المسؤولية العظمى على الحلقة الوسطى

عندما نستعرض ظروف مجتمع يعيش عيشة مأساوية – كالمجتمع العراقي – تنقسم الآراء حول من يتحمل مسؤولية هذه العيشة المأساوية فمنهم من يحمّل قادة المجتمع وزعماءه – الدينيين والسياسيين والعشائريين وغيرهم – هذه المسؤولية باعتبار أن لهم سطوة روحية ونفسية ورسمية ومالية على المجتمع ، فكل مقومات القيادة يحملونها وبالتالي إذا أرادوا أن يصلح المجتمع فسيستخدموا سطوتهم ونفوذهم لإصلاحه فيصلح المجتمع ، وكتحصيل حاصل فإن المجتمع إذا كان فاسداً أو غير صالح فإن القيادة فاسدة – أو غير صالحة – وبالتأكيد هي غير مصلحة أو على أقل التقادير فهي لم تسعَ لإصلاح المجتمع وربما لم ترد إصلاحه ، هذه وجهة النظر الأولى .
أما وجهة النظر الثانية فتقول إن مسؤولية إصلاح المجتمع وإفساده تقع على أفراد المجتمع لأن قادة المجتمع لم يكونوا قادة لولا تأييد المجتمع لهم ، فالقائد مهما امتلك من مقومات للقيادة إذا لم يؤيده أفراد المجتمع سوف لن يكون قائداً بمعنى أن يكون قادراً على أن يؤثر في المجتمع سلباً أو إيجاباً ، فإذا اختار أفراد المجتمع قادة صالحين ومصلحين أصبح مجتمعهم صالحاً أما إذا كان اختيارهم للقادة الفاسدين والمفسدين فبالتأكيد سيكون مجتمعهم فاسداً أو على الأقل غير صالح ، وما يؤيد وجهة النظر هذه الحديث الشريف : (( كيفما تكونوا يولّ عليكم )) فإذا كنتم صالحين كانوا أولياؤكم وحكامكم وقادتكم صالحين لأنكم سوف لن تختاروا غير الصالحين ، فكل فرد يسعى لأن يكون من يلي أمره – الديني والسياسي والاجتماعي – شخص مقارب له من حيث الصلاح والفساد ، فليس من المعقول أن يختار الشخص الصالح قائداً فاسداً والشخص الفاسد بالتأكيد سوف لن يختار القائد الصالح .
هناك وجهة نظر أخرى إما تكون ثالثة أوأنها نتيجة للرأين السابقين ، إذ تحمّل وجهة النظر هذه مسؤولية إصلاح المجتمع بشكل كبير على الطبقة المثقفة والنخب الواعية مع بقاء المسؤولية على الطرفين السابقين – القادة والعوام – ولكن بمرتبة أدنى ، وهذه النظرة لا تتعارض مع سابقاتها بل تؤيدها وتعاضدها وتحل المؤاخذات التي يمكن أن تؤخذ على النظرتين السابقتين ، فمثلاً النظرية الأولى يؤاخذ عليها أن القادة يوجهون ويعطون الحلول ولكن الأمة لا تلتزم بها ويُنظر الى القائد وكأنه شخص بطران مستفيد من طاعة الناس له وبالتالي فحتى لو قام القائد بدوره في الإصلاح فإن الفساد يبقى مستشرياً في المجتمع ، أما النظرية الثانية فيؤاخذ عليها أن عوام الناس عادة تختار القائد الصالح والمصلح أو أصلح الموجودين كحالة فطرية في النفس البشرية أن تختار الأصلح إلا أن المشكلة أن معايير الصلاح غير واضحة لدى عوام الناس فالبعض يعتقد أن القائد الصالح هو الذي يبني البلد حتى لو فسد المجتمع بالأمراض الروحية وآخر يرى القائد الصالح والمصلح هو القائد الديني أو المرجع الديني والبعض يرى القائد الديني هو قائداً فاسداً طبقاً لمقولة الشيوعيين (الدين أفيون الشعوب) ، ومنهم من يرى أن القائد السياسي هو القائد الصالح بشرط أن يرجع الى مرجعية دينية عارفة بأمور زمانها أما إذا كانت المرجعية الدينية التي يرجع لها القائد السياسي غير عارفة بزمانها فسيكون السياسي فاسداً ، ومنهم من يرى أن القائد السياسي سيكون فاسداً إذا رجع الى مرجعية دينية عارفة بأمور زمانها أما إذا رجع الى مرجعية دينية تقليدية فسيكون السياسي صالحاً ، وهناك من يرى أن القائد الاجتماعي كشيخ العشيرة ووجيه المنطقة هو القائد الصالح الذي ينبغي أن يرجع المجتمع له والبعض يرى أن شيخ العشيرة لا يمتلك مؤهلات القيادة وهكذا هي الاختلافات .
أما وجهة النظر التي نريد طرحها فتقول أن الحلقة الوسطى التي تمثل الطبقة المثقفة والنخب الواعية هي الفئة الوحيدة القادرة على حل المؤاخذات على الطرفين فتكون جسراً من القادة الى الأمة وبالعكس ، فعندما يبين القادة حلولاً وينبغي أن يطبقها المجتمع حتى يتخلص من وضعه السيء الى مستوى أفضل تقوم الحلقة الوسطى  – والتي تمثل الطبقة المثقفة والنخب الواعية – بنقل هذه الحلول وتوضيحها وتفسير غموضها ومبرراتها وجدواها العملية الى الأمة باعتبار أن هناك فاصل – إما علمي أو معرفي أو طبقي أو غير ذلك – بين عوام الأمة وقادتها ، والحلقة الوسطى تكون أكثر فهماً لقادتها وأكثر قرباً منها وأكثر تأثيراً في عوام الأمة لأنهم أيضاً أقرب وأعرف بهمومهم من القادة لاعتبارات وظروف ذاتية وموضوعية من قبل الطرفين ، فمصاديق رؤى القادة تستطيع الحلقة الوسطى أن تعيها وتطبقها على الأمة وفي الوقت نفسه تنقل معاناة الأمة وأسبابها الحقيقية الى قادتها فيتمكن القائد من إيجاد حلول مناسبة تقلع المشكلة والمعاناة من جذورها ، فيتحقق الإصلاح المنشود الذي يبحث عنه القائد والأمة .
ويمكن أن تبين الحلقة الوسطى القيادة الحقيقية الواجب اتباعها لأن من المشاكل التي يعانيها المجتمع هو اختلال صورة القيادة في أنظار عوام المجتمع وبالتالي عزوفهم عن الالتزام بمواقف القيادة وتوجيهاتها ، وقد يكون عزوف الأمة ذلك والصورة المشوهة عن القيادة جاء نتيجة التصرف السيء للحلقة الوسطى والذي يسيء للقيادة لأن الأمة ترى القيادة من خلال أتباعها وخصوصاً الحلقة الوسطى ، لهذا السبب نجد انحساراً في اتّباع الأمة لقياداتها – خصوصاً الدينية – بعد 2003 لأن الحلقة الوسطى أقحمت نفسها في مواقع المسؤولية ليست أهلاً لها وبالتالي فإن أي تصرف ٍسيءٍ يحسب على القيادة الدينية التي ترجع لها وهذا ما دفع بعض القيادات الدينية ترك الحلقة الوسطى بلا دعم ولا ارتباط حتى لا تشوّه صورتها – أي القيادة – وإن كان ذلك أدى الى إرباك وضع الأمة أكثر من إرباكها لوضع الحلقة الوسطى ، لذا فعلى الحلقة الوسطى مسؤولية مضاعفة من الجهتين من جهة القيادة كونها تنقل صورة الأمة إليها بأمانة لتترتب عليها مواقف وحلول وتوجيهات ومن جهة الأمة كون الأمة ترى القيادة من خلال الحلقة الوسطى فإذا أحسنت اعتبرت الأمة القيادة محسنة وصالحة وأذا أساءت وأفسدت اعتبرت الأمة القيادة سيئة وفاسدة والسبب هو تصرفات الحلقة الوسطى .
ومصطلح (الحلقة الوسطى) يمكن أن نطبقه على أية شريحة تربط الأعلى بالأدنى فمثلاً على الصعيد الديني تكون المرجعيات الدينية هي الحلقة الوسطى بين مصادر التشريع (القرآن والسنة) من جهة وعموم الناس من جهة أخرى ، وكلما قدّمت المرجعيات الدينية نماذج صالحة ومصلحة من القيادات أعطت صورة ناصعة عن الدين الذي يمثله (القرآن والسنة) ، وكلما فشلت في تقديم نماذج جيدة عكست صورة فاشلة عن الدين لذا فهي – أي المرجعيات الدينية – تتحمل مسؤولية عظمى في نقل الدين من الأعلى الى الأدنى وهداية المجتمع ، وكلما وجدنا المجتمع بعيداً عن تعاليم الدين فهذا يعني أن هناك تقصير في الحلقة الوسطى سواء كانت هذه الحلقة الوسطى هي المرجعيات الدينية أو الطبقة المثقفة والنخب الواعية .
وقد نجح الأنبياء والرسل وأئمة أهل البيت عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه في أن يمثلوا الحلقة الوسطى كل بحسب تكليفه ودوره ومهمته ومسؤوليته ، لذا نجد الدين غضاً طرياً رغم مرور أكثر من 1400 سنة على نزوله بل وزيادة في أعداد المتأثرين به رغم التشويهات التي رافقته والصورة المظلمة التي أُلصِقت به مثل الصور التي صوّرها القاعدة ومن لفّ لفهم الذين شوهوا الإسلام ونبي الإسلام وتعاليم الإسلام وحكمة التشريع .
ومع ذلك نجد إخوتنا المثقفين والنخب منشغلين بأمورهم الشخصية وتاركين المجتمع صلح أو فسد ، اللهم وفقنا ووفقهم لتأدية واجباتنا ومسوؤلياتنا إنك أنت السميع العليم .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M