النظام القانوني لحماية الحقوق والحريات

جميل عودة ابراهيم

يتألف النظام القانوني للحقوق والحريات العامة-في معظم الدول من ثلاثة نصوص تشريعية، الأولى هي النصوص الدستورية التي ترسي مبادئ الحقوق والحريات العامة، وتقررها على نحو يكفل تمتع الأفراد بها من حيث المبدأ. حيث تتضمن الدساتير مجموعة من الحقوق والحريات التي يتمتع الأفراد بها داخل الدولة، لكفالة احترامها وتحقيق ضمانات ممارستها، ووضع القيود التي تحد من تقييد السلطات العامة لها، بشرط أن تبقى في حدود عدم مساسها بحقوق وحريات الآخرين، وعدم الإضرار بالمصالح الأخرى للمجتمع. ومتى مــا جاء النــص علــى الحريــات العامــة فــي النصــوص الدســتورية، فإن هذه الحقوق والحريات العامة تتمتع بالحماية الدستورية.

والثانية هي النصوص القانونية التي تنفذ النصوص الدستورية وتكملها، وتتطابق معها في مضمونها، وذلك بوضع بعض الإجراءات المنظمة لممارسة الأفراد لحرياتهم، وكفالة هذه الحريات في حدودها المقررة دستوريا. فلا يمكن حصر الحقوق والحريات بنصوص محددة، إذ إن ما يذكره المشرع الدستوري من حقوق وحريات هو على سبيل المثال، ولا يعني عدم النص على حقوق وحريات أخرى أن المشرع الدستوري لا يكفل حمايتها، لذلك فإن الدستور قد يحيل للتشريع مهمة تنظيم حرية ما، وهذا ما درجت عليته غالبية الدساتير الدول.

والثالثة هي النصوص التنفيذية، وهي التي تصدر عادة على شكل لوائح تنظيمية، أو تعليمات، أو قرارات رئاسية، أو أوامر ديوانية، أو أوامر وزارية، أو أوامر إدارية، حتى يتسنى للإدارة من تحقيق أغراض الضبط الإداري لإدائها لوظيفتها، فتضع هذه الطائفة من اللوائح، وتفرض قيودا على ممارسة الأفراد لحرياتهم من أجل تحقيق النظام العام، والحفاظ على الصحة العامة، والسكينة العامة. وللقرارات الإدارية أهمية بالغة وقوية في مساندة وتكمله القانون في تنظيم الحياة العامة، وفي توفير وإيجاد الشروط والظروف والعوامل اللازمة لتكييف وتفسير وتطبيق القانون خاصة في مجال الحريات العامة التي يجب أن تمارس في الإطار الشرعي.

ولكن النظام القانوني للحقوق والحريات في العديد من البلدان لا يعتمد على النظام القانوني الوطني، المؤلف من الدستور والقوانين واللوائح التنظيمية فقط، بل إن التشريعات الدولية أصبحت جزء أساسيا من النظام القانوني الداخلي لحماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات والشعوب، لأن العديد من الدول قد أدرجت في دساتيرها وقوانينها الوطنية نصوصا دولية، أٌخذت نصا أو روحا من ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين، بالإضافة إلى المواثيق والمعاهدات الدولية. وهذا ما يوضح فكرة توافق القواعد الوطنية المتعلقة بالنظام القانوني للحريات العامة مع طبيعة القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني.

إن فكرة وجود نظام قانوني للحقوق والحريات على المستويين الوطني والدولي قد أتت من أن هناك مجموعة من الحقوق والحريات التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان، أي إنسان، بصرف النظر عن لونه؛ وجنسه؛ ودينه؛ ومذهبه؛ وعمره، وغيرها من جهة. وإن هناك إدارة (سلطة) تمسك زمام الحكم، بهدف المحافظة على النظام العام والاستقرار والسكنية، وأن يعيش الناس جنبا إلى جنب من دون أن يعتدي أحدهم على الآخر، وكل تعدي على حقوق وحريات الناس الآخرين ستكون الإدارة المزودة بقواعد حفظ النظام العام خصمه من جهة أخرى.

ولكي يظل الأفراد والجماعات والشعب يتمتعون بالحقوق والحريات من دون أن يحصل تعدي عليهم من الآخرين ومن السلطة، ولكي تظل الإدارة محافظة على النظام العام والسلامة العامة، جرى الاتفاق على وضع نظام قانوني للحقوق والحريات، سواء في الدساتير أو القوانين أو الأنظمة، هدفه تأصيل هذه الحقوق والحريات والحد من التعدي عليها وعلى النظام العام في آن واحد.

يقضي النظام القانوني للحقوق والحريات العامة بعدم تعرض السلطات العامة (السلطة السياسية والتشريعية والتنفيذية والقضائية) للحريات بالمنع أو الحذف؛ لأن النظام القانوني للحريات العامة فوق هذه السلطات، وسابق على وجودها، وعندما تتدخل سلطات الدولة في مواجهة النظام القانوني للحريات العامة، فيجب أن ينصرف هذا التدخل لتنظيم كيفية ممارسة الحريات العامة، بشكل لا يتعارض مع متطلبات ومقتضيات المحافظة على النظام العام في الدولة.

فالحكومة يمكن أن تضع ما تشاء من قوانين الانتخابات وفقا لنظام الانتخابات بالقائمة أو الانتخاب الفردي، ولكن ليس من حقها تزوير أصوات الناخبين لفرض أشخاص ضد إرادة المواطنين. ومن واجب السلطات المحافظة على الأمن والقبض على المتهمين، ولكن ليس من حقها أخذ أسرة المتهم الهارب كرهائن حتى يسلم نفسه إلى السلطات. ولسلطات التحقيق والاستجواب والسجون والمعتقلات أن تمارس اختصاصاتها وفق نظام التحقيق والاستجواب والحبس المقرر في القوانين واللوائح الوطنية، ولكن لا يجوز تعريض المتهمين أو المحكوم عليهم للتعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة.

وإذ كان القانون ينص على عقوبة الإعدام، فلا بأس من توقيع العقوبة بحكم قضائي تتوافر فيه الاشتراطات التي نصت عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولكن ليس من حق سلطات الحكومات أن تسلب حياة الأفراد عن طريق الإعدام الفوري التي تطلق النار وتشنق دون محاكمة قضائية عادلة منصفة، أو عقب محاكمة صورية، أو باستخدام الرصاص خلال مظاهرة عادية.

وكذلك الأمر عند عدم مقدرة الحكومة من تقديم بعض الخدمات الأساسية، بسبب قلة المدخولات والموارد المالية، الثقافية والاجتماعية، فلا يجوز لهذه الحكومة أن تقدم هذه الخدمات على أساس التميز الجهوي أو العنصري أو اللغوي أو الديني بين المواطنين.

بناء على ذلك، يمكن تصور أن النظام الديمقراطي الأقرب إلى المثالية هو ذلك النظام الذي لا يؤاخذ المواطنين على نواياهم أو يتصرف أساسا بالحد من حرياتهم بشكل وقائي، بأن يخضع ممارسة حرية من الحريات للرضا المسبق للإدارة. أي إن النظام الأمثل إنما هو ذلك النظام الذي يزود نفسه تشريعيا بآليات العقاب عندما يتعلق الأمر بخرق حدود الحريات العامة، فيعاقب من يمس مثلا بحرية التنقل أو حرية المراسلة أو حرية التجارة، شريطة أن تكون هذه الخروقات متصورة في مخيل المشرع، بدء من الدستور بإقرار قواعد شرعية العقاب والتجريم.

ومع ذلك كله، نرى أن تقرير الحريات العامة وتسجيلها في الوثائق في صورة إعلانات، أو في مقدمات الدساتير، أو في صلب الدستور يمكن أن يبقى حبرا على ورق، ما لم تتوفر الضمانات التي تكفل ممارسة الحريات من الناحية الواقعية. فكما أن الحريات نسبية فإن الضمانات أيضا نسبية، فلا يوجد إجراء واحد أو شرط كفيل بذاته لتحقيق الحرية وضمان ممارستها، بضمان الحريات وكفالة الظروف الملائمة لممارستها هي نتائج مجموعة من ظروف، ومن إجراءات، تتضافر لتهيئة المناخ الملائم للحرية، وتحول دون الاعتداء عليها، أو رد هذا الاعتداء، إن وقع بالفعل، وتتمحور الضمانات الفعلية والواقعية اللازمة لحماية الحرية في الأحوال والشروط والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيش فيها أفراد المجتمع، فوجود هذه البيئة بصورة جيدة يعد ضمانة واقعية لأفراد المجتمع.

بناء على ما تقدم يمكن القول ما يأتي:

1. إن النظام القانوني للحريات العامة هو مجموعة القواعد القانونية والتنظيمية، وطنية ودولية، التي توضح لنا طرق ممارسة الحريات العامة بما تتلاءم مع النظام الاجتماعي العام في المجتمع. كما يتضمن الحدود والقواعد والضوابط والشروط اللازمة لممارسة الحريات التي يجب أن تقرر وتحدد بطريقة مسبقة وتفصيلية من طرف السلطة التشريعية في الدولة.

2. تعد فكرة النظام القانوني للحريات العامة أسمى وأعلى قيمة وقوة قانونية إلزامية من النظام القانوني العادي للدولة، وذلك لإبراز وتأكيد القيمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية لحريات الإنسان والمواطن والمجتمع والدولة.

3. تقتضي طبيعة فكرة النظام القانوني للحقوق والحريات ألا يجوز لأي سلطة أن تمس وتؤثر في النظام القانوني للحريات الفردية والعامة للإنسان والمواطن بالتعديل، زيادة أو نقصا، أو بالتقييد والتحديد والمنع، فكل الحدود والقيود والضوابط والشروط اللازمة لممارسة الحريات يجب أن تقرر وتحدد بطريقة مسبقة وتفصيلية من طرف السلطة التشريعية (البرلمان).

4. إن للإدارة العامة سلطة تقديرية في الحد من الحقوق والحريات العامة، ولكن سلطتها ليست مطلقة، بل هي مقيدة بفكرة النظام القانوني للحريات العامة، لأن الحرية ذاتها هي مصدر شرعية التصرفات الإدارية المادية والقانونية، في حالة عدم وجود نصوص تشريعية تنظم حرية ما.

5. إن تطبيق قواعد القانون الإداري بواسطة القضاء الإداري على كل المنازعات الإدارية، يحقق ضمانة ناجعة لحماية الحريات العامة، وقواعد وأحكام ومبادئ القضاء الإداري جزء مهما من النظام القانوني للحريات العامة.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/rights/22565

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M