَذَا وَكَذَا من الْأَجَل على كَذَا وَكَذَا

قَالَ: وَلَيْسَ بَينهمَا وراثة فَإِن بدا لَهما أَن يتراضيا بعد الْأَجَل فَنعم وَإِن تفَرقا فَنعم

وَلَيْسَ بَينهمَا نِكَاح

وَأخْبر أَنه سمع ابْن عَبَّاس يَرَاهَا الْآن حَلَالا)(16)

٤٥٧٢٠- عن جابر قال: تمتعنا متعة الحج ومتعة النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان عمر نهانا فانتهينا. “ابن جرير”.

٤٥٧٢٢- عن أبي قلابة أن عمر قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب فيهما. “ابن جرير، كر”.

٤٥٧٢٤- عن أبي نضرة قال: سمعت عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ذكروا المتعة في النساء والحج، فدخلت على جابر بن عبد الله فذكرت له ذلك فقال: أما إني قد فعلتهما جميعا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر بن الخطاب فلم أعد. “ابن جرير”)(17)

(١٤٠٥حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ. أَخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ. قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:

كُنَّا نَسْتَمْتِعُ، بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ، الْأَيَّامَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، حَتَّى نَهَى عَنْهُ عُمَرُ، فِي شأن عمرو بن حريث)(18).

(٤٥٧٢٦- عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة أن رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها فاشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج، فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب فأرسل إلي فسألني: أحق ما حدثت؟ قلت: نعم، قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلما قدم أخبرته، فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا؛ فقال عمر: أما والذي نفسي بيده! لو كنت تقدمت في نهى لرجمنك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح. “ابن جرير”.(19))

(١٥ – (١٤٠٥) وحدثنا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. قَالَ: قَالَ عَطَاء: قَدِمَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُعْتَمِرًا. فَجِئْنَاهُ فِي مَنْزِلِهِ. فَسَأَلَهُ الْقَوْمُ عَنْ أَشْيَاءَ. ثُمَّ ذَكَرُوا الْمُتْعَةَ. فقَالَ: نَعَمِ. اسْتَمْتَعَنْا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)(20).

(وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – رَحِمَ بِهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْلَا نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا مَا اضْطُرَّ إِلَى الزِّنَا إِلَّا شَقِيٌّ. وَهَذَا الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ” سَمِعْتُ «جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: ” تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَبِي بَكْرٍ وَنِصْفًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ النَّاسَ»)(21)

(١٧ – (١٤٠٥) حدثنا حامد بن عمرو الْبَكْرَاوِيُّ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ (يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ) عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَتَاهُ آتٍ فقَالَ: ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ اخْتَلَفَا فِي الْمُتْعَتَيْنِ. فَقَالَ جَابِرٌ:

فَعَلْنَاهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ نَهَانَا عَنْهُمَا عُمَرُ. فَلَمْ نَعُدْ لَهُمَا)(22).

(١٤٥ – (١٢١٧) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن المثننى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة. قال: سمعت قتادة يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ:

كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: عَلَى يدَيَّ دارَ الحديثُ. تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ. وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ. فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ. وَأَبِتُّوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ. فَلَنْ أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أجل، إلا رجمته بالحجارة)(23).

آية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) مخصصة لآية (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)

ثانياً: ومع قطع النظر عن ذلك، فإن (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) عام وآية المتعة خاصة، والخاص القرآني يخصص العام القرآني، نعم عندنا خاص الحديث يخصص عام القرآن، ولكن، عندنا وعندهم: خاص القرآن يخصص عامه، وآية المتعة من خاص القرآن.

والمتعة نكاح

ثالثاً: بل نقول: ان المتعة نكاح فهي داخلة موضوعاً في عموم قوله تعالى: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) ويدل على كونها نكاحاً ان فيها العقد والمهر، وهما الأساس في النكاح لكن زِيدَ عليهما الأجل، كما يدل على ذلك أن العامة ورواياتهم كانت تسميها بنكاح المتعة، فإن أبيت عن ذلك وقلت هي قسم ثالث فلا هي نكاح وهي لا سفاح كما قال به بعضهم فنرجع إلى الجواب الثاني الماضي.

كما تدل الروايات وأقوال العديد من المفسرين على أن المتعة نكاح وليست شيئاً آخر، كما تدل على ذلك كلمات الطبري والنسائي والبيهقي:

(حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء: ٢٤] يَقُولُ: ” إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ ثُمَّ نَكَحَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ وَجَبَ صَدَاقُهَا كُلُّهُ. وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ النِّكَاحُ , وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: ٤] ” ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ , فَهَذِهِ الْمُتْعَةُ؛ الرَّجُلُ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ بِشَرْطٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى , وَيَشْهَدُ شَاهِدَيْنِ , وَيَنْكِحُ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا , وَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ وَهِيَ مِنْهُ بَرِيَّةٌ , وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَبْرِئَ مَا فِي رَحِمِهَا , وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ , لَيْسَ يَرِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ “)(24)

(١١٠٨٥ – أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَوَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجْلٍ، ثُمَّ قَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: ٨٧)(25)

ومن الروايات التي تدل على تسمية الصحابة للمتعة بالنكاح، حتى على لسان عمر، ما رواه البيهقي عن عمر في خطبته

(١٤١٧١ – وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أنبأ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى الزُّهْرِيُّ الْقَاضِي، بِمَكَّةَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأُمَوِيُّ، ثنا مَنْصُورُ بْنُ دِينَارٍ، ثنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَعِدَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ” مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْكِحُونَ هَذِهِ الْمُتْعَةَ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، أَلَا وَإِنِّي لَا أُوتَى بِأَحَدٍ نَكَحَهَا إِلَّا رَجَمْتُهُ “، فَهَذَا إِنْ صَحَّ يُبَيِّنُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ عَلِمَ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ)(26).

وقال في تفسير الميزان: (إن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في التاريخ واصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي إذ لا عين منه في كتب التاريخ ولا أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية وتسهيل من الله تعالى على هذه الأمة لإقامة أودهم ووقايتهم من انتشار الزنا وسائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لإقامة هذه السنة، وإذا لم تكن الحكومات الاسلامية تغمض في أمر الزنا وسائر الفواحش هذا الاغماض الذي ألحقها تدريجياً بالسنن القانونية وامتلأت بها الدنيا فساداً ووبالاً.

وأما قوله وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر ظاهره أن مراده بالفاحشتين الزنا وشرب الخمر وهو كذلك إلا أن كون الزنا فاشياً في الإماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالاشعار التي قيلت في ذلك وقد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علنياً.

ويدل عليه أيضاً مسألة الادعاء والتبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن بينهم مجرد تسمية ونسبة بل كان ذلك أمراً دائراً بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدة والقوة بالالحاق ويستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات الأزواج منهم وأما الإماء فهم ولا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن والمعاشقة والمغازلة معهن وإنما كانت شأن الإماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام اكتساباً واسترباحاً.

ومن الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الالحاق في السير والآثار كقصة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان وما شهد به شاهد الأمر عند ذلك وغيرها من القصص المنقولة، نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البيعة وهل الحرة تزني؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان والتأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتي بدر وأحد يرفع اللبس ويكشف ما هو حقيقة الامر…

وقد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الاسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه وفي نسخها إلى كتاب أو سنة وما كان يعرفها المسلمون ولا وقعت إلا في كتب الشيعة.

أقول وهذا الكلام المبنى على الصفح عما يدل عليه الكتاب والحديث والاجماع والتاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهى عنها في عهد عمر ونفذ النهى عند عامة الناس ووجه النهى بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي عنها وخالف في ذلك عدة من الأصحاب وجم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز واليمن وغيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث وكان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة ومثل مالك أحد أئمة الفقه الأربعة هذا

ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة وراموا تفسيرها بالنكاح الدائم وذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسخت بالحديث ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة ثم ذكر هذا القائل الأخير أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الاسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة والله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان…

ومن عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية: أن هذه آية غلط فيها قوم غلطا عظيما لجهلهم باللغة وذلك أنهم ذكروا أن قوله: ” فما استمتعتم به منهن ” من المتعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام ثم ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح وليتني أدرى أن أي فصل من كلامه يقبل الاصلاح: أرميه أمثال ابن عباس وأبي وغيره بالجهل باللغة؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة؟ أم دعواه الخبرة باللغة وقد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح؟)(27)

(أقول أما قوله ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا الخ محصله أن آيات المؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون الآيات تقصر الحل في الأزواج والمتمتع بها ليست زوجة فالآيات مانعة من حلية المتعة أولاً ومانعة من شمول قوله فما استمتعتم به منهن الآية لها ثانياً.

فأما أن الآيات تحرم المتعة فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية والمتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيح ما حرمه القرآن بإجازته المتعة وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة والذين هم الآيات ثم منع عنها القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحييت بذلك الآيات بعد موتها واستحكمت بعد نسخها وهذا أمر لا يقول به ولا قال به أحد من المسلمين ولا يمكن أن يقال به.

وهذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة وأن المتعة نكاح وأن هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا وإلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته)(28).

ثانياً: الثمرة العامة: الأصل في الحكم المدني الإطلاق وفي المكي عدمه

والثمرة العامة للبحث عن الآيات المكية والمدنية، على مستوى الفقه، انّ الآيات المكية، قد يقال فيها انها مما لا يحرز كونها في مقام البيان، عكس الآيات المدنية، بدعوى ان المدنية، ونقصد بها دوماً ما نزلت بعد الهجرة وإن نزلت الآية في مكة أو خيبر أو الحديبية أو غيرها، كانت محطة للتشريعات المتعلقة بفقه الأحوال الشخصية وفقه الدولة، وأما مكة فكانت محطة لطرح مباحث أصول الدين والتوحيد والشرك والمعاد وشبه ذلك كما سبق.

وبعبارة أخرى: كان الأصل، المراد به القاعدة العامة، في مكة المكرمة تناول بحوث العقيدة وقصص الأنبياء والمواعظ والحكم وغيرها، وكانت التشريعات المتعلقة بفقه الأحوال الفردية، استثناء، عكس المدينة المنورة، حيث كان الأصل التشريع لشؤون الفرد والمجتمع والدولة، وعلى ذلك فقد يقال: بان آيات الأحكام إذا كانت مما نزل بالمدينة كان الأصل فيها أن تكون في مقام البيان، وهي المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة الثلاثة(29) لأن المقام العام هو مقام تشريع أحكام الأحوال الشخصية وأحكام الحكومة والأمة، أما إذا كانت الآيات مما نزلت بمكة فلا يحرز، كأصل عام، كونها في مقام البيان، فلا بد من إحراز جزئي لكل آية آية انها ورادة في مقام البيان للحدود والخصوصيات وان مفادها الإطلاق أو هي واردة في مقام ذكر أصل الحكم ومجرد الإشارة إليه مع إهمال الحدود.

سلّمنا: لكن، مع هذه القرينة العامة فان إطلاق الآيات المكية، حتى على فرض القول بانها ورادة مورد البيان، أضعف من إطلاق الآيات المدنية، مما يثمر في مواطن عديدة ومنها: أن قرينة ضعيفة كقرينة السياق قد تخلّ بها ولو باعتبارها من محتمل القرينية المتصل، ومنها: صورة تعارض الاطلاقين، مما يوكل تفصيله لمظانه من الفقه والتفسير.

آيات الأحكام المكية، بعدد الأصابع

ويدلّنا على ذلك الأصل والقاعدة العامة، التتبعُ والاستقراء فإن آيات الأحكام الفردية النازلة في مكة، حسب إحصاء بعض المتتبعين تبلغ حوالي عشر آيات، وعندما تتبعنا أكثر أضفنا لها حوالي عشر أحكام أخرى في تلك الآيات أو ما يسبقها ويلحقها، ولنفرض اننا بمزيد التتبع نجد انها ثلاثون أو أربعون، أما آيات الأحكام مجموعاً فحسب المشهور تبلغ ستمائة آية، وقد أوصلها السيد الوالد إلى حوالي ألف آية متوزعة على صفحات (موسوعة الفقه) وبعد دمج المكررات من الألف لنفرض انها تبلغ النصف أو أقل أو أكثر فراجع وتدبر.

والآيات المكية الواردة في الأحوال الشخصية وشبهها هي بحسب بعض المتتبعين:

(هذا بالإضافة إلى أننا نجد في السور المكية أحكاماً فرعية كالسور المدنية وإن كانت بالنسبة إليها قليلة.

ففي قوله تعالى (وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ).

وقوله سبحانه (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ).

وقوله عز من قائل (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).

وقوله عز وجل (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ).

وقوله عز وجل (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وقوله (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ).

نجد أن كل هذه الآيات المتضمنة لأحكام فرعية قد وردت في سورة الأنعام وهي مكية.

كما أن قوله تعالى (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وقوله (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) قد ورد في سورة الأعراف وهي مكية.

وأيضا فإن قوله سبحانه (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) قد ورد في سورة إبراهيم وهي مكية.

وورد في سورة الإسراء المكية قوله عز وجل (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى).

وفي سورة المؤمنون المكية قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ).

وأمر الناس بالسجود في سورة النجم33 وهي مكية.

وأما سوى ذلك من السور المكية فلم أجد فيه ما يدل على أحكام فرعية في هذه العجالة)(30).

أقول: وهناك آيات أخرى تسبق ما ذكره من الآيات أو تلحقها، إذ تبدا من الآية 151 من سورة الأنعام وتتضمن أحكاماً فرعية، إلى جوار أحكام من دائرة أصول الدين: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ:

أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ

وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى

وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (سورة الأنعام: الآيات 151-153)

وفي الأعراف: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ

وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ *

يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ

وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (سورة الأعراف: الآيات 29- 33).

وفي سورة الإسراء: (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً *

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا *

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ

وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا *

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا *

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا *

وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا *

وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً *

وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا *

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً *

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *

وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) (سورة الإسراء: الآيات 22-38).

والأحكام المذكورة في الآيات السابقة المتعلقة بالأحوال الشخصية، بعد دمج المكررات، حوالي عشرون حكماً.

ولكن، إضافة إلى أن الآيات المكية المتطرقة للأحوال الشخصية قليلة بالنسبة للآيات التشريعية المدنية، فإن الآيات المكية السابقة كانت غالباً في المستقلات العقلية فإن حرمة قتل النفس البريئة من المستقلات العقلية، وكذا حرمة التعدي على مال اليتيم، وكذا حسن الإحسان للوالدين والوفاء بالمكيال والميزان بالقسط والعدل والوفاء بالعهد والقول على الله تعالى بغير علم وما أشبه، وأما الآيات المكية الواردة في الأحوال الشخصية من غير أن تكون من المستقلات العقلية، كـ(خُذُواْ زِينَتَكُمْ…)

(وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) و(فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا) فهي قليلة جداً جداً.

طرق إثبات كون الآية مكية أو مدنية

الفصل الثالث: بحث عن الطرق التي يمكن عبرها إثبات نزول الآية الكريمة في مرحلة مكة أو مرحلة المدينة،

والذي يخطر بالبال أن الطرق متعددة:

أولاً: إجماع مفسري الشيعة والسنة والفقهاء والعلماء على أن السورة أو الآية مكية أو مدنية، أي إجماع من تطرق منهم إلى بيان ذلك، وهذا الإجماع مما يورث الاطمئنان خاصة مع كثرة خلافات علماء الشيعة والسنة، ومع اختلاف مبانيهم العامة أشد الاختلاف، هذا كبرى، وأما صغرى، فان السور المجمع عليها والآيات المجمع عليها كثيرة، وقد سبقت الإشارة إلى أن بعض العلماء ذكر ان السور المدنية المتفق عليها وهي عشرون سورة، والمختلف فيها وهي اثنتى عشرة سورة والمكية المتفق عليها وهي اثنين وثمانين سورة، نعم في بعض ذلك خلاف.

ثانياً: وثاقة المخبر إذا كان ممن حضر موقع نزول الآية الكريمة وزمانه، ووثاقة المخبرين في طول سلسلة الإسناد إذا كان النقل بالواسطة.

ثالثاً: وثاقة الخبر؛ فإن وثاقة المخبر إنما يعد، أحد طرق إثبات حجية الخبر.

رابعاً: تعاضد النقل وإن كان غير معتبر في حد ذاته، مع بعض الخصائص العامة للآيات والسور المدنية، والمكية فان الأمر في الكثير من الحالات يورث القطع أو الاطمئنان أو الظن النوعي.

خامساً: مسلمية نزول الآيات في المدينة المنورة نظراً لمضمونها كآيات القتال مثلاً.

سادساً: وثاقة المخبر وإن كان الخبر مرسلاً فيما إذا اعتمد عليه هو أو اعتمد عليه أحد العلماء الثقات من أهل الخبرة، كما فصّلناه في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) وقد نقلنا هنالك آراء العديد من مشاهير علماء الأصول الذين ذهبوا إلى ذلك ومنهم الشيخ الطوسي u في عدة الأصول حيث أوقع المعارضة بين مرسل الثقة ومسنده، وأرجع الترجيح بينهما إلى مرجحات خارجية! مما يعني انه يرى حجية مرسل الثقة أولاً وانه يعتبره من القوة بحيث يعارض بل يكافئ مسند الثقة!

مناقشة مع المنقول عن السيد الطباطبائي

وبذلك ظهرت المناقشة في المنقول عن السيد الطباطبائي، بحسب أحد الباحثين مع تعليقات نذكرها في الهامش، قال: (لقد اختار الطباطبائي طريق القرآن، باعتباره المتعين لهذا الغرض، وذلك نظراً لأهمية العلم بالسور المكية والمدنية، ولما له من أثر في البحوث المتعلقة بالدعوة النبوية، وهنا تساءل المفسّر هل يركن إلى الروايات المتضاربة إلى حد التناقض لتحصيل هذا العلم(31)، أم أنه يختار سبيل القرآن للتدبر في سياق الآيات، وفي لهجة الخطاب الإلهي الموجه إلى الناس؟

لا شك في أنه مع توفر السور والآيات على خصائص(32) تميز المكي عن المدني، وهي خصائص عامة، يمكن للمفسر أن يهتدي إلى التمييز بينها، ولكن كيف السبيل إلى معرفة مواقع النزول، وترتيب النزول؟ فهذا ما حتم على المفسّر أن يلتمس طريق القرآن للتدبر في سياق الآيات، والاستمداد بما يتحصل من القرآن والإمارات الداخلية والخارجية للعلم بمكية السور ومدنيتها. ومن هنا، نرى أن ما يميز المفسّر عن سواه من المفسرين للقرآن، هو أنه من خلال إحاطته بعلوم القرآن استطاع الاهتداء إلى المنهج الإسلامي القويم في معالجة الكثير من القضايا الإسلامية، فكان منهج تفسير القرآن بالقرآن، لأن الروايات، الكثير منها(33)، لا تنهض بهذه المهمة، ولا بد أن القرآن مبين لغيره، كما هو مبين لنفسه، كما يرى الطباطبائي، وهو من هذه الرؤية وبهدف تحصيل العلم بمكية السور ومدنيها قال الطباطبائي: وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب، أي تفسير الميزان، والله المستعان)(34) (إذاً، الطباطبائي، كما تبين لنا من رؤية مختصرة فيما ذهب إليه في موضوع المكي والمدني، يحسم الموقف في تفسيره وفي منهجه، معولاً على السياق ومضامين الآيات(35)، طالما أنه يرى أن ما ينقل من روايات عن الكلبي ومقاتل وعكرمة وقتادة، وغيرهم، لا يورث الاطمئنان بل يؤدي إلى القول بخلاف سياق الآيات ومضامينها)(36) (وهذا يعني أنه إذا لم تكن الرواية حجة قاطعة، فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في التعرف إلى المكي والمدني، ويبقى السبيل الوحيد(37) إلى ذلك هو القرآن، وهذا ما اختاره الطباطبائي تجنباً لمزالق الروايات(38) التي تجعل من المكي مدنياً، ومن المدني مكياً مع ما يحدثه ذلك من اضطراب فيما يتعلق بأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد، والعام والخاص. فإذا كانت ضمانة هذا العلم وغيره من العلوم القرآنية هي في القرآن فلما لم يلجأ إليه المفسرون، وهذا ما صدّرنا به الكلام عن الطباطبائي، الذي عبر عن ذلك بقوله: «ولو لم ينسَ السابقون هذا الأسلوب الرائد، واستمروا على نهجه، لانكشفت لهم الكثير من الأسرار القرآنية»)(39) (وكما يقال، هنا جوهر القول في عبقرية الطباطبائي، وفيما اختاره من طريق للعلم بالمكي والمدني، لأنه لم يرد أن يختلف في القرآن، هل هو مكي أو مدني، إذ كيف يمكن أن يقع الإختلاف، والقرآن لا اختلاف فيه، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً)، وهذا هو مرتكز الطباطبائي في منهجه تفسير القرآن بالقرآن. إذ هو تجنب الروايات التي لا تنهض دليلاً، واعتصم بالقرآن بديلاً، ليكون له علم بالمكي والمدني من خلال التدبر بالسياق والمضامين القرآنية)(40).

وإذا صح هذا النقل عن العلامة فهنا ملاحظات إضافة إلى ما ذكرناه في الهامش:

الأولى: ليست خصائص السور والآيات المكية والمدنية، مما تورث القطع دائماً، بل بعضها ظني غير معتبر كما سبق في الدرس الماضي، فلا يمكن عبر منهج دراسة الخصائص والسياق القرآني إثبات موقع أو زمن نزول كل الآيات الكريمة وانه قبل الهجرة النبوية أو بعدها، نعم إذا قصد إمكان إثبات بعضها فقط صح.

الثانية: انه ليس الطريق منحصراً في ذلك بل الطرق ستة، كما سبق أعلاه.

مناقشة مع المنقول عن الشهيد الصدر

كما ظهرت المناقشة مع النقل الآتي: (قال السيد الصدر: وما من ريب في أن هذه المقاييس المستمدة من تلك الخصائص العامة تلقي ضوءاً على الموضوع، وقد تؤدي إلى ترجيح(41) لأحد الاحتمالين على الآخر في السور التي لم يرد نص بأنها مكية أو مدنية؛ فإذا كانت إحدى هذه السور تتفق مثلاً مع السور في أسلوبها وإيجازها وتجانسها الصوتي وتنديدها بالمشركين وتسفيه أحلامهم، فالأرجح أن تكون سورةً مكية لاشتمالها على هذه الخصائص العامة للسورة المكية.

ولكن الاعتماد على تلك المقاييس إنما يجوز إذا أدت إلى العلم(42) ولا يجوز الأخذ بها لمجرد الظن، ففي المثال المتقدم حين نجد سورةً تتفق مع السور المكية في أسلوبها وإيجازها لا نستطيع أن نقول بأنها مكية لأجل ذلك، إذ من الممكن أن تنزل سورة مدنية وهي تحمل بعض خصائص الأسلوب الشائع في القسم المكي، صحيح أنه يغلب على الظن أن السورة مكية لقصرها وإيجازها ولكن الأخذ بالظن لا يجوز(43) لأنه قول من دون علم: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)

وأما إذا أدت تلك المقاييس إلى الاطمئنان(44) والتأكد من تاريخ السورة وأنها مكية أو مدنية فلا بأس بالاعتماد عليها عند ذاك، ومثاله النصوص القرآنية التي تشتمل على تشريعات للحرب والدولة مثلاً؛ فإن هذه الخصيصة الموضوعية تدل على أن النص مدني؛ لأن طبيعة الدعوة في المرحلة الأولى التي عاشتها قبل الهجرة لا تنسجم إطلاقاً مع التشريعات الدولية، فنعرف من أجل هذا أن النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة، أي في عصر الدولة)(45).

ونحن نستبعد دقة النقل إذ مباني الشهيد الأصولية معروفة وهي لا تحصر الحجة في العلم والاطمئنان، ولكن إن صح، فيرد عليه: انّه لا يشترط في الثبوت والحجية العلم بل ولا حتى الاطمئنان، بل يكفي الظن النوعي فانه معتبر وإن لم يورث الاطمئنان بل وإن لم يورث الظن الشخصي على الوفاق بل حتى مع الشك الشخصي، بل حسب المشهور فان الظنون النوعية حجة حتى مع الظن الشخصي بالخلاف، وقد سبقت طرق ستة لثبوت كون الآية مكية أو مدنية فتدبر جيداً. والله العالم الهادي سبيل الرشاد.

* * *

ابحث عن خمس أمثلة أخرى لتأثير المكي والمدني على عملية الاستنباط من الآيات الكريمة.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

………………………………..
(1) يعني سورة الشعراء 91- 100.
(2) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص28-33.
(3) ففي تفسير فرات قال: (حدثني الحسين بن سعيد معنعنا عن زاذان قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: (وْثُنِيَتْ لِيَ الْوِسَادَةُ فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا لَحَكَمْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْفُرْقَانِ بِفُرْقَانِهِمْ بِقَضَاءٍ يَزْهَرُ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِي لَيْلٍ أَوْ فِي نَهَارٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ وَلَا بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُ أَيَّ سَاعَةٍ نَزَلَتْ وَفِيمَنْ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ جَرَى عَلَيْهِ الْمَوَاسِي إِلَّا وَقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَسُوقُهُ إِلَى الْجَنَّةِ [جنة] أَوْ تَقُودُهُ إِلَى نار [النَّارِ]، قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: فَمَا نَزَلَتْ فِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ‌: (أَفَمَنْ كانَ عَلى‌ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ‌) فَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَنَا الشَّاهِدُ مِنْهُ أَتْلُو آثَارَهُ) (تفسير فرات الكوفي، مؤسسة الطبع و النشر في وزارة الإرشاد الإسلامي‌ ـ طهران، ج1 ص188).
(4) الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار المعرفة، ج9 ص31.
(5) وهو شأن نزول الآية، إذ أراد المسلمون بذل أموال له (صلى الله عليه وآله) فرفض ونزلت الآية الكريمة، وكان ذلك بالمدينة.
(6) من موقع https://www.aqaed.com/ مركز الأبحاث العقائدية التابعة للسيد السيستاني، قسم الأسئلة العقائدية / القرآن وعلومه.
(7) أبو عيسى الترمذي، سنن الترمذي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ج3 ص422.
(8) معركة خيبر حدثت سنة سبعة للهجرة بعد العودة من صلح الحديبة وقيل سنة ستة للهجرة.
(9) مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة، ج2 ص1027.
(10) أي سنة غزوة أوطاس، التي حدثت في شوال عام ثمانية للهجرة، أعقاب غزوة حنين.
(11) أبو بكر البيهقي، معرفة السنن والآثار، جامعة الدراسات الإسلامية ـ كراتشي، دار قتيبة ـ دمشق، دار الوعي ـ حلب، دار الوفاء ـ القاهرة، ج10 ص177.
(12) الدار قطني، سنن الدارقطني، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، ج4 ص382.
(13) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة ـ بيروت، ج9 ص167-169
(14) أبو بكر البيهقي، السنن الكبرى، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج7 ص330-331.
(15) مما يعني أن أبا بكر أيضاً لم ينه عنها.
(16) جلال الدين السوطي، الدر المنثور، دار الفكر ـ بيروت، ج2 ص486-487.
(17) المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، ج16 ص520- 521.
(18) مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة، جج2 ص ١٠٢٣.
(19) المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، ج16 ص522.
(20) مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة، جج2 ص ١٠٢٣.
(21) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الحديث ـ القاهرة، ج3 ص81.
(22) مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة، ج2 ص ١٠٢٣.
(23) مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة، ج2 ص ٨٨٥.
(24) أبو جعفر بن جرير الطبري، تفسير الطبري جامع البيان، دار هجر للطباعة والنشر، ج6 ص585-586.
(25) النسائي، السنن الكبرى، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، ج10 ص85.
(26) أبو بكر البيهقي، السنن الكبرى، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج7 ص ٣٣٦.
(27) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج4 ص308-310.
(28) المصدر: ص304.
(29) أن يكون المولى في مقام البيان، أن لا تكون قرينة على الخلاف، أن لا يكون هنالك قدر متيقن مطلقاً على المشهور أو قدر متيقن في مقام التخاطب على ما اختاره صاحب الكفاية، على أن المقدمة الثالثة لدى التدبر من صغريات الثانية.
(30) من موقع https://www.almaaref.org/ شبكة المعارف الإسلامية الثقافية تحت عنوان (المكي والمدني في القرآن)
(31) الجواب، طبعاً كلا مادامت متضاربة.
(32) سبق أن كثيراً منها ظني فقط.
(33) فهناك إذاً غيرها، مما ينهض بذلك.
(34) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج13 ص231 .
(35) إن أراد (في الجملة) فصحيح، أما إذا أراد (بالجملة) وبنحو الإطلاق فلا.
(36) من موقع https://almerja.com/ تحت عنوان المكي والمدني عند الطباطبائي.
(37) ليس السبيل الوحيد.
(38) بعضها فقط.
(39) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج13 ص231.
(40) المصدر.
(41) الترجيح قسمان فقد يكون معتبراً وقد لا يكون.
(42) حصر الجواز في (العلم) غير تام إلا إذا أريد به الأعم من (العلم) و(العلمي).
(43) هذا صحيح تماماً.
(44) ليس الاطمئنان هو الطريق الوحيد كما سبق وسيأتي.
(45) السيد محمد باقر الحكيم، علوم القرآن، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، 77 ـ 79.

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/theholyquran/34144

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M