محمد محفوظ
أولاً: في معنى المواطنة:
يحتل مفهوم المواطنة موقعاً مركزياً في الفكر القانوني والدستوري المعاصر. إذ إن المواطنة، بما تشكل من شخصية اعتبارية لها حقوق وواجبات، وهي أحد الأعمدة الرئيسية للنظريات الدستورية والسياسية المعاصرة. إذ إن الفكر السياسي الحديث يعتمد في البناء القانوني للوطن على هذا المفهوم ويحدد له جملة من الإجراءات والاعتبارات. لذلك فإننا نعتقد أن تطوير واقعنا السياسي والقانوني اليوم، مرهون إلى حد بعيد على قدرتنا على المستويين النظري والعملي لبلورة هذا المفهوم كحقوق وواجبات في الفضاء الاجتماعي والوطني.
ومن الطبيعي القول في هذا الإطار: إن المجال العربي اليوم، لا يمكن أن يخرج من أزماته وتوتراته الداخلية، إلا بإعادة الاعتبار في السياسات والإجراءات والتشكيلات إلى مفهوم المواطنة والعمل على صياغة فضاء وطني جديد، قوامه الأساسي ومرتكزة الرئيسي هو المواطنة بصرف النظر عن المنابت الأيديولوجية أو القومية أو العرقية. إذ إن التنوع المتوفر في هذا الفضاء بعناوين متعددة ومختلفة، لا يمكن أن يتوحد في الفضاء الوطني، إلا بمواطنة حقيقية، يمارس كل مواطن حقه ويلتزم بواجبه دون مواربة أو مخاتلة. فالمواطنة بكل ما تحتضن من متطلبات وآليات هي حجر الأساس في مشروع البناء الوطني الجديد.
وذلك لأن الكثير من الأزمات والتوترات المتوفرة في العديد من البلدان العربية، هي في المحصلة النهائية من جراء تغييب مفهوم المواطنة والإعلاء من شأن عناوين خاصة على حساب الإطار الوطني العام. إن هذا النهج الذي غيّب أو ألغى المواطنة لصالح لاءات خاصة، هو -عبره وعبر متوالياته وتأثيراته- الذي فاقم التوترات وزاد من الاحتقان السياسي وأدى إلى هشاشة الاستقرار الاجتماعي في العديد من الدول. وأفضى إلى خلق جزر اجتماعية معزولة عن بعضها البعض، لا يجمعها إلا الاسم والعنوان العام.
من هنا فإن الخطوة الأولى في مشروع الحل والإصلاح هي تأسيس العلاقة بين مكونات المجتمع والدولة على أسس وطنية تتجاوز كل الأطر والعناوين الضيقة. بحيث يكون الجامع العام لكل المكونات والتعبيرات والأطياف هو المواطنة. التي لا تعني فقط جملة الحقوق والمكاسب الوطنية المتوخاة، وإنما تعني أيضاً جملة الواجبات والمسؤوليات العامة الملقاة على عاتق كل مواطن.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن تكون رابطة المواطنية رابطة قسرية ـ قهرية، وإنما هي رابطة طوعية ـ اختيارية قائمة على الاختيار الحر والتعايش السلمي بين جميع المكونات والتعبيرات. وتأخذ هذه الرابطة فعاليتها وقدسيتها من طبيعة العقد الوطني والمضامين السياسية والثقافية التي يتضمنها ويحتضنها.
فإطار المواطنة في المنظور الحضاري، يقوم على مفهوم الجماعات الحرة والمتوافقة والمتعايشة بالتراضي والوئام والشراكة. والتجارب السياسية في العديد من المناطق والمجالات الحضارية، أثبتت أن دحر الخصوصيات الذاتية أو الجماعات الفرعية لصالح الإطار العام، لا يفضي إلى وحدة ومواطنة سليمة، بل تدفع محاولات الإقصاء والدحر إلى تشبث كل جماعة بذاتها وخصوصياتها وتنعزل نفسياً وشعورياً وثقافياً عن الجماعات الأخرى.
لذلك فإننا نعتقد أن خلق مفهوم المواطنة الجامع والحاضن لكل الجماعات والتعبيرات، لا يتأتى بإفناء الخصوصيات الثقافية أو إقصائها وتهميشها، وإنما عبر توفير النظام القانوني والمناخ الاجتماعي ـ الثقافي الذي يسمح لكل التعبيرات والحقائق الثقافية بالمشاركة في إثراء الوطن والمواطنة. وهذا لا يعني التشريع للفوضى أو الميوعة تجاه الجوامع المشتركة.
وإنما يعني وبعمق أن الالتزام بالجوامع والمشتركات الوطنية ومقتضياتها، لا يتأتى إلا بالحرية والعدالة ومتوالياتها التي تنعكس في السياق الوطني ومستوى التزام الجميع بالوحدة والاندماج الوطني.
ومن خلال هذه الممارسات المنضبطة بضوابط العدل والحرية، يتم تطوير قواعد الوحدة والإجماع الوطني. ودستور المدينة المسمى تاريخياً بصحيفة المدينة التي صاغ بنودها رسول الإسلام، هي عبارة عن معاهدة قانونية جمعت كل الأطراف وتعبيرات المجتمع على أساس دستوري لكل طرف حقوق وواجبات ومسؤوليات. إذ حددت الصحيفة مجموع المبادئ والقواعد والمسؤوليات التي على أساسها قامت هذه الرابطة وكيف يتم الدفاع عنها. إذ جاء فيها: (وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم، وأن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم وإثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين. وإنما أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم. وإن المؤمنين بعضهم دون الناس).
فالنموذج الذي تُرسي دعائمه صحيفة المدينة يتجه إلى تأسيس الوحدة على قاعدة الاختيار الحر والرابطة الطوعية القانونية بين تعبيرات وقوى مجتمعية تتساوى في الحقوق والواجبات، وتتعاون على حماية حرياتها ومكاسبها الوطنية والاجتماعية.
فليس من شروط المواطنة الاتفاق في الرأي أو الاشتراك في الدين أو المذهب أو القومية. إن مفهوم المواطنة يستوعب كل هذه التعدديات والتنوعات، ويجعل المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي مؤاتياً لكي تمارس كل هذه التعدديات دورها ووظيفتها الحضارية والوطنية في إثراء الواقع الوطني ومده بأسباب الاستقرار والانسجام الاجتماعي.
وتُرتكب جريمة كبرى بحق الوطن (أي وطن)، حينما يتم التعامل مع مفهوم المواطنة على مقاس واحد وفي حدود الاشتراك في أحد العناوين السالفة.
إن المواطنة لا تُبنى بدحر خصوصيات المواطنين أو تهميش بعضهم لدواعٍ ومبررات معينة، وإنما هذا المفهوم يُبنى كحقيقة واقعية باحترام الخصوصيات وفسح المجال القانوني والثقافي لكل التعدديات والتعبيرات للمشاركة في بناء الوطن وتعزيز قوته وإنجاز مشروعه التنموي والحضاري. وكل ثقافة تؤسس للتمايز أو التفريق بين أبناء الوطن الواحد على أسس تاريخية أو فكرية وسياسية، هي ثقافة تساهم بشكل أو بآخر في تقويض أركان الوحدة الوطنية، وتدق إسفيناً في مشروع الوطن والمواطنة.
فالمواطنة كمفهوم وإجراءات وحقائق، هي الإبداع الإنساني الدستوري الذي يضمن لجميع المكونات والتعبيرات المشاركة في إدارة الشأن العام وإثراء الوطن على مختلف الصعد والمستويات.
فالوطن الذي تتعدد انتماءات مواطنيه، لا خيار أمامه لضمان الوحدة والاستقرار إلا تأسيس الأوضاع القانونية والسياسية على مبدأ المواطنة ومقتضياتها الدستورية والسياسية. بحيث تكون مؤسسة الدولة محايدة تجاه انتماءات مواطنيها.. بمعنى أن انتماء المواطن الديني أو القومي، لا يزيد من فرصه ومكاسبه وامتيازاته، كما أنه ليس سبباً لانتقاص حقوقه أو فرصه في المشاركة في الحياة العامة.
فالتعدد لا يمكن أن يدار في الإطار الوطني إلا بمواطنة تضمن للجميع حقوقهم، وتفسح المجال أمامهم للالتزام بواجباتهم والقيام بمسؤولياتهم.
وإرساء مبدأ المواطنة في نظام العلاقات بين أبناء الوطن الواحد وبينهم وبين مؤسسة الدولة، لا يلغي الروابط والمشتركات الأخرى، وإنما يصونها ويحترمها ويوفر لها قنوات المشاركة في إثراء الوطن وتنمية المضامين الحضارية والأخلاقية لدى المواطنين.
فالالتزام بمقتضيات المواطنة لا يتناقض مع الالتزام الديني أو القومي، بل هو الفضاء الاجتماعي الذي نتمكن فيه من ترجمة التزاماتنا الدينية والقومية. لأن التطلع الديني يتجه إلى التعاون والتضامن وإشاعة الوئام والاستقرار وتحمل المسؤولية العامة، ولا ريب أن مبدأ المواطنة يتضمن هذه التطلعات ويعمل على إنجازها في الواقع الخارجي. كما أننا اليوم لا يمكن أن نلتزم بمقتضيات انتمائنا القومي إلا ببناء أوطاننا على أسس الحرية والعدالة والمساواة. وبوابتنا لذلك هي المواطنة بكل حقائقها ومضامينها الدستورية والسياسية والحقوقية. فهي جسر التزامنا الديني والقومي في حدود الإطار البشري الذي يجمعنا في دائرة الوطن الواحد.
والثالوث القيمي الذي يستند عليه مبدأ المواطنة، هو العدالة والحرية والمساواة. إذ إن المواطنة تقتضي أن جميع المواطنين على حد سواء في الفرص والمكاسب والمسؤوليات، كما أن النظام الإداري والتنفيذي والإجرائي، يستهدف تحقيق العدالة بين الجميع بدون تحيز مسبق. وهذا يقتضي أن يكون الجميع تحت سلطان القانون. لأن سيادة القانون، هي التي تحقق معنى العدالة في الحياة العامة. ويبقى الحاضن الأكبر لمبدأ المواطنة هو الحرية. حيث ينعم المواطن بصرف النظر عن أصله ومنبته بكل الحقوق والآفاق التي يبلورها ويمنحها نظام الحرية في الواقع الاجتماعي.
وبهذا المنظور تتجلى حقيقة لا لبس فيها وهي: أن المواطنة ليست شعاراً مجرداً عن حقائق ووقائع الحياة. وإنما هي منظومة قيمية وإدارية وسياسية، تتجه بكل إمكاناتها لمنح المواطن كل حقوقه، وتحفزه للالتزام بكل واجباته ومسؤولياته.
فالثالوث القيمي (العدالة ـ الحرية ـ المساواة) هو الذي يمنح مفهوم المواطنة معناه الحقيقي، ويخرج المواطن من حالته السلبية المجردة إلى مشارك حقيقي وفعّال في كل الأنشطة الوطنية.
وبهذا يتضح أن المواطنة هي حقوق وواجبات، منهج وممارسة، آفاق وتطلعات، حقائق دستورية وسياسية، ووقائع اجتماعية وثقافية.
والتقدم الوطني المأمول اليوم، ينطلق من إرساء حقائق المواطنة القانونية والسياسية والثقافية في الفضاء الوطني.
وذلك لأنه سبيل الاستقرار والخروج من محن الواقع وأزماته المتلاحقة. ولكي نصل إلى هذا الواقع الذي تكون علاقاتنا القانونية والاجتماعية والسياسية على قاعدة مبدأ المواطنة الذي نتجاوز من خلاله كل عناوين الاستقطاب الأخرى التي لا تصل في استيعابها وجمعها إلى مستوى المواطنة، نحن بحاجة إلى التأكيد على العناصر التالية:
1ـ لا يمكن أن ننجز مبدأ المواطنة في فضائنا الاجتماعي والوطني، إلا بتوسيع رقعة ومساحة المشاركة في الشأن العام، وتوفر استعدادات حقيقية عند جميع الشرائح والفئات لتحمل مسؤوليتها ودورها في الحياة العامة. وذلك لأنه كلما توسعت دائرة القاعدة الاجتماعية التي تمارس دوراً ووظيفة في الحياة العامة، اقتربنا أكثر من دائرة المواطنة في علاقاتنا الداخلية.
وهذا بطبيعة الحال، يتطلب إزالة كل المعوقات التي تحول دون الممارسة وتحمل المسؤولية في الحياة العامة. فحينما تكون الحياة العامة بكل مجالاتها وحقولها، متاحة لكل كفاءات الوطن وطاقاته، ويتم التنافس النوعي والحقيقي في هذا المضمار، فإن هذا يطور الحياة العامة، ويؤسس لمؤسسات أهلية ـ مدنية فاعلة وتساهم بشكل أساسي في تنمية وتطوير الأوضاع العامة. وعلى هذا نقول: إن تشجيع المشاركة في الحياة العامة، وتذليل المعوقات الخاصة والعامة التي تحول دون ذلك، سيقود إلى بناء مؤسسات مجتمعية متينة وقادرة على القيام بأدوار حيوية في الشأن العام.
وهذا بدوره سيعمق في الفضاء الاجتماعي مبدأ المواطنة، وسيوفر الإمكانية الفعلية للانعتاق من أسر العناوين الضيقة. حيث إن دينامية المشاركة وفعالية المؤسسات الأهلية ـ المدنية، سيؤسس لوقائع اجتماعية وثقافية جديدة، تُنضج جميع الظروف والشروط التي تؤدي إلى إرساء معالم المواطنة في الفضاء الاجتماعي.
فحيوية الفضاء الاجتماعي وفعالية النخب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كل هذا يساهم في بناء واقع اجتماعي ينشد التطور باستمرار، ويتجاوز كل العقبات التي تحول دون إقرار مبدأ المواطنة في النظام الاجتماعي والسياسي.
2ـ إن تطوير نظام العلاقات الاجتماعية والثقافية بين جميع مكونات وتعبيرات وحقائق المجتمع، من أهم الشروط والروافد التي تفضي إلى إرساء مبدأ المواطنة في واقعنا بكل مستوياته. إذ إن أي نزعة إقصائية أو عدائية، فإنها تساهم في هدم الكثير من العناصر المشتركة التي تجمع بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.
لذلك من الضروري أن نولي جميعاً اهتماماً فائقاً بنظام العلاقات والتواصل بين مكونات المجتمع، والعمل على تنقيته من كل عناصر الإقصاء والتهميش وسوء الظن وغياب أشكال الاحترام المتبادل. فالمجتمع القادر على بناء مواطنه حقيقية، هو ذلك المجتمع الذي يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر، ويتحلون بقيم التسامح واحترام التعدد والتنوع وحقوق الإنسان، ويعملون معاً لتوطيد أركان الفهم والتفاهم، والتلاقي والتعاون والأمن والاستقرار.
فـ (فكرة المواطنة كتحالف وتضامن بين أناس أحرار متساوين في القرار والدور والمكانة، ومن رفض التمييز بينهم على مستوى درجة مواطنيتهم وأهليتهم العميقة لممارسة حقوقهم المواطنية بصرف النظر عن درجة إيمانهم التي لا يمكن قياسها وقدرتهم على استلهام المبادئ والتفسيرات الدينية، وكذلك ممارسة التفكير واتخاذ القرارات الفردية والجماعية، سوف تولد السياسة بمفهومها الجديد). (1).
فتمدن علاقاتنا الداخلية وتطوير مستوى التواصل والتعارف بين مكونات المجتمع، يفضي إلى تحررنا جميعاً من كل أشكال الانكفاء والمواقف الجاهزة والمعلبة من الآخر.
3ـ تفعيل سلطة القانون وتجاوز كل حالات ومحاولات التحايل على القانون؛ لأنه لا مواطنة بدون قانون ينظم العلاقة والمسؤوليات، ويحدد الحقوق والواجبات، ويردع كل محاولات التجاوز والاستهتار. فـ (من أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضاً ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف). (2).
ولنتذكر دائماً أن الاختلاف الديني أو المذهبي أو القومي والعرقي، لا يحول دون الانتساب إلى مواطنه مشتركة، فهي مصدر الحقوق ومناط الواجبات والمسؤوليات.
ثانياً: المواطنة والثقافة الوطنية:
ثمة علاقة في المضمون بين مفهومي المواطن والمواطنة. حيث إننا لا يمكن أن نحقق مواطنة بمعنى المشاركة وتحمل المسؤولية النوعية في الشؤون العامة، بدون مواطن يشعر -بعمق- بحقوقه وواجباته في الفضاء الاجتماعي والوطني. فلا مواطنة بدون مواطن، ولا مواطن إلا بمشاركة حقيقية في شؤون الوطن على مختلف المستويات. لذلك فإن بوابة إنجاز حقيقة المواطنة في المجالين العربي والإسلامي، هي العمل على إنجاز مفهوم المواطن الذي يحررنا على المستويين الثقافي والاجتماعي من حالة السديم البشري الذي لا شأن له في أمور حياته الكبرى، ولا يتدخل في بناء حاضره وصياغة مستقبله.
وبدون الدخول في جدل لغوي أو سجالات أيدلوجية وسياسية حول مصطلح (المواطن) ومدى توفره في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي، فإننا نعتقد أن المضمون السياسي والحقوقي الذي يحتضنه هذا المفهوم، هو ذات المضامين التي يقرها الإسلام للأفراد وآحاد المسلمين. فالإنسان المسلم في التجربة السياسية الإسلامية بحقوقه ومكاسبه وواجباته ومسؤولياته هو ما نصطلح عليه اليوم (مفهوم المواطن). فالمضمون والحقائق الكبرى واحدة بين هذين المفهومين.
لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تؤكد على حقوق الإنسان المسلم وضرورة صيانة حقوقه واحترام خصوصياته، وأنه على علاقة عضوية بين جميع أفراد المجتمع. فقد جاء في الحديث الشريف: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى). و(المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم). (3).. فهذه الحقوق التي تؤكد عليها النصوص الإسلامية، هي ذاتها الحقوق التي يتضمنها مفهوم المواطنة المعاصر.
وبمقدار ما يُنتقص من هذه الحقوق يبرز الخلل السياسي والاجتماعي. فحينما يتطابق المثال والواقع على هذا الصعيد، يكون الاستقرار السياسي الحقيقي، وتنتهي كل موجبات الاهتزاز والانحراف. أما حينما يتفارق الواقع مع المثال وتتسع الفجوة بينها، فإنه بمقدار هذه الفجوة، تبرز المشكلات وتتضخم التوترات والمآزق. من هنا فإن الاستقرار السياسي والأمن الشامل، لا يتحقق على الصعيد الواقعي، إلا بحصول المواطن على كل حقوقه، وبإمكانه الفعلي في ممارسة دوره الكامل في الحياة العامة. فحينما كانت هناك ديمقراطية حقيقية ومشاركة سياسية نوعية، كان هناك الأمن والاستقرار. وبغياب الديمقراطية والمشاركة السياسية، تغيب الكثير من العوامل التي تساهم بشكل مباشر في الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.. وعليه فإن الإصلاح السياسي المتواصل، الذي يطرد معوقات التقدم ويزيل كوابح التطور ويحفز جميع شرائح المجتمع للمشاركة الفعالة، هو الضمان الحقيقي للأمن والاستقرار.
واستقرار المجتمعات المتعددة الأيديولوجيات والثقافات، لا يتحقق إلا من خلال مواطنة متساوية، تسمح للجميع وبدون استثناء بالمشاركة الحقيقية في الحياة السياسية والعامة. لذلك فإن مفهوم المواطنة لا يخص أو لا يتوجه فقط إلى الأقليات في مقابل الأكثرية، بل هو يستوعب الجميع، فهو يحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية في نطاق مفهوم المواطنة الجامعة.
وذلك لأن المواطنة في أحد تجلياتها تعني: المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن المعطيات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية. فكل مواطن له كامل الحقوق وعليه كل الواجبات.
وعلى ضوء هذا بإمكاننا القول: إن المواطنة بقيمها، وحقوقها، وواجباتها ومسؤولياتها، هي حجر الأساس لتطوير النظام السياسي، وصيانة حقوق الإنسان، وتجديد الحياة السياسية والثقافية، وتنمية مقومات وعوامل السلم الاجتماعي، وتعزيز الوحدة الداخلية.
والمواطنة وفق هذا المنظور لا تبنى إلا في بيئة سياسية ديمقراطية ـ قانونية، تتجاوز كل أشكال الاستفراد بالسلطة والقرار أو الاستهتار بقدرات المواطنين وإمكاناتهم العقلية والعملية.
والقاعدة العريضة التي تحتضن مفهوم المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي، هي قاعدة العدالة والمساواة. فلما التزم المجتمع بهذه القيم ومتطلباتها، أدى ذلك على المستوى العملي إلى بروز حقائق إيجابية في طبيعة العلاقة التي تربط بين مكونات وتعبيرات الوطن الواحد.
فمقتضى العدالة الاعتراف بوجود التعددية في الفضاء الاجتماعي والسياسي وتنظيم العلاقة بين هذه التعدديات على أسس المواطنة المتساوية.
والمواطنة الحقيقية لا تتعالى على حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولا تمارس تزييفاً للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق حقائقه الثابتة، وتعمل على فتح المجال للحرية والانفتاح والتعددية في الفضاء الوطني. فالأمن والاستقرار والتحديث، كل ذلك مرهون إلى حد بعيد على وجود مواطنة متساوية مصانة بنظام وقانون يحول دون التعدي على مقتضيات ومتطلبات المواطنة الواحدة المتساوية.
والثقافة الوطنية تتشكل في خطوطها الرئيسية وآفاقها وأولوياتها من الثوابت وطبيعة التفاعل والمثاقفة التي تكون بين مجموع التعدديات المتوفرة في الفضاء الوطني. وعلى هذا فإن الثقافة الوطنية هي التي تكون تعبيراً عن حالة التنوع والتعدد الموجودة في الوطن. فليست ثقافة فئة أو مجموعة، وإنما هي ثقافة الوطن بكل تنوعاته وأطيافه وتعبيراته. ويكون دور الدولة ومؤسساتها في هذا الإطار هو توفير المناخ القانوني والاجتماعي، وبناء الأطر والمؤسسات القادرة على احتضان جميع التعبيرات لكي تشارك في صياغة مفهوم الثقافة الوطنية وإثراء مضامينها بقيم المجتمع والعصر.. (فالمعنى البديهي لتعبير الثقافة الوطنية يأتي من كونه تعبيراً عن حقيقة واقعة بالفعل، أي عن حقيقة اجتماعية ـ تاريخية قائمة وشاهدة.. بمعنى أنه ما من مجتمع له خصائص المجتمع التاريخية إلا وهو ينتج ثقافته الوطنية، أي ثقافته المرتبطة والمتأثرة بمجمل خصائصه التاريخية تلك. فهذه مسألة قد لا يكون فيها خلاف لفرط وضوحها. أما الإشكاليات التي يتوقف على حلها تحديد المفهوم والتداخل بين جملة من العلاقات الموضوعية التي يتضمنها هذا التعبير فيما يتضمنه من الدلالات.
إن هذه العلاقات تؤلف مركباً متشابكاً معقداً، ومتنامياً أيضاً بقدر تنامي الروابط في عصرنا، بين الثقافة وسائر مجالات النشاط البشري الاجتماعي دون استثناء. وذلك بناءً على أن الثقافة ليست هي بذاتها تتحرك وتنمو وتتطور، بل بما هي نشاط اجتماعي، أي بما هي مرتبطة عضوياً وديناميكياً بكل قوى الحياة التي تنتج تاريخ نمو المجتمع وتطوره المادي والروحي). (4).
وهذا الارتباط والتفاعل الحيوي بين الثقافة والحياة، يتواصل مع الحراك الاجتماعي والثقافي والعلمي والسياسي المتوفر خارج نطاق الوطن. إذ إننا اليوم وفي ظل ثورة وتقنيات الإعلام والتواصل، لا يمكن أن ننفصل عن نشاط المجتمعات والأمم المنتجة لتاريخ التطور والتقدم المعاصر. لذلك فإن التفاعل الدينامي بين الثقافة والحياة، يتجاوز حدود المجتمع الخاص ويتفاعل ويتواصل مع نتاج الآخرين وإبداعاتهم في عالم النشاط الإنساني ـ الاجتماعي.
وتصاب بالتصحر والضمور تلك الثقافة الوطنية التي تقبل بخيار العزلة، وتمنع عن نفسها نهر التواصل الإنساني والحضاري.
فالتفاعل والحيوية التي تبديها اليوم بعض الثقافات الوطنية تجاه الثقافات الإنسانية الأخرى، هو الذي يساهم في حمل عناصر الحيوية والخصوبة من تجارب تلك الثقافات والمجتمعات إلى ثقافاتنا ومجتمعاتنا.
فالثقافة الوطنية المطلوبة اليوم، هي التي تؤسس للتواصل والإبداع والإنتاج. فالمطلوب هو تلك الثقافة الحية المتواصلة بحيوية مع كل التجارب والإبداعات الإنسانية.
وهذا لا يتأتى على الصعيد العملي إلا بمواطنة متساوية، تتجاوز كل عقد الانفتاح والتواصل مع المختلف والمغاير في الدائرة الواحدة.
فالمواطنة بما تشكل من قيم العدالة والمساواة وسلطة القانون، هي التي توفر المناخ والبيئة المناسبة لانطلاق المجتمع الخاص بكل مكوناته للانفتاح والتواصل الفعَّال والرشيد مع إبداعات الحضارة ومكاسب العصر.
ومن هنا تتضح طبيعة العلاقة بين مفهوم المواطنة ومفهوم الثقافة الوطنية. فثراء الثقافة الوطنية مرهون إلى حد بعيد بتوفر حقائق المواطنة في الفضاء الاجتماعي. فالثقافة الوطنية تستمد حيويتها وفعاليتها الداخلية من حقائق المواطنة.
كما أن الثقافة الوطنية، هي التي تمنح المواطنة المدى الحيوي الذي تتحرك فيه على المستويات كافة.
فإذا أردنا ثقافة وطنية وحدوية ومتواصلة مع العصر والحضارة، فعلينا تأسيس مفهوم المواطنة في واقعنا الاجتماعي والوطني.
فالعلاقة جِدُّ عميقة بين هذين المفهومين، ولا يمكننا بأية حال من الأحوال التخلي عن حقائقهما ومتطلباتهما. وذلك لأن التحام مفهوم المواطنة بحقائق الثقافة الوطنية المستوعبة لكل العناصر والتعبيرات، هو الذي يمنح المجتمع القدرة على التميز ومواجهة تحديات اللحظة التاريخية..
فالعلاقة بين مفهوم المواطنة ومفهوم الثقافة الوطنية، هي علاقة مشاركة ـ إبداعية في خلق فضاء وطني جديد متجدد، يتجنب العزلة والانكفاء، ويحارب التعصب والشوفينية، ويؤسس للاندماج والوحدة على قاعدة الديمقراطية واحترام التعدد وصيانة حقوق الإنسان.
ثالثاً: رؤى في الانتماء الوطني:
ليست المسألة الوطنية شأناً بسيطاً وعابراً بما تختزنه من عمق وجداني وعاطفي وعمق فكري وتاريخي، بل هي قيمة إنسانية كبرى تكتسب أهميتها وموقعيتها عند جميع الأمم والشعوب من أنها الوعاء الضروري والحاضن الأكبر لمشروعات التقدم والتطور الإنساني..
والوطن هنا لا يعني الأرض والتراب فحسب، بل هو يتجاوز ذلك ويدخل في الوجدان الإنساني، بحيث إن العاطفة الإنسانية جُبلت بشكل أو بآخر على ضرورة الانتماء إلى وطن بما يحتضن من أرض وقيم وتطلعات. وإن هذه الضرورة تتغذى باستمرار من طبيعة العلاقة التي تربط الوطن بالمواطن والعكس.. وعليه فإن مقولة الوطن تحتضن الجانب المادي الذي يتجسد في الأرض والحدود الجغرافية للوطن، وكذلك الجانب المعنوي والقيمي، والذي يتجسد في طبيعة القيم والمبادئ والمثل التي يعتنقها الشعب وتسعى السياسات الوطنية إلى تجسيدها عبر برامج ومشروعات متعددة. كما أن مقولة الوطن تشمل جملة التطلعات والأهداف العليا التي يسعى إليها المواطنون في حياتهم..
وعلى ضوء هذا فإن مقولة الوطن أوسع من الأرض والتراب، وهي تحتضن بشكل جوهري النظام القيمي والاجتماعي والأخلاقي وماهية الأهداف والتطلعات التي يحملها أبناء الوطن الواحد.. والأوطان تتمايز وتختلف على الصعيد الواقعي وتتنوع بناها الفكرية ووعيها لذاتها ومشروعها في حياتها من جراء اختلاف وتباين مقتضيات الجغرافيا والتاريخ والعقيدة ومنظومات السلوك وما أشبه.. وهي العناصر أو العوامل التي تُسهم بشكل مباشر في تحديد طبيعة المنظومة الوطنية سواء في أهدافها وخياراتها أو على مستوى الإدارة وتسيير شؤونها الداخلية. فلكل وطن خصوصية اعتبارية وكيانية نابعة من طبيعة تأثير هذه العوامل على الخيارات الوطنية في مستويات الحياة المختلفة..
من هنا فإن الوطن وفق هذا المفهوم الذي يحتضن بوعي وحكمة الأبعاد المادية والأبعاد القيمية والمعنوية، هو ضرورة إنسانية وحضارية.. حيث إن الجِبلَّة الإنسانية قائمة أو مغروس في داخلها حب الأوطان؛ لذلك فإنه لكل إنسان في هذا الوجود وطن يحن إليه ويعمل على منحه كل شروط ومواصفات القوة والعزة..
كما أن الحضارات لا تُبنى في الفضاء المجرد، وإنما هي بحاجة دائماً إلى حيز جغرافي، تبني عليه الإرادة الإنسانية كل متطلبات الحضارة والتقدم الإنساني.
فالأوطان ضرورة إنسانية وحاجة حضارية مستديمة. لهذا فإن الانتماء الوطني ليس حالة ترفيه، وإنما هو حاجة جوهرية وضرورية في حياة الإنسان، ويساهم في إشباع الوجدان الإنساني، ويساهم في بلورة بعض شروط ومتطلبات التقدم. فالوطن لا يكتمل معناه وأفقه إلا بالمواطن الذي يعمل على تعميق وجوده وتجربته الإنسانية.
لذلك فإن الوطن هو عبارة عن ذلك الكيان الذي يشمل الأرض التي تقيم عليها والتي تمنحك من خيراتها وإنتاجها، والناس الذين تعيش معهم، والآفاق التي تطل عليها من خلال تفاعلك مع هذه الأرض وهؤلاء الناس.. والأوطان دائما تبنى عبر الإرادة الإنسانية التي تعمل على توليف هذه العناصر، وخلق التفاعل الضروري معها.. فالمجموعات البشرية التي تشترك مع بعضها في الجوامع المشتركة، هي التي تعمل على صياغة مفهومها لوطنها، ومن خلال فعلها المتواصل في مختلف المجالات، تتشكل معالم الوطن الفعلية.
وعلى ضوء هذا فإن جميع الأمم والشعوب، بحاجة باستمرار إلى برامج عمل وحقائق مجتمعية، تساهم في تطوير مفهوم الانتماء الوطني.. وذلك من أجل أن يأخذ هذا المفهوم أبعاده الكاملة والعميقة.
وفي هذا السياق نود أن نؤكد على النقاط التالية:
1ـ إن الانتماء الوطني يتجذر ويتعمق ويأخذ دوره الطبيعي في حياة الإنسان الخاصة والعامة، حينما ينفتح هذا المفهوم على الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والإنسانية التي يختزنها الإنسان من روافد متعددة. فالانتماء يكبر كلما انفتح وتواصل مع خصوصيات المواطنين الثقافية والتاريخية. وبهذا الانفتاح والتواصل، تتكامل طاقات الواقع وآفاقه مع محفزات ودوافع الذات وخصوصياتها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والإنسان. وبهذا التكامل يصبح الانتماء واعياً وحكيماً وبعيداً عن كل أشكال الشوفينية والنرجسية. فبقدر انفتاح مفهوم الانتماء الوطني على المخزون الثقافي والتاريخي للمواطنين، بذات القدر يتعمق مفهوم الوحدة، ويتم التجاوز العملي للكثير من العقبات والعراقيل. لذلك كله فإن تطوير مفهوم الانتماء الوطني في الفضاء الاجتماعي. بحاجة باستمرار إلى انفتاح هذا المفهوم على خصوصيات المواطنين الثقافية والإنسانية، حتى تساهم هذه الخصوصيات على نحو إيجابي في إثراء مفهوم الانتماء ومده بأسباب الصلابة والتمكين.
فحينما ينفتح انتماؤك الوطني على إنسانيتك ومخزونك الثقافي والإنساني، حينذاك سيثرى هذا المفهوم إنسانيةً ونبلاً.. أما حينما ينغلق هذا المفهوم وتحول عوامل ذاتية أو موضوعية دون التواصل والانفتاح على إنسانية الإنسان، فإنه سيصاب بالبساطة والتصحر، لأنه لم ينفتح ولم يستفد من البعد الإنساني الذي يختزنه كل مواطن. إن المواطن هو الذي يمنح مفهوم الانتماء الوطني حركيته وفعاليته. لذلك فإن انفتاح هذا المفهوم على المواطن بخصوصياته الثقافية والإنسانية، سيساهم في تحريك كل المواطنين باتجاه إثراء مفهوم الانتماء الوطني بالمزيد من الحقائق الثقافية والإنسانية.
فالعلاقة جِدُّ عميقة بين حيوية وفعالية الانتماء الوطني وبين انفتاحه وتواصله المستديم مع المواطنين ومخزونهم الثقافي والإنساني.
2ـ إن الانتماء الوطني ليس ادعاءً يدعيه الإنسان أو مقولة تقال أو خطبة تذاع، وإنما هو التزام ومسؤولية. حيث يُترجم هذا الالتزام بتحمل المسؤولية الوطنية. فلا يصح بأي حال من الأحوال أن يعيش المواطن متفرجاً أو بعيداً عن التزامه الوطني، وإنما هو مطالب ووفق مقتضيات الانتماء الوطني السليم للالتزام بمتطلبات المواطنة والقيام بأدواره ووظائفه الوطنية.
وعلى المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية الوطنية، أن تعمل من أجل بلورة مفهوم الانتماء الوطني وربط جميع المواطنين بمسؤولياتهم وواجباتهم الوطنية.
فالانتماء إلى الوطن يدفعنا جميعاً إلى العمل لسد الثغرات وإنهاء نقاط الضعف، والسعي المتواصل لتعزيز وحدته وتصليب وتمتين تضامنه الداخلي.
وبكلمة: فإن الانتماء الوطني يعني تعزيز قوة الوطن على قاعدة العدل والمسؤولية المشتركة والسعي الدائم لإضافة مكاسب جديدة إلى مكاسب الوطن.
فالانتماء الوطني لن يتشكل بشكل حقيقي في نفوس المواطنين، إلا بإنجاز مفهوم المواطنة على نحو مؤسسي وعملي. فالمواطنة بما تحتضن من مسؤولية وشراكة، هي بوابة إنجاز مفهوم الانتماء الوطني. وحينما يغيب مفهوم المواطنة من الفضاء السياسي والاجتماعي، حينذاك يتحول موضوع الانتماء الوطني إلى شعار للاستهلاك والمزايدات. لذلك فإن من المقومات الأساسية لمفهوم الانتماء الوطني هو مفهوم المواطنة القائمة على دعائمها ومرتكزاتها المعرفية والمؤسسية.
من هنا فإن تعميق مفهوم الانتماء الوطني، يتطلب العمل على بلورة واقع المواطنة في أبعاد الحياة المتعددة.. فالمواطنة بما تختزن من مسؤوليات وحقوق وواجبات، هي جسر الوصول إلى مستوى متقدم من حالة الشعور والالتزام بكل مقتضيات الانتماء الوطني.
وعلى ضوء هذا نستطيع القول: إن الشعوب والأمم التي تعاني من حالة ميوعة في التزامها بقضايا ومتطلبات انتمائها الوطني والقومي، هو من جراء الغياب العملي والمؤسسي لواقع المواطنة، بحيث يشعر كل مواطن بحقوقه وواجباته، بمسؤولياته ووظائفه. أما الأمم والشعوب التي يشعر أبناؤها باعتزاز عميق بانتماءاتهم، فهو من جراء إنجاز هذا الأمم لواقع المواطنة في واقع حياتهم..
لذلك فإن القوة والعزة والشعور العميق والالتزام الصادق بمقتضيات الانتماء الوطني، كل هذا بحاجة إلى حقيقة المواطنة القائمة على أسس المسؤولية المتبادلة وتكافؤ الفرص.
3ـ لا يكفي الإنسان أن يعيش على أمجاد آبائه وأجداده، وإنما المطلوب دائماً هو أن نسعى إلى صنع حاضرنا وتاريخنا وبناء مجدنا من خلال جهدنا وعملنا المتواصل باتجاه العمران والتقدم. صحيح أن الآباء والأجداد، تمكنوا من بناء هذا الوطن وتجاوز الكثير من المخاطر والتحديات التي واجهتهم في هذه المسيرة، ولكن لا يمكننا أن نعيش فقط على تلك الأمجاد والذكريات، وإنما ومن مقتضى الوفاء للوطن ورجاله، أن نعمل معاً على صنع حاضرنا وتطوير راهننا وتجاوز محن واقعنا وتحدياته، بالمزيد من الكفاح والبناء والعمران.
وهذا بطبيعة الحال، يتطلب الانفتاح على حركة الحياة كلها، وذلك من أجل بلورة الفكر والرؤية الجديدة والمنهج الجديد والأساليب الجديدة، التي تمكننا من بناء تجربتنا وتطوير واقعنا وتعزيز بنائنا الوطني.
فالانتماء الوطني التزام ومسؤولية، وكسب متواصل في مختلف الميادين لربط مكاسب الماضي بمنجزات الراهن وصولاً إلى مستقبل وطني جديد، يمارس فيه جميع أبناء الوطن مسؤولياتهم وأدوارهم ووظائفهم وحقوقهم. والأوطان في المحصلة النهائية، لا تعمر إلا بأبنائها، ولا تتطور إلا بشعبها، ولا تمتلك أسباب القوة إلا إذا تطورت مشاركة المواطنين في إدارة أمورهم، وتسيير شؤونهم وقضاياهم..
فالانتماء الوطني مساحة مفتوحة، لكل المبادرات والخطوات الوطنية الخيرة والإيجابية، التي تستهدف عزة هذا الوطن ومنعته على مختلف الصعد والمستويات.