رياض محمد
أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى العاصمة الألمانية برلين، في يناير 2023، وقّع وزير الكهرباء، زياد علي فاضل، مذكرة تفاهم جديدة مع شركة سيمنز الألمانية، تستهدف مواصلة التعاون مع الشركة في مجال إصلاح الكهرباء في العراق وتطوير هذا التعاون، حيث أصبحت الشركة فاعلاً أساسياً في هذا القطاع منذ عام 2008. وفي فبراير 2023، وقَّعت حكومة السوداني على مذكرات تفاهم جديدة مع شركة جنرال إلكتريك (جي إي) الأمريكية لغرض تطوير المحطات الكهربائية وصيانتها.
أثارت المذكرات مع الشركتين تساؤلات حول البُعد السياسي لهما، خصوصاً في ظل تنافس غير خفي تدخلت فيه أحياناً حكومتا الولايات المتحدة لصالح “جي إي”، وألمانيا لصالح سيمنز، ودار جزءٌ من تلك التساؤلات حول ما الذي يمكن أن تُغيِّره هذه المذكرات في واقع الكهرباء في العراق، نظراً لأن الشركتين تهيمنان أصلاً على قطاع الكهرباء، في ظل استمرار المشاكل الهيكلية التي تسببت بأزمة الكهرباء في البلاد.
ويُعاني العراق، كما بات معلوماً، من أزمة مستمرة منذ عقود في قطاع الطاقة الكهربائية، وهي أزمة تُلقي بظلالها على معظم القطاعات الأخرى، وتعرقل عمليات تطوير البنية التحتية والصناعات، وتُنغِّص حياة مواطني هذا البلد وتُثير حنقهم، بحيث أن التعامل مع هذه الأزمة صار أحد المؤشرات الأساسية في تقييم أداء الحكومات المتعاقبة كما في اندلاع الاحتجاجات الشعبية.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على طبيعة هذه الأزمة، وتطور العلاقة بين شركة سمينز والحكومة العراقية، والتنافس بينها وبين شركة جنرال إلكتريك (جي إي) الأمريكية، وأسباب الإخفاق في إصلاح القطاع الكهربائي.
أزمة الكهرباء الطويلة في العراق
يعاني العراق منذ عام 1991 من أزمة في قطاع الكهرباء أدت إلى انقطاع مستمر للتيار الكهربائي، يصل أحياناً إلى ثلثي ساعات اليوم في أوقات الذروة في الصيف. حتى العام 1990 كان العراق ينتج ما يكفيه من الطاقة الكهربائية، لكن القصف الجوي لقوات التحالف – الذي قادته الولايات المتحدة عام 1991 خلال حرب الخليج الثانية – للعديد من محطات الطاقة الكهربائية أدّى إلى تدمير كبير في قطاع الكهرباء العراقي.
بعد الحرب، وفي ظل استمرار العقوبات الدولية على العراق، لجأت الحكومة العراقية إلى إعادة إعمار ما يُمكن بنائه من الشبكة الكهربائية، مع التركيز على إعادة الكهرباء إلى العاصمة بغداد، في حين أُهمِلَت المحافظات العراقية الأخرى بشكل عام. مع ذلك، كانت العاصمة تخضع أيضاً لساعات قطع محدودة تصل إلى 5 ساعات يومياً خلال عقد التسعينيات.
بعد سقوط نظام صدام حسين وإنهاء العقوبات الدولية على العراق عام 2003، أنفقت الحكومات العراقية المتعاقبة ما لا يقل عن 80 مليار دولار على قطاع الكهرباء، ذهب نصفها تقريباً في صورة استثمارات في إنشاء محطات توليد جديدة، بينما ذهب النصف الآخر لتمويل النفقات التشغيلية مثل الرواتب وغيرها، بالإضافة إلى شراء الوقود والتيار الكهربائي من دول الجوار. كما أنفقت الحكومة الأمريكية ما لا يقل عن 5 مليارات دولار لإعادة إعمار البنية التحتية لقطاع الكهرباء في العراق.
ذهب جزءٌ كبيرٌ – ربما يصل إلى نصف أو أكثر- مما أُنفق في الاستثمار في قطاع الكهرباء سدى. فقد كان من الممكن أن يصل إنتاج العراق من الكهرباء إلى ما لا يقل عن 40 غيغا واط، وهو ما يسد حاجة البلاد المتزايدة في ظل التكاثر السكاني (ازداد سكان العراق من حوالي 25 مليون في عام 2003 إلى 42 مليون عام 2023)، وازدياد استهلاك الكهرباء. لكن إنتاج الكهرباء العراقي وصل في أقصى حدٍّ له إلى حوالي 23 غيغا واط، مقارنة بحوالي 3 ميغا واط عام 2003، وانخفض مؤخراً إلى أقل من 20 غيغا واط بسبب تراجع إمدادات الغاز الإيراني المستخدم في المحطات الغازية العراقية. ولا يُغطي هذا الإنتاج إلا أكثر بقليل من نصف الحاجة العراقية التي تُقدَّر بحوالي 35 غيغا واط، مما يؤدي إلى استمرار انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في اليوم قد تتجاوز الـ 12 ساعة في ذروة ارتفاع درجات الحرارة في صيف العراق.
لعب الفساد، وسوء الإدارة، والتدخلات السياسية، وعدم الاستقرار والعمليات الحربية والإرهاب، والتجاوز على الشبكة الكهربائية، وعدم وجود نظام تسعيرة كهربائية فعّال في ضياع الجزء الأكبر ممّا أُنفق في الاستثمار في قطاع الكهرباء.
“سيمنز” والعراق
يعود حضور شركة سيمنز في العراق إلى عام 1930 عندما بدأ العراق استيراد مكائن هذه الشركة الألمانية لتوليد الطاقة الكهربائية. كما أنشأت الشركة جسوراً على نهر دجلة في الخمسينيات، وطوّرت البنية التحتية للكهرباء في الثمانينيات. وفي ديسمبر 2008 وقّعت سيمنز مع الحكومة العراقية عقداً قيمته مليار و900 مليون دولار لتجهيز العراق بـ 16 توربين غازي لتوليد الكهرباء، تُنَّصب في خمس محطات كهرباء جديدة، بطاقة إجمالية بلغت 3.19 غيغا واط. وكان من المؤمل أن يُسهم هذا العقد – بالإضافة إلى عقد آخر مع شركة “جي إي” الأمريكية بقيمة مليارين و800 مليون دولار وُقِّعَ في نفس الشهر – في حل أزمة الكهرباء في العراق. لكن هذين العقدين فشلا في تحقيق ذلك.[1]
لكن رغم مرور أكثر من 14 سنة على توقيع عقد سيمنز الكبير في العراق، لم يُنتِج هذا المشروع أكثر من نصف ما وعد به من طاقة إن لم يكن أقل من ذلك. ويعود هذا لجملة من الأسباب الإدارية والتقنية واللوجستية التي تكشف بشكل أساسي فشل الدولة العراقية، وغياب التفكير الاستراتيجي لدى العديد من المسؤولين الحكوميين، والارتجالية العالية في صياغة السياسات العامة، فضلاً عن تأثيرات عدم الاستقرار السياسي والأمني.
فمثلاً، تعاقدت الحكومة العراقية مع شركات من إيران ومصر وكوريا الجنوبية لنصب توربينات سيمنز في محطات الرميلة وبيجي ودبس وتازة ومدينة الصدر، بقيمة 900 مليون دولار. وأدّى قرار العراق التعاقد مع شركات إيرانية في محطتي مدينة الصدر ودبس إلى تأخُّر إرسال التوربينات لسنة كاملة بسبب رفض شركة سيمنز التعامل مع شركات إيرانية أبان العقوبات الأوروبية على إيران حينها. كما أدّى عدم إعفاء الحكومة العراقية لشركة سيمنز من الضرائب – كما نصّ العقد – إلى تأخُّر وصول التوربينات لسنة و4 أشهر أخرى. وفي المحصلة وصلت التوربينات كاملة في عام 2013 بدلاً من 2011 كما نص العقد.[2]
وكانت توربينات سيمنز مُصممة أساساً لتعمل على الغاز بينما نصَّ العقد على أنّ بإمكانها العمل باستخدام الخام والوقود الثقيل. وأدّى ذلك عملياً إلى زيادة ساعات التنظيف والصيانة مما قلّل من إنتاجية التوربينات. كما كانت المحطات تستخدم الدورة البسيطة بدلاً من المركبة التي تسمح باستغلال الغاز العادم الناتج من عمل المحطة في توليد الكهرباء، مما يزيد من إنتاجيتها.
ومع أن الحكومة العراقية وافقت على تمديد عقد نصب محطة مدينة الصدر لشركتين إيرانيتين لمدة سنتين ونصف، بالإضافة لمنحهما تسهيلات أخرى، فقد توقَّف العمل في محطة مدينة الصدر لمدة غير قصيرة بعد تعرُّضها لانفجار في أحد مكوناتها وحريق كبير التهم أجزاء من المحطة. وحتى قبيل الحريق، كانت المحطة تستهلك ما يعادل 40 مليون دولار شهرياً من زيت الغاز مما حولها إلى مشروع خاسر عملياً. وكانت هذه الكميات تنقل بـ 3500 صهريج شهرياً، الأمر الذي أدّى لأضرار بيئية في الضاحية البغدادية التي تضم أكبر تجمُّع سكاني في العراق.
كما عانت محطة بيجي – غير المكتملة أصلاً – من دمار كبير بسبب المعارك بين القوات الحكومية العراقية وتنظيم “داعش” بعد يونيو 2014. ومُنِحَت سيمنز عقداً آخر بقيمة 750 مليون دولار لإعمار المحطة المدمرة. ولم تكتمل أيضاً محطة دبس، حيث سيطر هذا التنظيم على المنطقة بعد يونيو 2014، مما تسبب بتوقف العمل فيها. وقُتل عدد من الفنيين العراقيين والإيرانيين في هجوم لتنظيم “داعش” على المحطة في أكتوبر 2016. ولا تزال المحطة غير مكتملة إلى يومنا هذا. كما تعثَّر تدريب الكادر العراقي لأسباب بيروقراطية، حيث أُرسل غالباً موظفون لا علاقة لهم بإدارة المحطات وتشغيلها إلى هذه الدورات التي نُظِّمت خارج العراق.
تطرح هذه الحقائق سؤالاً عن سر نجاح سيمنز في مصر، وفشلها في العراق.[3] يقول لؤي الخطيب، وزير الكهرباء العراقي الأسبق والخبير في شؤون الطاقة، أن ظروف العراق مختلفة تماماً عن مصر إلى حد أن المقارنة بينهما غير علمية أو مفيدة. ويرى الخطيب أيضاً أن العامل الأهم الذي افتقر إليه العراق، ولا يزال، هو وجود سياسة طاقة متفق عليها، وتنفيذ هذه السياسة وفق جدول زمني معقول دون تدخل الأطراف السياسية المختلفة فيها، بما في ذلك فرض تسعيرة جديدة للكهرباء تتناسب مع كلفة إنتاجه.[4]
ومع أن مشروع سيمنز في العراق قد أخفق، لكن بدفع من نجاح سيمنز في عقدها الضخم مع مصر، وقَّعت الحكومة العراقية مع نفس الشركة مذكرة غير مُلزمة لتنفيذ خارطة طريق عام 2018، بموجبها تعهَّدت الشركة بإضافة 11 غيغا واط للقدرة الإنتاجية العراقية مقابل 14 مليار دولار. كما وقّعت الحكومة أيضاً اتفاقية لتمويل عمليات سيمنز في العراق مع مصرف ستاندارد تشارتر الأمريكي.
وفي عام 2019 وقَّعت الحكومة العراقية اتفاقية مع سيمنز لتنفيذ خارطة الطريق التي اقترحتها الشركة. وتقول سيمنز إن معداتها توفر الطاقة الكهربائية لحوالي 5 ملايين عراقي حالياً، كما أن نصف شبكة التوزيع العراقية يستخدم تقنيات سيمنز. وتتعهد الشركة، وفق خارطة الطريق، بتوفير الكهرباء لـ 40 مليون عراقي بأسعار معقولة. ويشمل ذلك إنشاء محطة كهرباء في واسط – لتضاف إلى محطات الصدر والرميلة والعمارة وخورمال – و13 محطة محولات، وتحديث 40 توربين غازي.
“جي إي” تتحرك لضمان عدم استبعادها من العراق
بعد توقيع اتفاق تنفيذ خارطة الطريق في برلين، وظّفت شركة جنرال إلكتريك (جي إي) الأمريكية نفوذها السياسي في وزارتي الخارجية والتجارة الأمريكيتين والبيت الأبيض للضغط على الحكومة العراقية لضمان عدم استبعادها من العراق. ويبدو أن هذه الضغوط أدت دوراً في عدم تفرُّد سيمنز بالساحة العراقية.[5]
كانت “جي إي” قد حصلت على أكبر عقد كهرباء في تاريخ العراق في ديسمبر 2008، بقيمة مليارين و800 مليون دولار. سُمّي العقد حينها بالميغا ديل Mega deal. كان العقد أيضاً هو الأكبر في تاريخ الشركة (جزئها المتعلق بالطاقة). وقد نص العقد على أن تجهز “جي إي” العراق بـ 56 توربين غازي بطاقة إجمالية تبلغ 7 غيغا واط.[6] أكملت الشركة إرسال التوربينات في عام 2012 بعد تأخير تسببت به جزئياً عدم قدرة العراق على تسديد قيمة العقد بعد انخفاض أسعار النفط في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008. في غضون ذلك تعاقَد العراق مع شركات من اليونان وتركيا والهند والأردن وكوريا الجنوبية ومصر والإمارات والعراق، بالإضافة إلى “جي إي” نفسها لنصب توربينات “جي إي” في 11 محطة كهرباء في العراق. بلغت القيمة الإجمالية لهذه العقود 4 مليارات و100 مليون دولار، مما رفع قيمة مشروع الميغا ديل إلى 7 مليارات و250 مليون دولار.[7]
وكما كان الحال مع توربينات سيمنز، كانت أجهزة “جي إي” مُصممة للعمل على الغاز الذي لا يمتلك العراق التقنيات التي تسمح له بإنتاج ما يكفي منه عبر استغلال الغاز المحروق في آبار نفطه أو احتياطيه الكبير منه لتوليد الكهرباء. وكانت النتيجة استخدام الوقود الخام والثقيل الذي أدّى لزيادة فترات الصيانة والتنظيف، وقلّل من إنتاجية التوربينات. وتكرر استخدام الدورة البسيطة وليس المركبة أيضاً. كما تُركت توربينات محطة الديوانية التي أرسلتها “جي إي” في العراء، وهي معرضة لمختلف الظروف الجوية في ميناء أم قصر لسنة كاملة! وقد توقفت هذه التوربينات بعد تشغيلها بسبب عدم تحمّلها درجات الحرارة في العراق.[8]
كما كانت هناك مشاكل أُخرى تتجاوز ما حدث مع سيمنز. ففي كربلاء حيث نُصبت أكبر محطات كهرباء الميغا ديل، اتضح أن 6 من توربينات “جي إي” من أصل 10 عانت من تشققات في بدنها تشير إلى عيوب في التصنيع أو اختيار المعدن. وربما كان سبب ذلك أنَّ الشركة سلّمت العراق معدات صنعت في الولايات المتحدة – كما نص العقد – ومعدات أخرى صنعت في الصين وفرنسا وهنغاريا في مخالفة للعقد. وعلى رغم أن “جي إي” أصلحت التشققات، فقد أوصى تقرير حكومي رقابي عراقي بمقاضاة الشركة وهو ما لم يحدث.[9]
وكانت تجربة العراق مع الشركات التي نصبت توربينات “جي إي” وأنشأت المحطات أسوأ. فمن أصل 11 محطة، تأخَّرت 4 منها أكثر من عشر سنوات، إمّا بسبب الإهمال أو الفساد أو سوء الادارة أو العمليات الحربية بين قوات الحكومة وتنظيم “داعش” بعد عام 2014، أو كل هذه العوامل مجتمعةً. فقد تنقلت محطة الناصرية بين شركتين فشلتا في إنشائها وانتهى بها المطاف إلى “جي إي” نفسها في عقد إضافي قيمته 700 مليون دولار. وفي نهاية الأمر لم تدخل الوحدة الأولى في المحطة إلى العمل إلا في عام 2020. في حين لم تتعاقد الحكومة العراقية مع أي شركة لإنشاء محطة السماوة أصلاً. وبعد 9 سنوات أُحيلت لشركة “جي إي” أيضاً، ودخلت الخدمة في عام 2019. وفي كلا المحطتين كانت توربينات الشركة قد وصلت العراق قبل 7 سنوات من تفعيلها.[10]
وفي القيارة وعكاز، كانت المحطتان غير مكتملتين أو تعملان جزئياً عندما استولى تنظيم “داعش” على المنطقة في يونيو 2014. وتعرَّضت المحطتان لأضرار بسبب العمليات الحربية هناك. وعادت محطة القيارة للعمل جزئياً في عام 2016، في حين مُنحت “جي إي” عقداً لإعمار محطة عكاز التي اُفتتحت في أكتوبر 2022. وفي المحطات الـسبعة الأخرى، توقفت 5 منها أو هُددت بالتوقف لأسباب مختلفة. كما انتهت أربعة من الشركات التي أنشأتها إلى إدراجها في القائمة السوداء للحكومة العراقية، أو التوصية بمقاضاة الشركة، أو رفض الحكومة العراقية استلامها بسبب عدم التزام الشركة بشروط العقد.[11]
وعرَّضت هذه المخالفات حياة العاملين في المحطات إلى الخطر، كما أضرَّت عموماً بالبيئة في منطقة المحطة. فقد رمت محطة النجيبية في البصرة مخلفات حرق الوقود مباشرة في شط العرب، ما أدّى لتكوين بقعة نفطية لوَّثت المنطقة. وفي العمارة استخدمت المحطة غازاً حامضياً هدد صحة العاملين فيها، وأثّر سلباً في مُعداتها. وفي النجف، افتقرت المحطة التي أُنشئت هناك لنظام سيطرة مما أُضطر المهندسين العراقيين لإدارتها يدوياً. وقد أوصى تقرير حكومي رقابي عراقي بإيقاف عملها حفاظاً على حياة العاملين فيها.[12]
وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على توقيع العقد، وخسارة أكثر من 7 مليارات و250 مليون دولار – بالإضافة لمليارات أخرى أُنفقت على الوقود – لم يحصل العراق على أكثر من ثلث الطاقة الكهربائية التي نص عليها العقد. وهكذا صار عقد “الميغا ديل” أحد أكثر مشاريع الطاقة الكبرى فشلاً في التاريخ. وكان أحد أهم أسباب الفشل، تلاعُب وزارة الكهرباء بالعقود الأصلية التي يوافق عليها عادة مجلس الوزراء، بإضافة ملاحق تمنح المتعاقدين مُدداً إضافية دون تفعيل الشروط الجزائية، مما يغير جوهرياً صيغة العقود بالضد من المصلحة العراقية.
وكان العامل المهم الآخر هو تنصُّل الجميع من المسؤولية. فشركة “جي إي” صنعت التوربينات وأرسلتها، لكن العراق تعاقد مع شركات أخرى لنصب التوربينات. ومن جهة أخرى، فإن وزارة الكهرباء غير مسؤولة عن تجهيز الوقود أو نوعيته. وهكذا تستطيع “جي إي” لوم الشركات التي نصبت توربيناتها أو الوقود غير المناسب. وتستطيع وزارة الكهرباء لوم “جي إي” أو الشركات الأخرى أو وزارة النفط. وتستطيع وزارة النفط لوم وزارة الكهرباء، لأنها استوردت محطات تعمل بالغاز (أجاب وزير النفط حينها حسين الشهرستاني على أسئلة كاتب هذه الورقة، بالقول إنّه اعترض على عقد الميغا ديل، وصوَّت ضده في اجتماع مجلس الوزراء الذي ناقشه لكن اعتراضاته لم يؤخذ بها).[13] ويستطيع رئيس الوزراء [الأسبق] نوري المالكي لوم الفنيين، وقد فعل هذا عام 2013. ويستطيع العراقيون لوم الولايات المتحدة والأجانب عموماً. وهكذا انتهى الأمر بسلسلة من اللوم المتبادل بين الجميع دون تحديد من المسؤول عن هذه الكارثة.
وتقول “جي إي” إن 60% من إنتاج الكهرباء العراقي، أو حوالي 11 غيغا واط، يستخدم توربيناتها المختلفة.
عُقْدة الغاز
بينما يحل العراق في المرتبة الـ 12 عالمياً في حجم احتياطيات الغاز المتوفرة لديه، فإنّ إنتاجه لا يزال متواضعاً، حيث يحتل المرتبة الـ 40 تقريباً، بحوالي 9 مليار متر مكعب من الغاز في عام 2021. وجزء من هذا الغاز يخرج في صورة ناتج عرضي أثناء استخراج النفط، ويسمى بـ “الغاز المصاحب” الذي يُحرق الجزء الأكبر منه لعدم قدرة العراق على استثماره.
ومنذ العام 2009 إلى العام 2018 أجرت الحكومة العراقية 5 جولات تراخيص لزيادة إنتاج النفط والغاز بمشاركة شركات من مختلف أنحاء العالم. وعلى رغم وعود الحكومة العراقية بزيادة نسبة الغاز المستثمَر، فإن كل ما تحقق خلال 10 سنوات – منذ عام 2013 – كان خفضاً متواضعاً لنسبة الغاز المحروق إلى 50%. وقد وقَّعت الحكومة العراقية عقوداً مع “جي إي”، وشركة توتال، وشركة الهلال، وعدد من الشركات الصينية، لمعالجة الغاز المصاحب. لكن هذه العقود تحتاج لسنوات قبل أن تظهر نتائجها.
في المقابل يستورد العراق من إيران ما قيمته حوالي 3.5 مليار دولار سنوياً من الغاز لاستخدامه في محطات الكهرباء. ولو اُستُثمِر كل الغاز المحروق حالياً في العراق فإنّه سيصل إلى ضعف ما يستورده من إيران. وحيث إن الأخيرة تخضع لعقوبات أمريكية خانقة، فإن العراق مُستثنى من هذه العقوبات بشكل دوري، لكنه مع ذلك لا يتمكن من دفع ثمن الغاز الإيراني بالدولار ويلجأ لأساليب بديلة.
في المحصلة، ليست هناك فرصة للعراق لحل مشكلة الغاز المحروق خلال سنوات قليلة، وبهذا فإنّ اعتماده على الغاز الإيراني سيستمر على الأرجح.
استنتاجات وتوقعات
وقَّعت حكومة السوداني مع شركة سيمنز مذكرة تفاهم جديدة في يناير 2023، هدفها إضافة 6 غيغا واط للشبكة الكهربائية، باستغلال الغاز المصاحب، وصيانة توربينات سيمنز العاملة في العراق، وتنفيذ مشاريع طاقة شمسية ورياح، وإنشاء محطات تحويل، بالإضافة إلى تدريب الكوادر العراقية.
ومن الواضح أن حكومة السوداني ستمضي بالتعاون مع شركة “جي إي” أيضاً، بما يعني استمرار تعايش الشركتين في العراق دون احتكار إحداهما لقطاع الكهرباء العراقي، خصوصاً أن لكلٍّ منهما شركاء عراقيين كبار أصبحوا من أصحاب المليارات.
وعلى رغم الوعود المتكررة التي يطلقها المسؤولون العراقيون بتحسين واقع الكهرباء، وبصيف قادم مختلف، فإن كل الظروف والعوامل التي أدّت لفشل مشاريع “جي إي” وسيمنز السابقة في العراق لا تزال مستمرة. لا تمتلك الشركتان، ولا أي طرف عراقي أو دولي حلولاً سحرية لمعضلة الكهرباء في العراق. والحقيقة أن قطاع الكهرباء العراقي كان، ولا يزال، منجماً من الذهب فاضت بركاته على سيمنز و”جي إي”، وشركات أخرى، والأحزاب العراقية الحاكمة، ورجال الأعمال المرتبطين بها، والكادر المتقدم في وزارة الكهرباء.
وعلاوة على الفساد المتجذّر في البلاد، يُعاني هذا القطاع من سوء إدارة، وغياب استراتيجية واضحة وفعّالة وموحدة للطاقة تجمع قطاعات الكهرباء والنفط والغاز معاً. يُضاف إلى ذلك، غياب تسعيرة معقولة للكهرباء، وضعف نظام الجباية بشكل يحرم الحكومة من إيرادات بوسعها تغطية جزء من تكلفة الطاقة الكهربائية، وغلبة المنظور الاشتراكي-الشعبوي في التعامل مع هذا الموضوع. وعندما نأخذ في الحسبان الزيادة السكانية العالية التي تضيف أكثر من مليون عراقي تقريباً كل سنة، والتوسع الاستهلاكي غير المنضبط نفهم لماذا أضاف العراق حوالي 20 غيغا واط منذ عام 2003 دون أن يحقق استقراراً في الإمدادات.
وعلى المدى القريب، يبدو أنّ الاستقرار النسبي الذي تتمتع به حكومة محمد السوداني قد لا يدوم طويلاً. فقد يعود التيار الصدري إلى الواجهة ويقود موجة احتجاجات جديدة. كما أن القوى التي شاركت في انتفاضة تشرين ستُعبّر عن نفسها أيضاً بمعارضة ملموسة. كل هذا سيعني أن عدم الاستقرار السياسي الذي منع تشكل أي سياسة عامة دائمة في العراق منذ عام 2003 يُمكن أن يلقي بظلاله من جديد على قطاع الكهرباء العراقي.
[1] تقرير ديوان الرقابة المالية عن عقد شركة سيمنز مع العراق، 2016.
[2] حتى بعد وصول معدات سيمنز للعراق، واجه المشروع المتعثر مشكلات أخرى؛ فقد تضررت شبكات الضغط العالي التي أرسلتها سيمنز أثناء شحنها عبر البحار. كما احترقت معدات أخرى في ميناء أم قصر في سبتمبر 2012، بسبب سوء ظروف الخزن. راجع: تقرير ديوان الرقابة المالية عن عقد سيمنز مع العراق، 2016.
[3] وقَّعت سيمنز مع مصر، في عام 2015، عقداً ضخماً قيمته 9 مليار دولار لتجهيز 24 توربين غازي بطاقة إجمالية تبلغ 14.4 غيغا واط. وقد أُنشِئَت 3 محطات كهرباء كبرى نُصِّبت فيها توربينات سيمنز. وتعاقدت مصر مع شركة أوراسكوم المصرية لنصب التوربينات وإنشاء المحطات، التي دخلت إلى الخدمة في عام 2017، واكتملت في عام 2018. وتنتج مصر حالياً 5 أضعاف ما ينتجه العراق من الغاز مما يكفيها لتشغيل التوربينات. كما استخدمت المحطات الدورة المركبة، وهو ما زاد من إنتاجيتها. وقد دُرِّب كادر مصري من 600 مهندس وفني لإدارة المحطات وتشغيلها. وحققت المحطات إنتاجية بلغت 65% وهي نسبة لا باس بها. وفي عام 2015 أقرَّت مصر قانون الكهرباء الجديد الذي رفع تسعيرة الكهرباء.
[4] مقابلة هاتفية مع لؤي الخطيب، 2022.
[5] مقابلة بالهاتف مع مسؤول عراقي سابق فضَّل عدم ذكر اسمه، 2021.
[6] يستند هذا الجزء من الورقة إلى عدة تقارير صادرة عن ديوان الرقابة المالية عن مشروع الميغا ديل.
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] في المقابل دفع العراق لـ “جي إي” مبالغ إضافية تبلغ حوالي 250 مليون دولار راح أغلبها لمواد احتياطية كان من المفترض تجهيزها وفق العقد الأصلي. كما لم يستفد العراق من مدة الضمان البالغة 18 شهراً، لأن أيّاً من توربينات “جي إي” لم تدخل الخدمة خلال 18 شهراً من وصولها للعراق. راجع المصدر السابق.
[10] المصدر السابق.
[11] المصدر السابق.
[12] المصدر السابق.
[13] أجاب الشهرستاني على أسئلة كاتب الورقة برسالة إلكترونية في عام 2015 عندما كان وزيراً للتعليم العالي.
.
رابط المصدر: