المرجعيّات الروحيّة وتخفيف التّوترات المذهبيّة

حسن المصطفى

الكراهية لها مسبّبات عدة، من أعقدها وأكثر خطراً تلك المرتكزة على أسس فقهية طائفية، تنظر ‏للمختلف بوصفه خارجاً عن دائرة الإسلام، وبالتالي، يحلُ دمهُ ومالهُ وعرضه، أو في أحسن ‏الأحوال تمارس ضده سياسة تمييز مذهبي وإقصاء، تحرمه من حقوقه في المواطنة، وتجعل منه ‏فرداً منقوص الإنسانية، كونها انتهكت تحت ذرائع شرعية، يراها أصحابها ذات رجاحة!‏
هذا النبذ الممارس، يختلط بعوامل عدة تغذيه، تجعله أكثر إيلاماً وعنفاً: السياسة، العرق، المال، ‏الرغبة في التفوق والاستحواذ واحتكار النفوذ؛ وبالتالي يكون “الانحياز الطائفي” سلوكاً اجتماعياً، ‏حتى لدى غير المتدينين، لأنه يوفر لهم امتيازات اقتصادية، ويمنح الجماعة مرتبة أعلى على ‏الآخرين، ما يحوّله إلى سلوك مقبول لدى المنتفعين، غير مستهجن، بل توجّه الملامة ضد من ‏يمارس عكسه، خصوصاً إذا كان من الجماعة ذاتها أو الطائفة ذاتها.‏
إذاً، الطائفية سلوك يستخدم لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية، ويطوّع من أجلها النص ‏الديني، وتجترح الرؤى الثقافية التي تقدمها وكأنها منهج يتوافق مع العقل، ولا يناقض العدالة!‏
من هنا، فإن مواجهة الخطاب الطائفي في الوسط الإسلامي، يحتاج إلى جهد كبير وشجاعة، ‏وتعاون بين المرجعيات الروحية، والمؤسسات القانونية والحقوقية، والمجتمع المدني، وأن تكون ‏‏”الدولة” راعية لـ”المواطنة الشاملة”، بحيث لا تنحاز إلى دين أو مذهب معين، بل تأخذ صيغة ‏‏”مدنية – إنسانية”، وهو الأمر الذي يغيب في كثير من الدول العربية والإسلامية، ويحتاج إلى حجز ‏مكين، وهو “القانون” الذي يكرّس المساواة والعدالة، ويجرّم التمييز المذهبي والعرقي والجنسي، ‏ويحاسب مروّجي أفكار الكراهية والعنف والتكفير.‏
برغم أن البعض يعتبر أن رجال الدين هم جزء رئيس من مشكلة الخطاب الديني السلبي، إلا أن ‏المرجعيات الدينية الإسلامية المعتدلة، لها دور مهم في تعزيز قيم التعددية والتنوع ومواجهة ‏الطائفية. وهي المهمة التي يعولُ على آية الله السيد علي السيستاني، والعلامة الشيخ عبد الله بن بيه، ‏النهوض بها.‏
البعض قد يتساءل: لماذا كلُ هذا التركيز على مرجعيتي بن بيه والسيستاني؟ ‏
هنالك أسباب عدة تجعل من المهم التعويل على هاتين المرجعيتين، أهمها:‏
• اتساع دائرة الأتباع؛ فالسيد السيستاني مثلاً، لا تقتصر مرجعيته على العراق أو المسلمين ‏الشيعة في الخليج والشام، بل تمتد إلى الهند وباكستان وأفغانستان والمسلمين في روسيا ‏والجمهوريات التابعة لها، فضلاً عن المقلدين له في أوروبا والولايات المتحدة وأوستراليا. من ‏جهته، الشيخ بن بيه، المؤمنون بفكره ليسوا محصورين في الإمارات وحسب، بل له قاعدة ‏واسعة في شمال أفريقيا، وموريتانيا، وعدد كبير من الدعاة والتلاميذ في منطقة الصحراء ‏وأفريقيا الوسطى، فضلاً عن المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة، ممن يؤمنون بخطابه ‏العقلاني والمعتدل. ‏
• هذا الامتداد الشعبي الواسع، الذي لا يقتصر على عموم الناس العاديين وحسب، بل يتعداهم ‏إلى النخب الدينية والثقافية، وحتى الى التجار والسياسيين، ما من شأنه أن يكون عامل قوة في ‏مصلحة مرجعيتي السيستاني وبن بيه، بحيث من خلال تأكيدهما على التعايش المشترك بين ‏مختلف الديانات والطوائف، يؤثرون على أتباعهم، ويحولونهم من مجرد متلقين، إلى ‏مؤمنين بالمشروع العقلاني – المدني، وعاملين حقيقيين في ترسيخ قيم التنوع.‏
• السيد علي السيستاني، والشيخ عبد الله بن بيه، كلاهما لهما مواقف صريحة، غير مواربة، ‏ضد التعصب المذهبي، ورافضة للتكفير. لنأخذ مثلاً، مقولة السيستاني الشهيرة عن ‏المسلمين السنة، حينما قال عنهم “لا تقولوا إخواننا بل قولوا أنفسنا”، مضيفاً “لا بدّ للشيعة من ‏أن يدافعوا عن الحقوق الاجتماعية والسياسية للسنة، قبل أبناء السنة أنفسهم، وكذلك يجب ‏أن يفعل أبناء السنّة”. كما أنه انتشر رأي فقهي بين الناس في الآونة الأخيرة للسيستاني، ‏يجيز فيه التعبد وفق جميع المذاهب والطوائف الإسلامية سنية وشيعية، وهي الفتوى التي ‏اعتقد البعض أنها حديثة، إلا أن مصادر مطّلعة في مكتب السيستاني، أكدت لي أن هذا رأي ‏قديم لديه، ومبني على قناعة علمية وإنسانية.‏
من جهته، الشيخ عبد الله بن بيه، وفي حديث سابق له مع صحيفة “الشرق الأوسط”، أكد أنه ‏‏”لا إشكال مع الشيعة من حيث المواطنة والتعايش، فالشيعة موجودون منذ أكثر من ألف سنة بين ‏أهل السنَّة”، كما أنه في “منتدى تعزيز السلم” الذي يعقد سنوياً في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، ‏برعاية وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، ورئاسة الشيخ بن بيه، تتم دعوة ‏شخصيات علمية وروحية من المسلمين الشيعة، لهم احترامهم، ويمثلون ثقلاً علمياً أو ثقافياً، وليس ‏مجرد أسماء للزينة ليس لها أي حضور في الشارع العام أو الحوزات العلمية أو الأكاديميات. بن بيه ‏أيضاً، ومن خلال وثيقة “حلف الفضول الجديد”، تجاوز فكرة التعايش الإسلامي بين السنّة ‏والشيعة، إلى التعايش الإنساني بين مختلف البشر، مؤكداً على “المواطنة” كأساس يشترك فيه ‏العموم. من هنا، نجد أن كلتا المرجعيتين، السيستاني وبن بيه، يجاهران بآرائهما من دون خوف أو ‏تردد أو ممارسة دعاية مضللة لأهداف سياسية أو مصالح ذاتوية، وهو ما يمنحهما مصداقية أكبر، ‏ويجعل أثر ما يقومان به أكثر عمقاً.‏
بالتأكيد، فإن بن بيه والسيستاني، ليس بمقدورهما وحدهما، مهما امتلكا من عناصر قوة، أن يواجها ‏التعصب الطائفي، لكن بإمكان التعاون بين مؤسساتهما، وتفعيل ما يمتلكانه من شبكة علاقات ‏واسعة جداً، واحترام بين كثير من الرؤسات والزعماء السياسيين، وأيضاً القوة الفقهية – الروحية ‏الخيّرة التي لديهما، أن يدفعا خطاب الاعتدال والعقلانية نحو الأمام، ويعززا حضوره بين الأتباع.‏
مهمة شاقة ليست بالسهلة، وعلى المرجعيات الدينية الأخرى أن تساندهما فيها، وتشترك في تحمل ‏المسؤولية، وإلا فإن الشباب المسلم سيبقى عرضة لتأثير الجماعات المتشددة التي تدفعه نحو العنف ‏والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان وخرق القانون.‏
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M