كل من الطرفين يسمونهم «المتطوعين»، كما يشتركان معًا في إلقاء الاتهام، كل منهما على الآخر، باستجلاب واستخدام «مقاتلين» أجانب، ويظل المؤكد حتى الآن في تصنيف هويتهم، أنهم من خارج المنظومة العسكرية والأمنية الرسمية للدولتين.
أوكرانيا الرسمية أعلنت بعد أيام قليلة من عمر الأزمة، عن فتح الباب لما أسمته «تطوعًا» للحرب ضد الجيش الروسي، ولقيت تلك الدعوة تجاوبًا ودعمًا عبر عديد من الدول الأوروبية وهذا لافت، وقبلها كانت موسكو أسرع في ترتيب أوضاع ومصادر المقاتلين المحتمل الزج بهم فى ساحة القتال، حينما تصل وفق تقديرها إلى مرحلة «حرب المدن» التي أثبت فيها المقاتلون، غير النظاميين، مهارة ومرونة قادرة على تحقيق أهداف السيطرة والتأمين، وقبلها خوض معارك البنايات وتنفيذ مهام الاغتيال والقتل بشراسة بهدف «الترويع»، الذى يظل السلاح النافذ بحق الآلاف من السكان المدنيين لتلك المدن.
الثابت أن روسيا تجهزت لهذا الأمر من وقت مبكر، ليس من عمر الأزمة الراهنة، إنما منذ اندلاع القتال في أوكرانيا عام ٢٠١٤ بين السلطة في كييف وانفصاليين موالين لروسيا في إقليم الدونباس، الذى يضم جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك. حينها استعان الجانب الروسي بالمقاتلين الشيشان كي يدعموا الانفصاليين، من أجل الوصول بالقوات المحلية إلى فرض سيطرة سريعة على كامل الحدود التاريخية للإقليم، لكن هذا لم يتحقق حتى تاريخ اعتراف بوتين الشهير باستقلالهما قبيل الحرب الحالية بـ«٤٨ ساعة».
حيث ظلت تلك الفترة بين التاريخين ٢٠١٤ و٢٠٢٢ تشهد حربًا شرسة متقطعة على أراضي الدونباس، خلّفت ١٥٠ ألف قتيل من الجانبين ومعاهدتي مينسك ١ و٢.
في عام ٢٠١٥ بعد عام واحد من اشتعال القتال في الدونباس، تدخلت روسيا عسكريًا على خط الأزمة السورية بطلب من النظام السوري كي يكبح جماح التنظيمات والميليشيات المسلحة، التي كانت حينها تمثل تهديدًا وجوديًا للدولة السورية. منذ تلك الخطوة حملت وحدات من الجيش الروسي، وعناصر استخباراتية، فيما تأهلت قاعدتا «حميميم، وطرطوس» لاستقبالهم كي يبدأوا مهام استعادة السيطرة على الأراضي، التي كان النظام السوري قد فقدها، مما سمح للقوات الروسية بالانخراط في مشهد الموزاييك السوري المزدحم بالمكونات المسلحة غير النظامية. وفرت هذه المهمة للجانب الروسي قنوات اتصال ليست بالقليلة مع تنظيمات وكيانات، عقدت عناصر الاستخبارات الروسية معها طوال تلك السنوات الماضية عديدًا من الصفقات.
الآن يمثل كلا المكونين- على وجه التحديد- المقاتلين الشيشان وعناصر الميليشيات السورية، الذراع غير النظامية المحتملة لروسيا في الحرب على أوكرانيا. وربما تدخل عناصر «شركة فاجنر» لاحقًا على خط المشاركة في مهام تلك الحرب المركبة، أو أن يوكل إلى عدد محدود من خبرائها إدارة عمل الكيانين المشار إليهما، وهذا أقرب للواقع العملياتي حتى الآن. فالرئيس الشيشاني رمضان قاديروف تعهد بحشد ما يتجاوز ١٢ ألف مقاتل، للانخراط في الحرب وتلقى مهام من قيادات الجيش الروسي، الدفعات الأولى منهم وصلت بالفعل إلى محيط «تشيرنوبل» في الشمال الأوكراني قادمين من بيلاروسيا، وآخرون تمركزوا في شبه جزيرة القرم، استعدادًا للقيام بمهمة إسناد الاستيلاء الروسي المتوقع على مدينة وميناء «أوديسا» الاستراتيجي في الجنوب الأوكراني. الصور الفوتوغرافية والمقاطع الحية للوحدات الشيشانية والسرايا التي تضم البعض من هؤلاء المقاتلين، نشرت في كثير من وسائل الإعلام العالمية، بعضها كان ضمن الرتل العسكري الروسي الطويل الذى يطوق العاصمة كييف، مما يعنى أن هناك استعانة قد بدأت ومهام جرى توزيع البعض منهم إليها.
في جانب أوكراني رسمي مقابل، أبدى الرئيس زيلينسكي من اللحظات الأولى رغبة محمومة لتشكيل ما أسماه بـ«الفيلق الدولي»، لضم المقاتلين الأجانب من مختلف بلدان العالم لم يستثن أحدًا. ووفقًا لما أعلنه الجنرال «كيريلو بودانوف» قائد مديرية المخابرات الرئيسية في وزارة الدفاع الأوكرانية، أعرب أكثر من «٢٠ ألف متطوع» معظمهم من المحاربين القدامى وينتمون إلى «٥٢ دولة»، عن رغبتهم في الانضمام للقتال في أوكرانيا ضد الروس، وأسند الرئيس الأوكراني لوزارة الدفاع مهمة استقبال وإدارة عملهم خلال مراحل القتال.
هذا الرقم الضخم المتداول بعد أيام من عمر هذا الصراع، مثل أول مصدر له الإعلانات التي نشرت على شبكة الإنترنت في المملكة المتحدة وأوروبا والولايات المتحدة، تقدم طلبات وعروض على الجنود ذوى الخبرة للانضمام إلى القتال في أوكرانيا ضد الغزو الروسي.
أشهر تلك الإعلانات وأكثرها لفتًا للانتباه ما جاء على موقع «سايلنت بروفاشينال» (Professionals Silent) كنموذج لعقد للقتال والدفاع في أوكرانيا، مقابل أجر يومي يتراوح بين ١٠٠٠ و٢٠٠٠ دولار في اليوم الواحد، بالإضافة إلى المكافآت.
هذا بالطبع وجد آذانًا صاغية من الكثيرين من المتطرفين اليمينيين والمتعصبين القوميين أصحاب جنسية البلدان الأوروبية. وقد أعلن بعض «الميليشيات اليمينية» المتطرفة بالفعل عن أنه يخطط لاستغلال الحرب الدائرة الآن، كون عناصرها الأكثر حماسًا لخوض قتال مفتوح كما هو الحال في أوكرانيا، ولأن هؤلاء عادة ما يفتقرون إلى العائلة أو النسق الاجتماعي المنضبط على عكس مواطني البلدان المضيفة، هذا يفتح الباب أمامهم لارتكاب الفظائع دون مخاوف من ردة فعل المحاسبة أو الانتقام.
المسؤولون الأوكرانيون بدأوا بالفعل الإفصاح بأن المجموعات الأولى من هؤلاء المقاتلين «المتطوعين» وفق تسميتهم، موجودة بالفعل في ساحة المعركة، حيث هناك مجموعة جديدة تذهب إلى مناطق القتال كل يوم، بل هناك تحديد لجنسيات بعينها وصلوا من دول السويد وبيلاروسيا وليتوانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والمكسيك والهند ودول أخرى. ويتضارب موقف الدول الغربية في التعاطي مع هذا الأمر، ففي حين صدم الكثيرين دعم وزيرة خارجية المملكة المتحدة «ليز تروس» المواطنين البريطانيين الذين سيستجيبون للدعوة للقتال فى أوكرانيا، حيث تظل من وجهة نظرها مثل هذه الجهود الفردية مفهومة ومطلوبة.
الوزيرة البريطانية لا تمثل استثناء حين يشاركها بعض الأوروبيين في تأييد هذه الاستجابة، بل يقومون بتوفير الدعم المالي والسلاح باعتبار الدوافع في كثير من الأحيان تكون بطولية.
على جانب آخر بدأ بعض البلدان داخل هذا المعسكر تسجيل تحفظه على استحياء، مثلما فعلت الولايات المتحدة التي حث البنتاجون فيها المواطنين، بمراعاة خطورة الإقدام على هذا الفعل، لكن ليس لأنه مهدد طويل المدى، إنما فقط لأن الأوضاع الأمنية في أوكرانيا قد لا تكون ملائمة لخوض تجربة قتال من هذا النوع!.
كل من الجزائر والسنغال وبعض الدول التي لم يعلن عنها، وجهت احتجاجًا ورفضًا رسميًا عبر وزارات خارجيتها للسفراء الأوكرانيين الممثلين فى عواصمهم، بعدما ذهبت السفارات إلى إصدار إعلانات وتقديم عروض قتال مشابهة لضم أبناء تلك الدول وفتح الباب أمامهم.
سطوة المشهد العام للحرب بتعقيداتها وتحدياتها، والضغوط المركبة التي يتعرض لها الطرفان كل حسب السيناريو الخاص به، جعلهما يقفزان على محددات الأمن والاعتبارات الأخلاقية والإنسانية، والولوج بسرعة تجاه أكثر مشاهد تلك الحرب إظلامًا باستجلاب هؤلاء المرتزقة، والتوسع فى تشكيل كيانات تضمهم وتسلحهم وتذيقهم الطعم الحرام للقتل والدمار وفائض الوحشية. حيث تظل كل التجارب السابقة الماثلة في الذاكرة تكشف عن أن هذا الباب الشيطاني لا يمثل سوى العبث بأخطار «منضبة»، لن تجد لها طريقًا للعودة، وستعجز عن الانحسار والتلاشي القريب حتى وإن أرادت.