في ختام جولته التي شملت دول مجموعة السبع G7، حذر رئيس الوزراء الياباني من أن شرق آسيا قد تصبح “أوكرانيا التالية” وأن المخاطر الأمنية في هذه المنطقة حقيقية “للغاية”، ويأتي ذلك التطور لاحقًا لإعلان اليابان عن أكبر عملية تحشيد عسكري في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك ضمن الاستراتيجية الجديدة التي أطلقتها طوكيو للأمن القومي خلال الشهر الماضي، وتضمنت رفع الميزانية الدفاعية في بلد التزمت حالة من السلم منذ انتهاء آخر الحروب العالمية والتي منيت فيها دول المحور بهزائم عسكرية وسياسية أجبرتها على اتخاذ موقف الدفاع وليس الهجوم، وهو التطور الذي وصفه الكثير باللافت وأنه أطلق خصيصًا لمواجهة الصين.
وتأتي جولة رئيس الوزراء الياباني التي استثنيت فيها برلين على خلفية تعقيدات في الجدول الزمني، في ظل تزايد المخاطر الجيوسياسية والتهديدات المتزايدة للأمن القومي للدول وفي بيئة يمكن وصفها بغير الآمنة بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والتهديد الناشئ في تايوان الذي يقلق اليابان بدرجة كبيرة ربما حتى بدرجة أكبر من أي تحرك آخر للصين باعتباره تحركًا أحاديًا يهدف إلى تغيير الوضع الراهن بالقوة الجبرية، مما يضرب مرة أخرى بعد الحرب الروسية في قواعد النظام الدولي السليم.
وتنبغي الإشارة هنا، إلى أن طوكيو سوف تستضيف القمة المنتظرة لمجموعة السبع خلال مايو القادم ومن ثم فإن الزيارة تأتي في إطار التحضير للقمة وحشد الدعم لطوكيو، في الوقت الذي يعاني فيه الحزب الحاكم في اليابان من مشاكل هيكلية، تمثلت في استقالة 4 وزراء خلال فترة قصير للغاية إضافة لفضائح أخرى تتعلق بعلاقات حزبه بكنيسة التوحيد المثيرة للجدل. وهي التنظيم الديني الذي يشار إليه باعتباره المسؤول عن اغتيال رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في الفضيحة المالية الدينية التي عرفت بفضيحة “شراء الأرواح”، والتي راح آبي ضحيتها أو بعبارة أخرى ضحية للتلاعب بثنائية الدين والسياسة.
ترتيبات أمنية
جولة كيشيدا التي تضمنت روما ولندن وكندا وكذلك واشنطن، هدفت بشكل أساسي إلى زيادة مستويات الشراكة العسكرية بين طوكيو وهذه العواصم – فتم التوقيع مع بريطانيا على وضع إطار قانوني يسمح بالزيارات المتبادلة للقوات المسلحة بين البلدين بما يزيل العقبات أمام إجراء تدريبات عسكرية مشتركة في اليابان أو بريطانيا – وفي الزيارة لواشنطن تم الاتفاق على السماح لطوكيو بخطط لتسليح نفسها صاروخيًا بحيث تكون هذه الصواريخ قادرة على ضرب أهداف في كوريا الشمالية والصين، خصوصًا في ظل وجود فجوة بين اليابان من ناحية والجارتين النوويتين من ناحية أخرى، وكذلك تفعيل اتفاقية الدفاع الثنائية بين البلدين والحد من وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة.
كذلك تتطلب القدرات الدفاعية الجديدة لليابان من واشنطن وطوكيو، مراجعة المبادئ التوجيهية التي تحدد الأدوار التي يلعبها الطرفان في تحالف عمره عقود يسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بالسفن الحربية والطائرات المقاتلة وآلاف القوات في اليابان، مع الاعتبار أن هذه المبادئ التوجيهية تمت مراجعتها لآخر مرة في عام 2015، ومن ثم فإنه من المتوقع أنها كانت على أجندة النقاش خلال الاجتماع الذي جمع بين رئيس الوزراء الياباني ورئيس الولايات المتحدة عبر تقنية الفيديو كونفرانس لمدة 80 دقيقة. وفي نفس السياق وعدت الولايات المتحدة بتوفير الدعم لليابان في نزاعها مع الصين بشأن جزر سينكاكو غير المأهولة، التي تحظى بأهمية استراتيجية بالنسبة لطوكيو إلى جانب الاتفاقية المشتركة بين اليابان والولايات المتحدة، والتي تسمح للقوات الأمريكية بالتمركز في اليابان وتمتلك طوكيو اتفاقية شبيهة مع أستراليا فقط.
ويضاف إلى ما تقدم أن واشنطن وطوكيو أبرمتا اتفاقية لتعزيز التعاون الأمريكي الياباني في الفضاء، ويستهدف الاتفاق تقوية الشراكة في مجالات مثل البحث في الفضاء والتكنولوجيا والنقل، والبعثات الروبوتية على سطح القمر، والبعثات المتعلقة بالمناخ. ومن زاوية أخرى تتوقع واشنطن من طوكيو أن تساعد في توريد وتخزين الوقود والذخائر في حالة الطوارئ في تايوان.
وفي نفس السياق أعلن المسؤولون الأمريكيون واليابانيون، عن تعديل لوجود القوات الأمريكية في جزيرة أوكيناوا جزئيًا لتعزيز القدرات المضادة للسفن التي ستكون مطلوبة في حالة التوغل الصيني في تايوان أو أي أعمال عدائية أخرى في المنطقة. كما تقوم اليابان بتقوية دفاعاتها في جزرها الجنوبية الغربية القريبة من تايوان، بما في ذلك يوناغوني وإيشيجاكي، حيث يتم بناء قواعد جديدة.
وتأتي الترتيبات الدفاعية الفضائية، في إطار ما أوردته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بشأن العديد من أسلحة الليزر الصينية الأرضية – بدرجات متفاوتة من القوة- يجري تطويرها لتعطيل أو استهداف الأقمار الصناعية – في اختبار عام 2007، وأسقطت الصين قمرًا صناعيًا صينيًا قديمًا للطقس من قاعدة في مقاطعة سيتشوان. بما يعني أن أقمار الاتصالات الحيوية في اليابان غير محمية.
حرب الرقائق
لم يفوت الجانبان الأمريكي والياباني فرصة التعاون التجاري، للحد من قدرة الصين على الوصول لأسواق الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى منح ميزة عسكرية للصين التي تزداد حزمًا ناحية التطوير العسكري، ويأمل المسؤولون الأمريكيون أن إبقاء الرقائق الأكثر تطورًا – والأدوات اللازمة لجعلها – بعيدًا عن أيدي الصين سيبطئ تقدمها في التقنيات المتقدمة. بالإضافة إلى ضمان وصول الشركات المصنعة لهما إلى المكونات التي تعتبر أساسية للصناعات التي تعتمد على التكنولوجيا الجديدة مثل تخزين البيانات والذكاء الاصطناعي والحوسبة.
وعلى الرغم من أن كيشيدا قال إنه يدعم محاولة بايدن في تقييد وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة مع قيود التصدير، إلا أنه لم يوافق على مطابقة القيود الشاملة على صادرات معدات تصنيع الرقائق التي فرضتها الإدارة الأمريكية في أكتوبر الماضي بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي الياباني على المعدات العسكرية الأمريكية، ولكن مع هذه الجهود المبذولة من قبل الولايات المتحدة، فإن اليابان وهولندا إذا لم تقوما بجهد على نفس القدر، فإن بكين ستعمل من جانبها على تطوير تكنولوجيات جديدة إما للنفاذ لسوق أشباه الموصلات أو الحصول على تقنيات أكثر تطورًا، والجدير بالذكر هنا أنه عندما كشفت إدارة بايدن النقاب عن ضوابط صارمة على الصادرات في أكتوبر الماضي بهدف منع الصين من أن تصبح رائدة عالميًا في مجال أشباه الموصلات المتقدمة، كانت تفتقد عنصرًا رئيسًا وهو دعم حلفائها عن طريق فرض القيود الخاصة بهم. ولكن على الرغم من وعد وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني، ياسوتوشي نيشيمورا، بالعمل عن كثب مع واشنطن بشأن ضوابط التصدير، إلا أنه لم يصرح ما إذا كانت طوكيو ستمتثل للقيود الأمريكية الشاملة؛ لأنه مفهوم بطبيعة الحال أن اليابان هي أكبر مُنتج لمعدات الأدوات المتخصصة اللازمة لتصنيع رقائق متقدمة وتملك شركاتها 27٪ من حصة السوق العالمية، وفقًا لجمعية صناعة أشباه الموصلات وتعتمد على الصين في حوالي ربع إيراداتها.
ومن زاوية أخرى، فإنه على الرغم من التحركات الاستراتيجية المعاكسة لليابان تجاه الصين، إلا أنها لا زالت تعد أكبر شريك تجاري لها حيث بلغت التجارة البينية 371.4 مليار دولار أمريكي في عام 2021 -وفقًا للجمارك الصينية- مما يخلق نوعًا من الصداع الدبلوماسي لطوكيو ويحد من قدرتها على الفصل بين الاقتصاد والسياسة، ولطالما كانت اليابان تتعامل مع دول مثل الصين وروسيا بينما تتمتع بالحماية الأمنية لتحالفها مع الولايات المتحدة. لكن الفجوة العميقة التي زادت عمقًا بين الدول الديمقراطية والأنظمة الشمولية خصوصًا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، يبعد اليابان عن هذه السردية في المستقبل إذ بات من الضروري أن تصر على انحيازاتها. وفي سياق تأكيدي أجرى كيشيدا مكالمة هاتفية مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل أن يشرع في رحلته، تعهد فيها بأن تعزز اليابان علاقاتها مع أوكرانيا ولعب دورًا نشطًا في تقديم مساعدات إعادة الإعمار، كما دعت طوكيو في انتقاد مبطن لروسيا والصين مجلس الأمن الدولي للتوحد حول مبدأ سيادة القانون.
ختامًا؛ من التعاون الدفاعي إلى الأمن الاقتصادي ومعايير الاقتصاد الرقمي، تحتل اليابان مكانة مركزية في المبادرات السياسية الرئيسة التي تدعم استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي وخارجها. ولذلك فليس من المستغرب إذن أن يدعو البيت الأبيض كيشيدا للتوسع في رؤيته لدور اليابان القيادي في الشؤون العالمية وإعادة التأكيد على حيوية التحالف بين الولايات المتحدة واليابان، حيث يعمل البلدان على تشكيل النظام الإقليمي والعالمي الذي من الممكن أن يتم تفعيله عبر إعادة النظر في مسألة انضمام الولايات المتحدة المبكر إلى الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادي، وكذلك تفعيل مبدأ التدفق الحر للبيانات بثقة والذي اقترحه في الأصل رئيس الوزراء السابق شينزو آبي.
ويندرج تحت لواء هذا التحالف الإقليمي دول أخرى من بينها الهند، وقد أطلقت اليابان والهند أول تدريبات عسكرية جوية مشتركة قرب طوكيو بهدف تعزيز روابطهما الأمنية والدفاعية بمواجهة نفوذ الصين المتنامي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وضمت المناورات الجديدة 8 طائرات مقاتلة يابانية في حين شاركت الهند بـ 4 مقاتلات وطائرتي نقل وناقلة للتزود بالوقود في الجو. إلا أن تزايد وتيرة هذه المناورات العسكرية يخلق حالة محمومة من سباق التسلح وخصوصًا في منطقة شرق آسيا، وترتبط بطبيعة المواجهة التي تخوضها الولايات المتحدة مع حلفائها اليابان وكوريا الجنوبية، في مقابل خصومها الكبار الصين وروسيا وكوريا الشمالية ولو حدث هذا سوف يشكل أكبر سباق تسلح شهدته آسيا على الإطلاق؛ لأن ثلاث قوى نووية كبرى بالإضافة إلى بلد سريع التطور، تتنافس جميعها من أجل التفوق في واحدة من المناطق البرية والبحرية الأكثر تنازعاً في العالم.
.
رابط المصدر: