تنقسم الإنسانية بوصفها مجالًا من مجالات العلوم الاجتماعية إلى نوعين منفصلين: الإنسانية “الدونانتية” أو الكلاسيكية التي سميت باسم “هنري دونان” مؤسس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والإنسانية “الويلسونية” أو الحديثة التي سميت باسم الرئيس الأمريكي السابق “وودرو ويلسون”. يلتزم الدونانتيست بالمبادئ الأساسية لأي عمل إنساني وهي: الإنسانية، وعدم التحيز، والاستقلال، والحياد، ويسعى إلى توفير الإغاثة من خلال نهج قائم على الاحتياجات؛ حيث يسعى هؤلاء العاملون في المجال الإنساني التقليدي إلى تحقيق التضامن مع المستفيدين وبذل قصارى جهدهم للبعد عن التسييس والتحيز في إغاثة ضحايا الكوارث، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان.
على العكس من ذلك، فإن أهل ويلسون هم “إنسانيون جدد” يسعون إلى الحد من معاناة المستفيدين على المدى الطويل من خلال العمل مع الحكومات والمنظمات الدولية للاستفادة من السياسة والاقتصاد والعناصر الأخرى لسلطة الدولة لمحاربة الأسباب الجذرية للضرر وتطوير البلدان بحيث يمكن أن تكتسب القدرة والمرونة.
ومع زيادة تسييس المساعدات، وجدت المزيد والمزيد من وكالات المعونة نفسها قد أصبحت مسيسة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من قبل الدول المانحة التي تعتقد أن المساعدة الإنسانية يجب أن تقدم كجزء من استراتيجية شاملة لحل النزاع، وبالتالي استخدامها كأداة لتحقيق أهداف سياسية.
التكلفة الانسانية للكوارث والأزمات
يؤكد تقرير “التكلفة البشرية للكوارث 2000-2019” الصادر عن مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث “UNDRR” بمناسبة اليوم الدولي للحد من مخاطر الكوارث في 13 أكتوبر 2020، والذي يأخذ إحصاءاته من قاعدة بيانات أحداث الطوارئ (EM-DAT) التي يديرها مركز الأبحاث حول وبائيات الكوارث (CRED) أن الفترة من 2000 إلى 2019 شهدت 7348 حدثًا كارثيًا مسجلًا أودى بحياة 1.23 مليون شخص، وأثر على 4.2 مليارات شخص، وقد قدرت الخسائر الاقتصادية لهذه الكوارث عالميًا بنحو 2.97 تريليون دولار أمريكي.
وفي السنوات العشرين الماضية، بلغت الكوارث المرتبطة بالمناخ 6681 كارثة، وبلغ عدد الفيضانات 3254، وبلغ معدل حدوث العواصف 2034 حادثة؛ وبهذا كانت الفيضانات والعواصف والجفاف وحرائق الغابات والارتفاع الشديد في درجات الحرارة الشديدة هي الأحداث الأكثر انتشارًا. أما الأحداث الجيوفيزيائية فكانت أكثر أشكال الكوارث فتكًا؛ وبصفة خاصة الزلازل وأمواج تسونامي التي قتلت أشخاصًا أكثر من أي من الأخطار الطبيعية الأخرى؛ حيث تسببت خلال العقدين الماضيين في 58٪ من إجمالي الوفيات.
وعلى نفس السياق، ونحن نتحدث عن الزلازل ينبغي أن نذكر الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب شرق تركيا وشمال سوريا خلال الشهر الجاري “يوم الاثنين 6 فبراير”، والذي بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر، تلاه زلزال آخر بقوة 7.5 درجة؛ وقد تجاوز عدد القتلى في البلدين 45 ألفًا، منهم ما يزيد على 39 ألفًا في تركيا.
وقدرت الأمم المتحدة عدد المتضررين بحوالي 23 مليونًا، وأن من صاروا بدون مأوى في البلدين يقدر عددهم بـ 5.3 ملايين. وذكرت أن ثمة حاجة إلى جمع أكثر من مليار دولار لتمويل عمليات الإغاثة في تركيا، بالإضافة إلى 400 مليون دولار لصالح عمليات الإغاثة في سوريا. هذا بالإضافة إلى تقدير اتحاد الشركات والأعمال التركي خسائر الزلزال بـ 84 مليار دولار، من بينها 70,8 مليار دولار لترميم آلاف المنازل المتضررة. أما في سوريا فهي تواجه بالفعل أزمة في بنيتها التحتية ونقص في الضرورات الأساسية منذ عدة سنوات بسبب الحرب، وأضيف إلى ذلك الخسائر الناتجة عن تبعات كارثة الزلزال.
أوجه تسيس المساعدات الانسانية
نظريًا من المفترض أن تركز المساعدات على أربعة مبادئ هي: الإنسانية، وعدم التحيز، والحياد، والاستقلال، أما الواقع فيؤكد أن الممارسة الفعلية للمساعدات الإنسانية سياسية. فتسييس المساعدات الإنسانية لا يعني أن شيًئا غير سياسي حتى الآن أصبح فجأة سياسًيا لأن المساعدات الإنسانية هي بالضرورة سياسية، لأنها “مشروع سياسي في عالم سياسي” وبالفعل، كانت المساعدة الإنسانية دائما مرتبطة بالبيئة السياسية التي يتم تقديمها فيها.
ومما لا شك فيه أن المساعدة الفعالة تساعد في إنقاذ الأرواح وحماية الحقوق وبناء سبل العيش، ومع ذلك، في النزاعات والأوضاع غير المستقرة سياسًيا من أفغانستان إلى اليمن، تتضرر المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة والجهود طويلة الأجل للحد من الفقر؛ حيث تُستخدم المساعدات في المقام الأول لمتابعة أهداف المانحين السياسية والأمنية الضيقة، وهذا لا يقوض فقط المبادئ الإنسانية والالتزامات الإنمائية للمانحين وإنما أيضًا تؤثر على حياة أكثر الناس ضعفًا والمتضررين من النزاعات والكوارث الطبيعية.
ذلك بالإضافة إلى أن بعض المانحين يركزون بشكل متزايد في مساعداتهم الإنسانية والإنمائية على البلدان والمناطق التي يُنظر إليها على أنها تهدد مصالحها الأمنية المباشرة، بينما تتجاهل الأماكن الأخرى غير الآمنة والفقيرة والمنكوبة بالنزاع.
ولتسييس المساعدات الإنسانية عدة أوجه:
الأول هو الاستغلال: ويعني التراجع عن التركيز على الاحتياجات، واستخدام المساعدات الإنسانية لتعزيز المصالح السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية؛ فقد أظهرت بعض الدراسات أن العديد من المانحين يركزون على تقديم المساعدة بشكل أساسي إلى تلك المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لهم؛ حيث قد يستخدم المانحون متطلبات التنسيق للتحكم في منظمات المعونة، بحجة تحسين تقسيم العمل، وزيادة التخصص، وزيادة الكفاءة.
فتنتقل المساعدات الإنسانية من المساعدة متعددة الأطراف إلى المساعدة الثنائية، وبصورة أكثر توضيحًا، فإن المساعدة متعددة الأطراف تقدم إلى منظمات متعددة ولا يتم تخصيصها لأغراض محددة؛ ومنظمة المعونة هي التي تحدد كيفية إنفاق الأموال دون توجيه من الجهة المانحة. وعلى النقيض من ذلك، فإن المساعدة الثنائية هي تخصيص الأموال والمساعدات لأغراض محددة حيث تُملي الدول أو الجهات المانحة الأخرى على وكالات الإغاثة كيف وأين وعلى من يتم إنفاق الأموال؟
والثاني هو عسكرة المساعدات الإنسانية: والتي تنطوي على عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الجهات الفاعلة الإنسانية والعسكرية؛ ويتضح أكثر عندما تصبح المساعدة جزءًا من استراتيجية مكافحة التمرد، كما حدث على سبيل المثال في أفغانستان مع الحرب على الإرهاب.
والثالث هو التنمية: وتعني عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين المساعدة الإنسانية والتعاون الإنمائي، حيث أدرجت العديد من الوكالات الإنسانية، على سبيل المثال، حقوق الإنسان أو تعزيز الديمقراطية في أنشطتها، وهذا يقلل من الاختلاف بين المساعدات الإنسانية والتنموية ويحول الانتباه عن التركيز الضيق على إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة.
عقود من التسييس
أثارت كارثة الزلزال التي حدثت مؤخرًا في سوريا قضية تسييس المساعدات الإنسانية من جديد؛ هذا التسييس الناتج عن عقوبات قانون قيصر التي فرضتها الولايات المتحدة ضد الحكومة السورية والتي أعاقت الجهود الإنسانية في البلاد في أعقاب زلزال 6 فبراير المدمر. ففي الوقت الذي كان يجب على المجتمع الدولي أن يسمح بكل الجهود لمساعدة سوريا، رفضت طائرات الشحن الدولية الهبوط في المطارات السورية بسبب التهديد بفرض عقوبات، الأمر الذي أدى إلى زيادة عدد المتضررين في سوريا؛ فنجد أن أول قافلة مساعدات تصل شمال غرب سوريا من الأمم المتحدة كانت بعد مرور ثلاثة أيام من حدوث الزلزال.
وهذا التسييس له جذور من عقود مضت؛ ففي سبعينيات القرن الماضي تم تأسيس العديد من منظمات المساعدة الإنسانية استجابة للأزمات في بلدان ثالثة، وفي ذلك الوقت، كان عمال الإغاثة يتخذون مواقف حزبية تجاه الجماعات المضطهدة، مثلما حدث في الكارثة الإنسانية للحرب الأهلية النيجيرية والمعروفة باسم “حرب بيافرا” وهي واحدة من أكثر الحروب الأهلية تدميرًا في التاريخ الحديث. فقد انتُقدت المنظمات الإنسانية بسبب مواقفها المتحيزة التي أدت إلى إطالة أمد المعاناة، حيث تلاعب القادة الانفصاليون بالمجاعة وبالغوا فيها، مما أدى إلى جهود إغاثة إنسانية دولية ضخمة، وبدون هذا الجهد، كان من المحتمل أن تنتهي الحرب قبل ثمانية عشر شهرًا تقريبًا مما كانت عليه، وبخسائر أقل بكثير. ولكن من خلال تقديم الدعم المعنوي لنضال بيافران وكونها غطاءً لشحن الأسلحة إلى المنطقة، انتهت الحرب في يناير 1970 بهزيمة بيافران، وبلغ عدد الضحايا نحو مليوني شخص من القتال والجوع والمرض.
وشهد منتصف الثمانينيات، فترة وجيزة من المساعدات المحايدة وغير المتحيزة بشكل عام، عندما تم التفاوض على وصول المساعدات لتخفيف المعاناة في مناطق مثل السودان وأنجولا وإثيوبيا. ولكن في التسعينيات، نشأت علاقة أوثق مرة أخرى بين المساعدات الإنسانية والسياسة كأحد تداعيات الحرب الباردة، إلى جانب توسع بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد ترسخت فكرة التدخل الإنساني، وقامت بتنسيق الإجراءات وطمسها من قبل المنظمات الإنسانية والدولية، والدول والجهات الفاعلة العسكرية. ومع ذلك، واجه تنفيذ هذا النهج مشاكل خطيرة بسبب المشروطية السياسية لسياسة المساعدات الإنسانية.
ففي صربيا على سبيل المثال، رأت بعض الحكومات المانحة أن المساعدات الإنسانية لصربيا تتعارض مع سياساتها الخارجية؛ فالمانحون الغربيون وخاصة أعضاء الناتو كانوا يخشون من توجيه المساعدات لأيدي الحكومة الصربية، وبالتالي تدعم نظام الرئيس الصربي “سلوبودان ميلوسوفيتش”، وتأتي بنتائج عكسية لقرارهم بالتدخل في “كوسوفو”. ورغم تسييس المساعدات، فقد وجدت الحكومات الغربية صعوبة في تنفيذ سياستها الخارجية عندما بدا أن غالبية الشعب الصربي يدعمون حكومة ميلوسيفيتش. وحتى عندما تم تسليم المساعدات الإنسانية إلى صربيا كان هناك تمييز في توزيع المساعدات الإنسانية؛ لصالح المناطق الحضرية في وسط صربيا التي تلقت كميات كبيرة من المساعدات، بينما عانت المناطق التي يسيطر عليها النظام من نقص حاد في المساعدات.
أما عن روندا فقد أدت الإبادة الجماعية من قبل الهوتو للتوتسي في أبريل 1994إلى البحث عن الذات بين الأوساط الدبلوماسية وحقوق الإنسان والمجتمعات الإنسانية، وتبين أن استجابة المعونة كانت ضعيفة التنسيق ومنحرفة سياسيًا ومركزة على الأشياء الخاطئة، فخلال أسوأ حرب أهلية كان هناك فشل في إنشاء مناطق آمنة أو حتى في تقديم خيار إلى مجلس الأمن الدولي للتعامل مع الحرب على المدنيين.
وفي نهاية المطاف، صدر قرار (مجلس الأمن رقم 918 ، في 17 مايو 1994) بإنشاء “مناطق إنسانية آمنة”، كل ذلك في إطار عملية حفظ السلام التي تقوم بها بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا، ولم تقدم أي دولة قوات نظرًا لأن رواندا لم تكن ذات أهمية استراتيجية للمجتمع الدولي، حيث كانت الرغبة الغربية في التدخل في حدها الأدنى باستثناء فرنسا التي سمحت لها الأمم المتحدة بتأسيس عملية الفيروز المؤقتة في غرب رواندا، ومع ذلك كانت المنطقة التي أنشأها الفرنسيون في النصف الثاني من عام 1994 أكثر مساعدة للهوتو الفارين من تلك التي قدمتها للناجين من التوتسي.
أيضًا موقف المجتمع الدولي كان يتسم بالعجز والفشل في منع الإبادة الجماعية في رواندا، بل لعبت بعض الدول دورًا في ازدیاد تفشي القتل واستمرار الإبادة، من بينها الولايات المتحدة التي لم تتدخل من البداية وعدّته صراعًا محليًا ولم تشارك في القوات الأممیة. وأظهرت وثائق ظهرت في أبريل 2019 أن الحكومة الإسرائيلية كانت مُدركة تمامًا لخطورة الأوضاع في رواندا، ومع ذلك كانت مُستمرة في تقديم المساعدات الإنسانية، ودعم أطراف الصراع بالمال والسلاح حتى تستمر الحرب لتحقيق مكاسب سياسية لخدمة مصالح إسرائيل. وهنا يمكننا القول إن للمساعدات الإنسانية جانب مظلم؛ حيث غالبًا ما يساعد التدخل الدولي المتحاربين بدلًا من المدنيين، ويطيل المعاناة، ويشكل تهديدات جديدة للسيادة الوطنية.
ومنذ بداية القرن الحادي العشرين؛ أضيف على تسييس المساعدات الإنسانية السابق ذكرها استخدام الدول المساعدات الإنسانية في الحرب ضد الإرهاب في محاولة ليس فقط للحد من المعاناة، ولكن أيضا لتأمين أراضيها الأصلية عن طريق الحد من الهجرة ومحاولة أو ادعاء إضفاء الطابع الديمقراطي على مناطق بأكملها، مثلما حدث من أفغانستان إلى اليمن.
ذلك بالإضافة إلى فنزويلا والتي هي مثال على ما تم ذكره، عندما أعلن رئيس الجمعية الوطنية خوان جوايدو نفسه رئيسا انتقاليًا لفنزويلا في يناير 2019، وساندته واعترفت بعض الدول كان على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بينما حظى الرئيس نيكولاس مادورو هو الآخر بتأييد عدد من الدول كان أبرزها روسيا والصين وتركيا وإيران، وأدى الصراع الداخلي والتدخلات الدولية إلى استغلال الأطراف الداخلية والخارجية لورقة المساعدات الإنسانية للتأثير على مجريات الأحداث هناك.
وختامًا نقول؛ إن الاعتراف بأن تسييس المساعدة مشكلة منتشرة هو الخطوة الأولى نحو تحقيق توافق في الآراء داخل وخارج المجتمع الإنساني. وهناك حاجة إلى أن تتحدث المنظمات الإنسانية بقوة ضد تسييس المساعدات، وقيام الجهات الفاعلة في مجال المساعدة بتجديد التزامها بالمبادئ الأساسية للإنسانية التقليدية. علاوة على ذلك، فإن الجدل حول دمج المساعدات والسياسة ليس دعوة لرفض السياسة، ولكنها دعوة لتقوية السياسة لدعم الدبلوماسية عند الاقتضاء وتعزيز التركيز على الحلول طويلة الأجل، بينما يُسمح للمساعدات الإنسانية بالتركيز على دورها الرئيس في عدم القيام بأي شيء أكثر من الحد من المعاناة الفورية.
.
رابط المصدر: