تأملات قرآنية من الآية الخامسة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)

التأمل الأول :

يمكن أن نميّز متطلبات الحياة المشروعة عن متطلبات الحياة الدنيا المرفوضة من خلال ما يغتر الإنسان به ، فما يغرّ الإنسانَ يجرّه شيئاً فشيئاً ليكون غاية وليس وسيلة لبلوغ المتطلبات المشروعة في هذه الحياة لتكون مزرعة الآخرة ، فالمال مثلاً مطلوب لتحقيق رضا الله سبحانه وإحقاق الحق وإبطال الباطل ونصرة الدين والمستضعفين ، فإن استطاع تسخير هذا المال لتحقيق تلك الغايات ، وتمكّن من تركه إن شَعَرَ بأن هذا المال سيُبعده عن تلك الغايات وكان سبباً ومصدراً للاغترار والانشغال به عن الغايات السامية والنبيلة فسيكون إمتلاكه بعيداً عن الاغترار .

وما ينطبق على المال ينطبق على المغريات الدنيوية الأخرى ، كالمنصب والوجاهة الدينية والاجتماعية والسياسية والرسمية ، أو كثرة الأتباع والجماهير ، بل وحتى زيادة المتابعين والمشتركين في مواقع التواصل الاجتماعي .

 

التأمل الثاني :

ربما لو تُرِك الإنسان عموماً – والمؤمن خصوصاً – من دون إغواء وخداع لتمكّن من الابتعاد بنسبة كبيرة عن مغريات الحياة الدنيا ، ولكنّ إبليس عليه لعائن الله أقسم مُصرّاً على الوقوف بطريق كل إنسان كي لا يكون مؤمناً ، وإن فَلَتَ وصار مؤمناً بلطف الله تعالى فسيكثّف جهوده لِبَثِّ المغريات كي يُوقِف مسيره الإيماني ويعرقله بل ويسعى لإعادته الى المستويات المتدنية .

ومن أجل تحقيق ذلك فإن إبليس عليه اللعنة يستعين بأوليائه من الجن والإنس ، وهذا يعني أن من أشكال ومصاديق أولياء إبليس من الناس هم الذين يَعرِضُون ما يَغرّ الإنسان من مغريات الدنيا ، وقد لا تكون هذه المغريات محرمة ولكنها تكون ملهيّة عن التقدم في التكامل الإيماني خصوصاً عند المؤمنين ، فعلينا الحذر كل الحذر من هؤلاء .

 

التأمل الثالث :

عندما يُخاطَب الناس عموماً فيُفهَم على أنه مُوجَّه للمؤمنين والكافرين ، ومن الثوابت عند عموم الناس – المؤمنين والكافرين – أن الحياة الدنيا تنتهي بالموت ، وبالتالي فإن العقلاء الذين يحترمون عقولهم لا يقبلون للغَرور بأن يغريهم بأمور وقتية زائلة تشغلهم عن أمور أهم ، ولا يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا سلعة بأيدي الغَرور ، فيرفضون التوافه من الحياة التي تُبعِدَهم عن تحصيل العلوم النافعة والمفيدة ولو على المستوى الدنيوي ، وتطبيق هذا المنهج قد جاء بالثمار الوفيرة في حياة غير المؤمنين ، إذ نرى العلماء الذي ابتكروا وطوروا واخترعوا التقنيات الحديثة لم تغريَهم الملهيات والرذائل ولم يتأثروا بدعوات الغَرور من البشر .

هذا المنهج الناجح في الحياة الدنيا جاء نتيجة الوثوق بالعقل ومخرجاته ، والعقل هو أحد مصاديق الحق الذي وعدنا الله تعالى بالنجاح إن إتبعناه .

 

التأمل الرابع :

بما أن المخاطَبين هم الناس جميعاً ، مؤمنون وغير مؤمنين ، وأن المؤمنين وحدهم يؤمنون بأن وعد الله حق ، فينبغي أن يستفيد المؤمنون من تجارب الآخرين من غير المؤمنين باعتبارهم أكثر اغتراراً بالحياة الدنيا وأن عدم إيمانهم هو بسبب إنصياعهم واستسلامهم لما يغرّهم الغَرور ، أما المؤمنون فَهُم – بشكل عام – في مَأمَن من هذا المغريات لأن إيمانهم صار حاجزاً يصد هجمات الغَرور .

وبالتالي فما يتورط فيه غير المؤمنين من تَبِعات إتباعهم للمغريات ولوساوس الغَرور هو إثبات للمؤمنين بأن ( وعد الله حق ) ، وما وقع فيه غير المؤمنين يجب أن لا يقع فيه المؤمنون ، وكما سُئل لقمان الحكيم: ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من الجهلاء، كلما رأيت منهم عيباً تجنبته .

 

التأمل الخامس :

الناس بطبيعة الحال إما مؤمنون وإما غير مؤمنين ، ومما يميز المؤمن عن غير المؤمن إيمانه بأن وعد الله حق ، ولا توجد درجة واحدة من الإيمان بهذا الوعد كما لا توجد درجة واحدة من عدم الإيمان به ، فهناك تدرج من الإيمان المطلق بالوعد الإلهي نزولاً الى الكفر المطلق به ، ولكل مستوى من مستويات الإيمان بهذا الوعد هناك تبعات ونتائج تناسبه ، ومن هذه النتائج والتبعات هو مستوى الاغترار بالحياة الدنيا وما يقدّمه الغَرور من مغريات التي قد لا تكون في حقيقتها مغرية ولكن يزوّقها ويجمّلها إبليس وجنوده عليهم لعائن الله جلت قدرته .

ويمكن أن يكون مستوى الاغترار بالحياة الدنيا هو إشارة ودلالة ومعيار وانعكاس عملي للإيمان بالوعد الإلهي ، ومن خلاله يمكن أن يعرف كل واحد منا مستوى إيمانه بهذا الوعد .

 

التأمل السادس :

جهاد النفس من أفضل الوسائل – إن لم يكن أفضلها إطلاقاً – لتجنب مغريات الحياة الدنيا وما يُزيّنه إبليس وجنوده وأولياؤه ، لأن النفس الأمارة بالسوء تدفع صاحبها نحو ما يمتعها ، فإن لم يكن هناك قائداً حازماً لها ( وهو العقل ) فستتأثر بكل ما يمكن أن يغريها ، وربما ستبحث عن ما يغريها حتى وإن لم يكن في ذاته غير مُغرٍ ، وهذا من أدنى المستويات الأخلاقية ، بينما نجد المجاهد لنفسه يبتعد عن كل ما يمكن أن تغتر به نفسه ، وعلى رأسها المحرمات ، وهناك مستوى أعلى تُترك فيه حتى المكروهات ، لأنه يؤمن بأن ما وعد به الله سبحانه من ثواب وعقاب حقٌ .

ومن أوضح مصاديق هؤلاء المجاهدين المجاهدون في سبيل الله الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولا خطط إبليس وشركائه وآمنوا بما وعدهم الله تعالى من مراتب عليا في جنات الخلد .

 

التأمل السابع :

إن الناس – كما هو معلوم – بمستويات إيمانية مختلفة ، تبدأ من الصفر الى أعلى درجات الإيمان (100%) ، والمؤمنون يحتلّون جزءاً من هذا التدرج ، لذا يختلف مستوى إيمانهم من شخص الى آخر ، وبالتالي فإن الإيمان بأن الوعد الحق لله سبحانه لا يكون مكتملاً عند البعض بحيث لا يؤمنون (عملياً) بأنه حق في الآخرة ، بل والبعض غير مؤمن (عملياً) بأنه حق حتى في الدنيا ، لذا يتطلب إثبات ذلك الوعد (عملياً) في الدنيا بأنه حق بحيث يُقنع من عنده عقل وقلب سليم بذلك ، عندها نرفع درجة غير المؤمنين (نظرياً) ليؤمنوا نظرياً بذلك عسى أن يؤمنوا عملياً يوماً ما ، ونرفع درجة غير المؤمنين (عملياً) أيضاً ليكونوا مؤمنين نظرياً وعملياً ، إضافة الى ذلك فإنه يسهل إثبات أن الوعد الإلهي حق في الآخرة أيضاً ، إذ أن من يتحقق وعده في الدنيا من الراجح – إن لم يكن من الأكيد – تحقق وعده في الآخرة .

 

التأمل الثامن :

إن الوفاء بالوعد أمر محبوب ومطلوب فطرياً بحيث يتفق عليه جميع البشر ، فأيما شخص يفي بوعده ولا يخلفه فيكون محترماً بين الناس ، ومن هذه الزاوية يمكن أن نفهم مخاطبة الآية للناس جميعاً وليس للمؤمنين فقط .

ومن يريد أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه ويتحلى بهذه الصفة الجميلة ( الوفاء بالوعد ) فعليه تجنب مغريات الحياة الدنيا ووساوس الغَرور المانعة من ذلك ، لأن التحلي بالوفاء بالوعد يستلزم التخلي عن بعض هذه المغريات كالراحة والمال والمنصب والسمعة وما شابه ، وهذا ما لا يتحمله المخلفون للوعد .

 

التأمل التاسع :

من أكثر العلامات المعروفة للمنافق هو أنه يُخلف وَعدَه مع الآخرين ، وما صارت هذه الصفة علامة للمنافق إلا لتجذرها فيه بسبب اغتراره بالحياة الدنيا وتأثره بخُدَع إبليس وجنوده ، أما الطرف النقيض وهو المؤمن المتخلق بأخلاق الله عز وجل فإنه لا يرى من المناسب له أن يخلف وعده فضلاً عن ابتعاده عن علامة واضحة من علامات المنافق ، ولو أنه – أي المؤمن – ابتعد عن مغريات الحياة الدنيا فقط للوفاء بالوعد لكفى ، ولو أن وفاءه بالوعد الذي قطعه مع الله جل وعلا رداً وجزاءاً على وفاء الله بوعده تجاه خلقه لكفى ، فإيمان المؤمن بالله سبحانه هو إقرار واعتراف ووعد قطعه على نفسه ويجب الوفاء به ، والابتعاد عن مغريات الحياة الدنيا هي إحدى وأُولى خطوات الوفاء بالوعد المقطوع مع الله جل شأنه من خلال الإيمان .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M