تحركت مصر خلال الأيام الماضية على مستويات متعددة لدفع عملية التسوية السياسية في ليبيا إلى الأمام وفتح الطريق لإجراء انتخابات يمكن أن تطوى جانبًا مهمًا من الصفحات القاتمة في الأزمة الممتدة، غير أن هناك دوائر داخل ليبيا وخارجها لا تتوانى عن وضع العصا في عجلات أي حلول منتجة، وترى أن تجميد الحالة على ما هي عليه الآن وعدم مبارحتها الأرض المحروقة التي تقف عليها يحقق مصالحها.
لفتت الخطوات المصرية الأخيرة واللقاءات التي عقدت بين قادة المجلس الرئاسي والجيش الوطني، ومجلسي النواب والأعلى للدولة، في القاهرة، الانتباه إلى أهمية تحريك المسارات التي تعطلت الفترة الماضية، خاصة بشأن القاعدة الدستورية وتوحيد المؤسسة العسكرية وتوفير قوة حشد لاستئناف التسوية بلا مراكز قوى تعرقلها.
بدأت الحوارات بين جهات رئيسة في ليبيا تحظى بشعبية متفاوتة تتوالى وأشاعت أجواء من الأمل حيال وضع حد لما شهدته الأزمة الليبية من تغيرات سلبية تحاول بعض القوى تثبيتها كأمر واقع، باعتبارها تمثل خيارًا للاستمرار في اللعبة السياسية أو العسكرية العطنة، أو الاثنتين معًا، وكل ما تحملانه من تبعات قاتمة.
في الوقت الذي نشطت فيه القاهرة لتحريك المياه عبر الاجتماعات التي عقدتها ويمكن أن تعقد المزيد منها قريبا، لم تجد المجتمع الدولي يقدم لها الدعم الكافي لتجاوز بعض العقبات التي تحتاج إلى إرادة كبيرة، لأن هناك ملفات من الصعوبة حلها ما لم يكن هناك توافق بين قوى مؤثرة لا تزال محكومة برؤيتها القاصرة على تحقيق أغراضها دون مراعاة لما يمكن أن يجلبه ذلك من إطالة في عمر أزمة تريد بعض الدوائر الحفاظ على تذبذبها، صعودًا وهبوطًا، ومنع وصولها لحالة تقودها إلى استقرار دائم.
ترفض غالبية القوى الدولية والإقليمية التي لها اهتمامات ومصالح مباشرة في ليبيا توفير الدعم اللازم لتفكيك الحلقات التي تطوق الأزمة مادامت حصيلتها النهائية لن تؤدى إلى تحقيق أهدافها الخفية، وترى أن توسيع نطاق التصعيد ينطوي على خطر، والمزيد من الهدوء الذي يؤدى للتسوية قد يحمل خطرا أكبر.
إذا كان الخيار الأول، أي التصعيد، يمثل تهديدًا لتوازنات القوى التي أقامتها في ليبيا، فالثاني، أي التسوية، سوف يخل بالمعادلات التي تريدها من خلال تصعيد قوى محلية بعينها تعمل للحفاظ على مصالحها الحيوية أو وضع المطبات في الطريق، وهي حالة باتت قريبة من عقل القوى المنخرطة عن جدارة في الأزمة الليبية، وما لم تحقق أهدافها بارتياح لن تسمح للآخرين بتحقيق أهدافهم بأى وسيلة.
يبدو أن الدوران حول قاعدة اللاسلم واللاحرب الشهيرة صيغة أثيرة لدى المجتمع الدولي في كثير من الصراعات، وأبرزها ليبيا، فلم تعد معظم القوى المعنية مشغولة بطرح مبادرات أو عقد اجتماعات ولقاءات لتصويب مسارات الأزمة، كما كان في أوقات سابقة، ربما لانشغال العديد منها بالحرب الروسية الأوكرانية وتوابعها والتعقيدات الاقتصادية التي يمر بها العالم، ما جعل الأزمة الليبية بعيدة عن جدول أعمالهم، وبالتالي عدم التحرك للعمل على تسويتها ولجم انفلات القوى المحلية.
تتفاوت فرق المستفيدين من استمرار الجمود بين من هم يعجزون فعلا عن تقديم مبادرة قابلة للتطبيق عقب سلسلة من المبادرات منيت بالفشل، وبين من يرتاحون للتذبذب ولا يريدون مبارحته، وفي الحالتين لم يظهر المجتمع الدولي دعما ملموسا لمصر التي ترفض الاستسلام للصورة الراهنة وما يمكن أن تفضي إليه من زيادة في الغموض والمصير المجهول بسبب ما يظهر من لا مبالاة في حسم بعض الأمور، في مقدمتها الموقف من حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
تحولت هذه الحكومة إلى مشكلة حقيقية، فلا هي موجودة في التحركات التي تقوم بها مصر لإرساء أسس التسوية والعبور إلى الانتخابات، ولا هي تكف عن نسج تربيطاتها أملا في بقاء الوضع على ما هو عليه وإغلاق باب التسوية المنتجة، لأن الإعلان عن خريطة سياسية جديدة يعنى انتهاء دورها عمليا.
تضع هذه المسألة على عاتق القوى الكبرى تحديد موقفها من حكومة تصر على الاستمرار بلا مراعاة للتطورات التي تتجاوزها عمليا، وتجد من المرونة التي تبديها معها بعثة الأمم المتحدة وسيلة لغاياتها، كأن المنظمة الأممية والقوى المتحكمة في مفاصل القرار الدولي لا تريد أن تحمل عبء تنفيذ خريطة طريق تتخطى رواسب فترة تحكمت فيها المستشارة السياسية السابقة للأمم المتحدة السفيرة ستيفاني وليامز.
من مصلحة المجتمع الدولي توفير الدعم لتحركات مصر، التي لا تريد أن ينخر الفراغ السياسي في ليبيا ويقودها إلى خط يصعب الرجوع عنه، فقد وفرت اجتماعات القاهرة الأخيرة زخما يقلل من تطبيق سيناريوهات غامضة يفكر البعض من اللاعبين على الساحة طرحها في توقيت معين للحفاظ على مكاسبهم، بلا اعتداد بما تحمله من تهديدات للحفاظ على وحدة واستقرار ليبيا.
أمام القوى الشعبية فرصة للخروج من الشرنقة وكسر الطوق الذي تسعى بعض الجهات لتمتينه حول رقبة ليبيا لتستمر في أزمتها بلا أفق إيجابي عبر الالتفاف حول الخطوات التي تسهم في التسوية وإجراء الانتخابات، فالأولى القاطرة التي تضمن تنفيذ ما يتمخض عن الثانية من نتائج وتحتاج إلى مساندة شعبية يؤمن مؤيدوها أن طريق الخلاص يجب يبدأ من رفض الجمود ومنع المستفيدين من جنى ثمار تصب في خانة تعزيز مصالحهم وليس مصالح ليبيا.
نقلًا عن جريدة الأهرام
.
رابط المصدر: