منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يوم الخميس 24 فبراير 2022، والخطاب الروسي الرسمي يتحدث عن استهداف تنظيمات “النازيين الجدد” في أوكرانيا، وكان ملاحظًا أن الاعلام الغربي لم يقم بالرد على هذا الخطاب الروسي. ويعود هذا الغياب الغربي إلى حقيقة أن الإعلام الغربي بدوره كان يتهم الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد بدعم النازيين الجدد خلال الثورة الأوكرانية الثانية والحرب الأهلية الأوكرانية التي جرت ما بين عامي 2013 و2014، وهو اتهام اختفى من صفحات وشاشات الإعلام الغربي مع بدء الحرب الأوكرانية 2022.
وكان الغرب قد حاول صنع ثورة ملونة في أوكرانيا عام 2013، والتي كان يحكمها وقتذاك نظام موالٍ لموسكو. ولمّا فشل قادة الحراك وقتذاك في تحريك الشارع بما يكفي لقيام ثورة شعبية تطيح بالنظام، وافق الغرب على فكرة نزول الميلشيات النازية المسلحة بالسلاح الثقيل إلى شوارع أوكرانيا، وتم سحق الشرطة والجيش الأوكراني عام 2014، ولعل هذا ما يفسر غياب أي مظاهر عسكرية أو وجود جيش حقيقي لأوكرانيا حتى اليوم.
وعقب انتهاء الحرب التي قسمت أوكرانيا وتسلم الموالين للغرب حكومة كييف، تم تعيين المئات من العناصر النازية في صفوف الجيش والشرطة لسد العجز، وتم تأسيس “كتيبة آزوف” النازية التابعة للحرس الوطني الأوكراني، إضافة إلى عشرات المناصب الحكومية والرسمية. وظهر عدد من النازيين على مسرح السياسة الأوكرانية حينها، بعدما تم تعيين أولكسندر سيش نائبًا لرئيس الوزراء، وإيهور تينيوخ وزيرًا للدفاع، وإيهور شفايكا وزيرًا للسياسة الزراعية والغذاء، وأندري موكنيك وزيرًا للبيئة والموارد الطبيعية. وتسلم رئاسة البرلمان أندريه باروبي، ما بين 14 أبريل 2016 إلى 29 أغسطس 2019، وهو من أبرز مؤسسي الحزب النازي الجديد الاجتماعي القومي لأوكرانيا.
إن التعاطف بين المتطرفين الأوكرانيين والأيدولوجيا النازية ليس جديدًا، فقد رصد الغرب صعود الفكر النازي في أوكرانيا منذ الاستقلال عن روسيا السوفيتية عام 1991. وتنتشر جرائم الكراهية ضد الأجانب والأقليات في أوكرانيا بشكل ممنهج على يد هؤلاء المتطرفين، وجرى اتهام غربي بحق منظمة S14 الأوكرانية النازية عام 2018 بأنها تمارس إبادة ممنهجة بحق الغجر بتكليف من الحكومة الأوكرانية وقتذاك.
الأب الروحي للنازيين الجدد في أوكرانيا هو “ستيبان بانديرا” الذي كان من أبرز أعضاء الحزب القومي الأوكراني وتحوّل إلى زعيم له، قاتل ضد الاتحاد السوفيتي وبولندا في الثلاثينيّات، وتعاون مع الجيش النازي وكان ذراعًا له أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهائها استمر في تنفيذ عمليات عسكرية ضد السوفييت حتى أواسط الخمسينيات.
اغتاله عميل للمخابرات السوفياتية عام 1959 في ميونيخ الألمانية. وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، أُعيد تأسيس الحزب القومي الأوكراني، وأُعيد الاعتبار لـ”بانديرا”، فنصبوا تماثيل له وأطلقوا اسمه على شوارع، وكان لهذا الحزب دورٌ رئيس في أحداث عامي 2013 و2014، وبات له تأثيرٌ كبيرٌ في نظام كييف حتى اليوم.
وفى 16 ديسمبر 2020، ولمناسبة مرور 75 عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبناءً على اقتراح من روسيا، تم التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار ينص على “مكافحة تمجيد النازية والنازية الجديدة والممارسات الأخرى التي تسهم في تسعير الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصّب”. وكان مفاجئًا أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا قد صوتت ضد القرار، بينما امتنعت أغلب الدول الأوروبية عن التصويت!، الموقف كان غريبًا وقتذاك.. لكن ما يجري اليوم قد يسهم في تفسير ذلك.
من هم النازيون الجدد؟
والنازية الجديدة Neo-Nazism هي مجموعة من الحركات السياسية التي ظهرت حول العالم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي ليست حكرًا على ألمانيا أو أوروبا أو حتى أبناء العرق الجرماني، فمتى آمن الشخص ذو البشرة البيضاء بالفكر النازي فإنه يعد من النازيين الجدد. وهذا الأمر ارتبط أيضًا بالنازية الألمانية في النصف الأول من القرن العشرين؛ إذ تعاطف مع نظام أدولف هتلر المئات من أصحاب البشرة البيضاء في روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعموم الدول الأوروبية.
ومن ملامح النازية الجديدة وما يفرقها عن النسخة الهتلرية تمجيد أدولف هتلر لما يصل إلى حد وضعه في مصاف الآلهة؛ إذ يتم وصف هتلر بأنه “أعظم أوروبي على مر العصور”، وإنكار الجرائم الألمانية في الحرب العالمية الثانية حيال يهود أوروبا، إضافة إلى كراهية كل ما هو ليس أبيض البشرة أو بعيد عن الدين المسيحي، إذ يتم الخلط بين التطرف القومي والتطرف الديني والتطرف العلماني في البوتقة النازية.
أصبح العدو هو أي مواطن من أصول أفريقية أو آسيوية، من العرب أو الهنود، من سكان الشرق الأوسط أو تتار القرم، الروس والغجر، الثقافة الروسية الثقافة الرومانية anti-Romanyism، واليهود أو المسلمين وحتى المسيحين الأرثوذكس في بعض الأحيان.
لا يُظهر النازيون الجدد عادة انتماءهم لهذا الفكر، فهم أشبه بالمجتمعات السرية والمنظمات الخفية، وإن كانوا قد ظهروا في أوكرانيا علنًا بضوء أخضر غربي عقب أحداث عامي 2013 و2014. والنازية الجديدة –والقديمة– لا تعد فكرًا سياسيًا فحسب، وإنما منهج كامل يصفه المؤرخون بأنه ميثولوجيا أو مذهب روحاني، الغنوصية النازية أو الصوفية النازية Nazi mysticism، الباطنية النازية Esoteric Nazism وحاليًا يحصل النازيون الجدد على مصطلح الهتلرية الباطنية Esoteric Hitlerism.
- الإرهاب البيئي فكر نازي
الفكر النازي القديم هو من قدم أفكار الإرهاب البيئي والتحكم في البيئة والنظام الغذائي والصحي البيئي، وذلك تحت مصطلحات الحفاظ على البيئة، وهو ما أسماه المؤرخون بـ “فاشية بيئية” Ecofascism.
يسعى النازيون الجدد إلى السيطرة على الحكومات الغربية، وقلب أنظمة الحكم من روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، مرورًا بكافة الحكومات الأوروبية، وتضم روسيا حركات نازية متطرف تقوم الحكومة الروسية بمحاربتها وحظرها على الدوام.
- الأولتراس فكر نازي
النازيون –سواء القدامى أو الجدد– في بريطانيا هم من أسسوا فكرة Hooligaans أو التعصب للأندية الرياضية Hooliganism وهي الظاهرة التي أسست لاحقًا لفكرة الروابط الرياضة Ultras؛ إذ إن أسلوب وتنظيم -وفى بعض الأحيان تسليح- الأولتراس وتوظيفه سياسيًا وإجراميًا هو في الأساس من أفكار الفكر النازي البريطاني، ومن أهم طقوس النازيين الجدد منذ سبعينيات القرن العشرين في بريطانيا.
والنازيون الجدد لا ينتمون إلى فكر “اليمين القومي” أو “اليسار الاشتراكي”، ولكنهم جماعات وظيفية خسرت دورها المستقل في الأحداث منذ أن سقط النظام النازي الألماني الذي كان يعد التنظيم المركزي الأم للنازية حول العالم.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، سعى كلا المعسكرين، الأمريكي والسوفيتي، إلى توظيف الجماعات الوظيفية النازية أو النازيين الجدد بوجه الفريق الآخر، بل أن كلا المعسكرين سعى إلى توظيف بقايا رجالات نظام هتلر في هذه اللعبة، فكان النازيون الجدد في الكتلة الشرقية عملاءً للغرب، وكان النازيون الجدد في الكتلة الغربية عملاءً للاتحاد السوفيتي.
وعقب انتهاء الحرب الباردة استمرت اللعبة ذاتها؛ إذ يحظر الغرب النازيين الجدد في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه يدافع عنهم في روسيا وأوكرانيا والجمهوريات السوفيتية السابقة بوصفهم أقليات لها حقوق سياسية ويجب وضعهم تحت مظلة المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني وتيار حقوق الإنسان.
ما هي النازية؟
ظهرت القبائل الوثنية الجرمانية (الألمانية) للمرة الأولى سياسيًا في القرن الثالث قبل الميلاد وتحديدًا عام 222 ق.م، وترى الديانات الوثنية الجرمانية أنهم جنس آري من نسل الآلهة، حيث كانوا يعبدون النجوم، بالإضافة إلى ممارسة السحر المرتبط بالفلك، وأن باقي أجناس الأرض من نسل تزاوج ذكر القرد من أنثى البشر.
ويلاحظ هنا أن الأسطورة الجرمانية لا تقول تزاوج القرد بالبشر بل بأنثى البشر، حيث يحمل الفكر الآري نظرة دونية للمرأة مثل أغلب الديانات الوثنية. وكان الصليب المعقوف هو الرمز والعلم للقبائل الجرمانية، ولا عجب في ذلك لأنه رمز وثني ظهر في ديانات وثنية في الهند والصين وفارس في حقب قديمة.
الميثولوجيا الجرمانية أو الوثنية الجرمانية تركت ترسبًا ثقافيًا في الوعي الجمعي للشعوب الجرمانية حتى بعد انخراطها في الدين المسيحي، وأصبحت الصوفية الباطنية الجرمانية هي دمج بين الأفكار الوثنية الجرمانية وأفكار القومية الاشتراكية والتطرف المسيحي في بوتقة النقاء الجنسي وسمو الرجل الأبيض عن باقي البشرية المدنسة.
العالمة هيلينا بتروفنا بلافاتسكي (1831 – 1891)، من أب ألماني وأم روسية من النبلاء، هي من أحيت الأفكار الجرمانية المتعلقة بانتماء الجرمانيين إلى جنس فضائي، وأن ممثلين لهذا الجنس الفضائي هم من صنعوا حضارات مصر وأطلانطس القديمة، وأسست الجمعية الثيوصوفية وتجولت في مصر وأمريكا والهند لنشر أفكارها، وبالفعل أصبح للتنظيم أتباع في دول عديدة، ويُنظر إليها بوصفها المرشد الأول لتنظيم سري هو “الإخوان الثيوصوفيين” أو “أخوية الثيوصوفية”.
إذًا ما بين الباطنية الجرمانية Ariosophy حيث الدمج بين أفكار وثنية جرمانية في ثوب مسيحي بروتستانتي ألماني، والثيوصوفية حيث التصوف على الطريقة النازية وسمو الجنس الآري لأسباب سماوية Theozoology. هكذا يمكن وصف الفكر النازي بأنه هرطقة تجمع بعضًا من علوم السحر والفلك والتصوف، وأفكار النقاء الجنسي والعرقي للشعوب ذات البشرة البيضاء مع رخصة جاهزة للحرب والتدمير تصب في بوتقة القومية الألمانية، والقومية الألمانية مصطلح صاغه المفكر يوهان جوتليب فيشت في سنوات احتلال فرنسا لألمانيا في زمن نابليون.
في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر مع تقسيمها عقب الهزيمة أمام نابليون، استعر الشعور بالحنين إلى الدولة القوية، وتصاعدت المشاعر القومية. هذه الأجواء الانهزامية كانت خير مشجع لظهور طبقة من الساسة يطلق عليها في كتب التاريخ “المجتمع النازي في برلين” أو “مجتمع برلين السري” قبل بزوغ ألمانيا النازية، وكان ذلك في القرن التاسع عشر، مارس هذا المجتمع السري الباطنية الجرمانية، حيث يؤمن بحتمية صعود ألمانيا إلى قمة العالم والبدء في تنظيم المجتمع الألماني ثم العالم أجمع بناء على الأفكار النازية.
بالطبع لم يخل الأمر من النصابين الذين وجودا في هذه الأجواء فرصة للشهرة، أو جمع الأموال من أجل الإعداد لقيام الدولة، وتصف كتب التاريخ أن مجتمع برلين النازي في القرن 19 كان مجتمعًا من السحرة أكثر مما هو مجتمع من الساسة، وتأسست جماعة فريل السرية Vril التي انضم إليها الآلاف من الألمان، خصوصًا أن طقوسها كانت تتضمن حفلات جنس جماعي على نمط عبادة الشيطان، وتأسست كذلك جماعة ثول التي تؤمن بالأفكار ذاتها.
عقب هزيمة الإمبراطورية الألمانية في الحرب العالمية الأولى، ثم قيام الثورة الألمانية الثانية (1918 – 1919) أسست جماعة ثول حزب العمال الألماني، وكانت السلطات الألمانية تتخوف من الجماعات السرية النازية، لذا سارعت إلى زرع جاسوس داخل الحزب، حيث تم اختيار الضابط السابق بالجيش خلال الحرب العالمية الأولى رغم جنسيته النمساوية “ادولف هتلر”.
لم يكن الأمن الألماني يعرف أن هتلر بدوره مؤمن بهذه الأفكار، وأن الأمن في واقع الامر لم يكن يزرع جاسوسًا داخل الطائفة النازية، بل يهدي الطائفة الزعيم الشعبوي الذي تفتقده. هكذا ما هي إلا بضعة أشهر حتى اقترح هتلر إعادة هيكلة الحزب بتسميته حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، ثم تولى رئاسته عام 1921.
إن هذه المسيرة التاريخية للفكر النازي توضح بجلاء لماذا كان هناك احتفاء شعبي بأفكار هتلر. إن الأمر أعقد بكثير من فكرة أن رجلًا واحدًا فرض كافة هذه الأفكار حول العالم عمومًا وفي ألمانيا خصوصًا، وأن يكون هتلر هو من زرع كافة هذه الأفكار وحده، أو أن تكون الأمة الألمانية قد انتخبته أكثر من مرة عن تضليل، أو أن يكون الإعلام النازي وحده هو من خلق هذه الأساطير، فالأمر نتاج هرطقة وعمل جماعات سرية نازية منذ قرون، وبدأ مصطلح النازية يخرج للوجود رسميًا.
إن غالبية أركان النظام النازي كانوا أعضاء في جماعة فريل أو جماعة ثول، وقد سارع هتلر في تطبيق الأفكار النازية كما نعرف جميعًا. وكما يجري لجميع الجماعات السرية حينما تصعد للحكم، فإن هتلر تخلص من بعضهم، وقلّم أظافر البعض الآخر.
ورغم تلك الحقائق التاريخية عن نشأة النازية في القرن التاسع عشر على يد “مجتمع برلين السري”، يبقى هتلر هو المنظر الأيديولوجي الذي طوّر تلك الأفكار وجعلها عقيدة حقيقية تجتاح المجتمعات السرية لتطرف الإنسان الأبيض اليوم. هتلر لم يبتكر النازية، ولكنه منظرها الأول ومطورها الحقيقي إلى فكر سياسي يحمل اللغة العاطفية القومية والاشتراكية والدينية، رغم مفارقة أن أغلب رجالات نظام هتلر كانوا ملاحدة شيوعيين.
وتبقى المفارقة أن الأيديولوجيا النازية التي كانت عدوًا للغرب في الحرب العالمية الثانية، هي اليوم من ينفذ أجندة الغرب في المجال الحيوي الروسي، بل وفى بعض الدول الأوروبية التي تخرج عن الخط العام للعولمة الأمريكية، مما يوضح بجلاء أن الصراع بين ألمانيا والغرب في الحرب العالمية لم يكن صراعًا أيديولوجيًا، بل صراع مصالح، وهو ما يتضح بجلاء مع العلاقات الحسنة بين النظام النازي الألماني من جهة وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى في سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية.
.
رابط المصدر: