ضمَّنا عمل أكاديميّ، ماجستير ودكتوراة، في أروقة كلية التربية، جامعة كفر الشيخ، وتواصلنا علميًّا بشكلٍ دائم حتى تشاركنا فِكرًا وعملًا، تزاورنا بعد أن حصل على الدكتوراة، فأصبحنا بمثابة عائلة واحدة. ووصلنا من خلال الحوار الدائم إلى وحدة في الفكر، وعلاقته بي ليست متفرِّدة، ولكنه يُعَدُّ صديقًا عزيزًا محبوبًا لكل من احتك به في كليتنا، يمد يد العون لزملائه بحُكم سبقه العلميّ المشهود.
لأننا نتمتع بوحدةٍ في الفكر، ونعيش في عالمٍ بدأ تشكيله ـ بالعودة إلى تاريخ البشرية القديم ـ إلى عصر ظهرت فيه المِلكيَّة الفرديَّة التي قسمت العالم إلى مالكين لا يعملون، وعاملين يعملون ولا يملكون، فأصبح الوجود الإنسانيّ وجودًا طبقيًّا، بدأ بسيطًا في بداياته ثم تحوَّل إلى عالمٍ يأخذ اليوم شكلًا من الصراع يكاد يُهدِّد العالم بالفناء في المواجهة الضخمة بين روسيا وحلف الأطلنطيّ على الأراضي الأوكرانية.
ونتيجة لذلك.. انقسم العالم إلى فريقين؛ أحدهما مُستَغِل والثاني مُستَغَل، في منطقتنا حوض البحر الأبيض المتوسط، المستغِلون هم الأوروبيون شمال البحر المتوسط، والمستغَلون هم سكان جنوب البحر المتوسط، والتاريخ يكشف عن أساليب وحشية فرضت هيمنتهم على سكان الجنوب، وظل سكان الجنوب في تخلُّفهم طيلة قرون من الزمان؛ بسبب هيمنة أهل الشمال عليهم. فقد نهبوا خيرات هذه البلاد؛ نهبوا البشر، جسمانًا وعقولًا، والثروات، والوقت، حتى وصل الحال إلى شمال غني وجنوب فقير، والاتصال الدائم بينهم يُظهِر غنى الشمال ببذخه لهؤلاء الفقراء في الجنوب. ومنذ فترة ليست وجيزة تطلَّع الفقراء إلى الدول الغنية بحثًا عن فرص عمل بدول الشمال.. ليست مُجرَّد فرص عمل، ولكنها تطلُّع إلى حياة متكاملة يحاولون فيها استرداد حقوقهم بوعي أم غير وعي.
في البداية.. رحَّب أهل الشمال بأهل الجنوب لأنهم يُشبِعون حاجتهم للقوى العاملة زهيدة الأجر، التي تبحث عن القليل الذي يُشبِع حاجاتها، هذا بغض النظر عن الجوانب الأخرى التي يحتاجها البشر في محاولة للحياة حياة مُرضِيَّة. عندئذ يسافر هؤلاء الفقراء إلى بلاد الأغنياء لعلهم يحصلون على ما يلغي تخلُّفهم، ولكن في الوقت الحاضر الذي لم يعُد الأغنياء فيه في حاجة إلى الفقراء بدأت الأبواب توصد أمامهم، واجتمع الناهبون ووضعوا القوانين التي تضمن لهم تنفيذ ما يريدون. فيتسلل الفقراء بحثًا عن فرص الحياة، وينتقون أساليب متعددة يبتكرها لهم تجَّار البشر حتى يدخلوا بلاد الأغنياء. ومن الغريب إصرار هؤلاء الفقراء على الوصول إلى بلاد الأغنياء حتى لو خسروا حياتهم نفسها في رحلة الذهاب بحرًا. ولو أحصي عدد من فقدوا حياتهم أثناء اجتياز البحر لندمنا كثيرًا، وقد ذكر الكتاب تفاصيل هذه المآسي في تفصيل.
لهذا كانت ضرورة هذا الكتاب.. فالهجرة غير المسئولة هي عرض لمرض عضال هو الفجوة الكبيرة بين من استغَلُّوا ومن اُستُغِلُّوا، بكل أسبابها التاريخيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. ونجح الكاتب في عرض قضيته عرضًا وافيًا، فتكلم عن الظاهرة نفسها، ثم عواملها ثم نتائجها ثم أخطارها. ثم الحلول اللازمة، وههنا أقول إن زوال هذه المشكلة لن يتم إلا بحلول العدل بين أهل الشمال وأهل الجنوب. وتلك قضية ما زال حلّها رهن باختفاء عصر قابيل وهابيل من على وجه الأرض، وهذا يعني أن نلغي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. لذلك علينا أن نُغَيِّر طريقة تفكيرنا أو فليُغَيِّر رؤساء دول العالم طريقة تفكيرهم ويتنازلون عن غطرستهم التي يستمدونها من أوهام النصر الزائف الذي يحلمون به، إنهم يحاربون طواحين الهواء متصورين أن الهدوء سيسود العالم بانتصار طرف على طرف، وهذا غير صحيح.
وأسهب الكاتب في الحديث عن الأبعاد التربويَّة لظاهرة الهجرة غير السويَّة بدءًا بالحديث عن بذورها ثم أسبابها ثم حلّها. فالجدل بين التربية والمجتمع لا يعطي لطرف منهما السبق أو الريادة ولكن يخلق التناقض بين التربية والمجتمع مجتمعًا ذا مواصفات معينة يخلق نقيضه الذي يعود إلى تكوين مجتمع أرقى من سابقه، وتتوالى المجتمعات نحو الصعود، أو الهبوط، في حالة وجود خلل ما في المجتمع، حتى يتحقق لنا نحن البشر ما نريد. تغيير عقليتنا في جدلها مع الواقع هو سبيلنا للتقدُّم والصعود الهانئين. والتخلي عن عقلية “قابيل، هابيل”، التي نعيش بها على الحافة، هي صمام الأمان لتحقيق حياة نحلم بها جميعًا.
لقد أظهر الكاتب في براعة حالة الاستلاب الفكريّ والعقليّ والنفسيّ التي يعيش فيها المُهاجِر المضلَّل، وهذا أمر يكسبنا وعيًا بالحالة النفسيَّة التي يعيش فيها، ومما يتطلبه ذلك من أنماط تربويّة نحن في مسيس الحاجة إليها. وإذا أكدنا أننا نتنفس السياسة بمعنى أن تصرفاتنا كلها تخضع لمعايير سياسيَّة فلا بُدّ هنا أن يكون لدينا وعيٌ بالأبعاد السياسيَّة لقضية الهجرة، وهذا يستدعي الحديث عن دور الأحزاب السياسيّة في خلق هذا الوعي.
المصدر : https://democraticac.de/?p=93133