الهروب غربًا: الأبعاد السياسية لبدء أثيوييا توليد الكهرباء من سد النهضة

د. أحمد أمل

 

في مراسم احتفالية شارك فيها رئيس الوزراء آبي أحمد، أعلنت إثيوبيا بدء توليد الطاقة الكهربائية من سد النهضة. وقد شهد الاحتفال تأكيد رئيس الوزراء عدم استهداف السد الإضرار بمصالح مصر والسودان، بجانب الإعلان عن وصول أعمال البناء الكلية إلى أكثر من 83% من السد. ولم يكن هذا الإعلان مفاجئًا حيث سبقه عقد مجلس الوزراء الإثيوبي برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد أول اجتماع له بموقع سد النهضة في الأسبوع الأول من العام الجديد، قبل أن يُصدر مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي بيانًا أعلن فيه أنه حان الوقت لإثيوبيا ومصر والسودان لبناء السلام والتعاون والتعايش المتبادل والتنمية دون الإضرار ببعضها بعضًا، معتبرًا أن مياه النيل يمكن تطويرها بشكل معقول ومنصف لصالح جميع شعوب الدول المشاطئة دون التسبب في ضرر كبير.

وبعيدًا عن المراسم الاحتفالية وخطاب رئيس الوزراء الإثيوبي الذي حمل الكثير من المبالغات، يثير الإعلان عن بدء توليد الكهرباء الكثير من الأسئلة المهمة المتعلقة بأزمة الداخل الإثيوبي. حيث اقتصر التوليد الأول للكهرباء على أحد التوربينين اللذين تم تنصيبهما في السد بطاقة 375 ميجاوات، على أن يتم تشغيل التوربين الثاني في وقت لاحق لم يحدد بعد، وذلك على الرغم من الإعلانات الرسمية السابقة عن استعداد إثيوبيا لتشغيل التوربينين معًا بما يوفرانه من طاقة إنتاجية قدرها 700 ميجاوات. وفي ظل ما سبق وأن أعلنته إثيوبيا من استهداف توليد طاقة كهربائية كلية من السد تقدر بنحو 6 آلاف ميجاوات، يأتي اقتصار الطاقة المتولدة في الإعلان الأول على هذا القدر المحدود ليقلل كثيرًا من فرص إحراز أثر إيجابي سريع على المعدلات الكلية لإنتاج الطاقة الكهربائية في إثيوبيا، ويجعل من المستحيل توظيف هذه الخطوة في إحداث تحسن ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد بما يمكن أن يرمم الرصيد السياسي المتآكل للحكومة الحالية.

على هذا الأساس، تظهر الدوافع السياسية للحكومة الإثيوبية في محاولة تحقيق إنجاز “رمزي” بالإعلان المتعجل عن بدء توليد الكهرباء من سد النهضة واضحة للغاية، خاصة في ظل الواقع الداخلي المعقد الذي تحاصر فيه الحكومة الإثيوبية العديد من الأزمات المستعصية التي فشلت في تحقيق أي تقدم ملموس في معالجتها.

غموض مستقبل وقف إطلاق النار مع جبهة تحرير تيجراي

تبذل الحكومة الإثيوبية محاولات شاقة لتفكيك الأزمة الأمنية والسياسية متعددة الأبعاد التي تمر بها البلاد منذ ما قبل اندلاع حرب تيجراي. ففي نهاية يناير الماضي قرر مجلس الوزراء الإثيوبي إلغاء حالة الطوارئ المفروضة في البلاد منذ نوفمبر 2021 بسبب الحرب مع جبهة تحرير تيجراي. وقد جاء القرار بعد عقد جلسة استثنائية تم خلالها مناقشة الوضع الراهن في البلاد، واتخاذ قرار برفع حالة الطوارئ مع إحالة القرار للبرلمان للمصادقة عليه. وقد أرجعت الحكومة قرارها إلى تغير الوضع الذي حتم عليها سابقًا فرض الطوارئ لمواجهة التهديدات الأمنية الخطيرة التي كانت تواجهها البلاد بعد أن كانت الحكومة الإثيوبية قد فرضت الطوارئ في البلاد عقب تقدم قوات جبهة تحرير تيجراي نحو العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وبعد مرور نحو شهر وافق البرلمان الإثيوبي على إلغاء حالة الطوارئ المفروضة في البلاد منذ نوفمبر 2021.

وعلى الرغم من أن هذه الخطوات تستهدف تصدير صورة للداخل والخارج بزوال التهديد الذي فرضته جبهة تحرير تيجراي، جاءت العملية العسكرية الجديدة التي بدأتها الجبهة في إقليم العفر في نهاية يناير الماضي لتطرح العديد من الشكوك بشأن حقيقة زوال الخطر من عودة قوات جبهة تحرير تيجراي للتمدد في الأقاليم المجاورة وتكرار السيناريو الهجومي الذي تبنته بين شهري يونيو وديسمبر من عام 2021، مكبدة القوات المسلحة الإثيوبية خسائر فادحة، خاصة مع استفادة الجبهة من وقف إطلاق النار المتبادل في إعادة تنظيم صفوفها داخل إقليمها.

البداية المتعثرة لعملية المصالحة الوطنية

على جانب آخر، دعا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في بيان في مطلع العام الجديد لتسوية كافة الصراعات، وهو ما أعقبه صدور قرار بإطلاق سراح سجناء معارضين، وفي مقدمتهم الناشط الأورومي جوهر محمد ومؤسس جبهة تحرير تيجراي سبهات نيجا، وعدد من قيادات جبهة تحرير تيجراي كان قد تم اعتقالهم خلال العمليات العسكرية. وفي مطلع يناير، صادق مجلس النواب الإثيوبي على مشروع قانون مقترح من مجلس الوزراء لتشكيل لجنة الحوار الوطني كمؤسسة مستقلة، يناط بها إجراء حوار وطني شامل، على أن تضم اللجنة ممثلين لجميع النخب السياسية والاجتماعية المتنوعة بما يسمح بمناقشة مختلف القضايا الوطنية الرئيسية.

وتدريجيًا، بدأت فرص نجاح المؤتمر الوطني في إحراز نتائج ملموسة في التضاؤل. ففي مطلع فبراير قاطعت ثلاثة من أبرز أحزاب المعارضة الإثيوبية الجلسات التحضيرية للحوار الوطني، بعد أن أعلن ممثلو كل من مجلس أورومو الفيدرالي وجبهة تحرير أورومو والجبهة الوطنية لتحرير أوجادين أن اللقاءات التحضيرية للحوار الوطني لم تتسم بالحيادية ولا الشفافية ولا التمثيل، الأمر الذي دفع الأحزاب الثلاثة لمقاطعة الاجتماع الذي دعا له تاجيسا تشافو رئيس مجلس النواب لمناقشة قوائم المرشحين لعضوية المجلس. ومما زاد من غموض مستقبل الحوار الوطني إعلان حزب الازدهار الحاكم الذي يتزعمه رئيس الوزراء آبي أحمد عن استبعاد جبهة تحرير تيجراي وفصيل جيش تحرير أورومو المنشق عن جبهة تحرير أورومو من الحوار الوطني الإثيوبي المرتقب عقده قريبًا والذي يهدف إلى تحقيق توافق بين مكونات الشعب الإثيوبي حول مستقبل البلاد. ومن شأن غياب المعارضين الرئيسيين لآبي أحمد عن الحوار الوطني إفراغه من أي مضمون، واقتصاره على المعارضة الشكلية التي قبلت خوض المنافسة الانتخابية عام 2021 والتي كان تأجيلها المتكرر السبب الرئيسي في اندلاع حرب تيجراي في المقام الأول.

تفاقم الأزمة السياسية والإنسانية في الإقليم الصومالي

في نهاية ديسمبر 2021، أعلنت حكومة الإقليم الصومالي الواقع شرق إثيوبيا أن نحو 3,4 ملايين من سكان الإقليم بحاجة إلى مساعدات إنسانية جراء الجفاف الذي تشهده عدة مناطق بالإقليم، بعد أن بدأت أعداد متزايدة من السكان في النزوح من مناطق الجفاف إلى ضواحي مدينة جيجيجا عاصمة الإقليم. وبالرغم من زيارة رئيس الوزراء آبي أحمد للإقليم للوقوف على واقع الأزمة ولإبداء الدعم لحكومة الإقليم برئاسة مصطفى عمر أحد أهم حلفائه، أدى التدهور المستمر في الأوضاع الإنسانية، وتصاعد السخط على أداء الحكومة الإقليمية، إلى تفاقم أزمة سياسية حادة داخل الإقليم الصومالي بدأت بانشقاق الفرع الإقليمي لحزب الازدهار الحاكم مطلع فبراير إلى فصيلين أحدهما داعم لرئيس حكومة الإقليم والآخر معارض له بعد أن ندد عدد من أعضاء اللجنتين التنفيذية والمركزية للحزب وعدد من ممثليه في البرلمان الإقليمي بما اعتبروه ممارسات تعكس تفشي الفساد في الحكومة الإقليمية. وقد أعقب هذه الأزمة تصاعد ضغوط أحزاب المعارضة وعلى رأسها الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين ومؤتمر القضية الصومالية ضد حكومة الإقليم.

وقد جاءت سياسات حكومة آبي أحمد الخارجية لتفاقم من الأزمة في الإقليم الصومالي، بعد أن رفعت إثيوبيا مستوى تمثيلها الدبلوماسي مع أرض الصومال بتعيين أول سفير لها في هرجيسا في أعقاب الزيارة التي قام بها رئيس أرض الصومال موسى بيحي لأديس أبابا في يناير. وعلى الرغم من محدودية ردود الأفعال الرسمية الصادرة عن الحكومة الصومالية في مقديشيو في ظل ما تتمتع به العلاقة مع إثيوبيا بحساسية بالغة، بادرت الحكومة الصومالية بإلغاء قرار صدر في عام 2017 باعتبار الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين منظمة إرهابية، وهو ما من شأنه منح الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين المزيد من الدعم بما يعزز من قدرتها على التأثير في الأوضاع في الإقليم الصومالي، وهو ما سيأتي بالضرورة خصمًا من رصيد آبي أحمد وحلفائه في ثاني أكبر أقاليم البلاد مساحة.

إجمالًا، يأتي الإعلان الإثيوبي المتعجل عن بدء توليد الكهرباء من سد النهضة كجزء من استراتيجية تستهدف احتواء الأزمة الداخلية التي لا تزال متفاقمة في مختلف الأقاليم الإثيوبية بسبب استمرار تمترس جبهة تحرير تيجراي في إقليمها شمال البلاد بعد خروج القوات المسلحة الإثيوبية منه، وتجدد محاولات الجبهة في إقليم العفر الواقع شمال شرق إثيوبيا، بجانب تردي الأوضاع الإنسانية والسياسية في الإقليم الصومالي، وتحول إقليم أورومو إلى معقل للمعارضة السياسية الرافضة لسياسات آبي أحمد، خاصة بعد اضطرار الأخير للإفراج عن رموز المعارضة الأورومية استجابة لضغوط داخلية وخارجية.

على هذا الأساس عادت الحكومة الإثيوبية لتركز اهتمامها على قضية سد النهضة في محاولة غير مضمونة النتائج لاستعادة قدر من الشعبية المفقودة. لكن يظل من المهم الأخذ في الحسبان الأوضاع المضطربة غرب البلاد حيث يقع السد، في ظل ما شهده إقليم بني شنقول-جوموز من أعمال عنف متكررة استهدفت سكان الإقليم من جماعة الأمهرا، وفي ظل ما شهده الإقليم مؤخرًا من أعمال عنف استهدفت مخيمات اللاجئين والنازحين، وتسببت في زحف أكثر من 20 ألفًا منهم لمحيط مدينة أسوسا عاصمة الإقليم.

وتقلل هذه المؤشرات كثيرًا من إمكانية نجاح استراتيجية الحكومة الإثيوبية في توظيف الإعلان الأخير في تحسين وضعها الداخلي في ظل تشابه الأوضاع في غرب البلاد مع مثيلتها في الشمال والشرق المضطربين، بحيث يظل من المستحيل إحراز أي نجاح في سبيل استعادة الاستقرار بالاعتماد على المبادرات الرمزية وحدها من دون تقديم تنازلات جوهرية ومكلفة لحكومة حزب الازدهار.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18694/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M