مع تصاعد التحديات أمام حلف شمال الأطلسي جراء الحرب الأوكرانية تجدد الصراع بين تركيا واليونان العضوين بالحلف ما يعقد من موقفه في المرحلة الحالية. وتأزم المشهد بين الدولتين هذه المرة بشكل أكبر نظرا لاقتناع اليونان بأن الدور الفعال الذي تلعبه تركيا في الأزمة الأوكرانية يمنحها فرصة لتحقيق مكاسب في بعض القضايا الخلافية بينهما التي تجددت بالتزامن مع مرور 100 عاما على معركة ” دوملوبونار” التي انتهت بانتصار تركيا على اليونان.
أسباب التصعيد الجديد
دخلت العلاقات بين تركيا واليونان فصلا جديدا من التوتر عقب إعلان وزارة الدفاع التركية في 28 أغسطس 2022 تعرض مقاتلاتها من طراز ” إف – 16″ لمضايقات من صواريخ دفاع جوي يونانية بعد تهديدها وإقفال الرادار عليها. واعتبرت تركيا ما فعلته اليونان ” عمل عدائي” وفقا لقواعد الاشتباك في الناتو وكانت طائراتها بمهمة للحلف في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط أثناء استهدافها بنظام الدفاع الجوي اليوناني ” إس – 300″. وفي المقابل نفت اليونان أي اتهامات تركية بشأن إغلاق أجهزة استشعار الطائرات التركية، منوهة إلى واقعة أخرى حدثت في 23 أغسطس 2022 عندما أقلعت 4 مقاتلات يونانية لاعتراض 5 مقاتلات تركية دخلت على مسار مجموعة من مقاتلات ” بي 52- إس” الأمريكية الحاصلة على تصريح بالتحليق بالمجال الجوي لليونان.شرق المتوسط ـ ماذا تغير في الموقف التركي الأوروبي ؟
خلافات مزمنة بين حليفين الناتو
جزر إيجة
عادت قضية تسليح جزر بحر إيجة إلى الواجهة خلال عام 2022، عقب إعلان الخارجية التركية في 10 فبراير 2022 أنها ستبحث مسألة السيادة على الجزر ما لم تتخل اليونان عن تسليحها، ونوهت إلى انتهاك اليونان وضع الجزر 229 مرة منذ بداية العام الجاري بالمركبات الجوية والبحرية العسكرية ما دفع تركيا لتقديم رسالتين للأمم المتحدة بشأن وضع الجزر التي مُنحت لليونان بموجب اتفاقيتي باريس ولوزان.
ولم يتوقف السجال بين الدولتين عند هذا الحد بل شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من لهجته مطالبا اليونان بوقف تسليح جزر إيجة، وقال في 9 يونيو 2022 ” إنه يتعين على اليونان التخلي عن التصريحات والأفعال التي ستؤدي إلى الندم” منتقدا السماح لليونان بإجراء تدريبات عسكرية بمشاركة الناتو ودول ثالثة على الجزر التي لا تتمتع بصفة عسكرية.
وجاء رد اليونان في 9 يونيو 2022 بنشر 16 خريطة توثق ما أسمته بـ ” حجم النزعة التحريفية التركية”، وشددت على أن ما تروج له تركيا في أحقيتها في نصف الجزر وأجزاء كبيرة من البحر المتوسط مجرد ادعاءات. وطالب المتحدث باسم الحكومة اليونانية جيانيس أويكونومو أنقرة بوضع نهاية للاستفزازات التي تنتهجها والالتزام بالقانون الدولي. بينما استدعت تركيا السفير اليوناني في أنقرة للتنديد بممارسات اليونان في الجزر في 26 سبتمبر 2022. وسيطرت اليونان على الجزر بموجب معاهدات لندن 1914 ولوزان 1923 وباريس 1947، وبدأت في تسليح 18 جزيرة بعد أقل من عقدين من آخر معاهدة لمنع اقتراب السفن القادمة من الساحل الغربي لتركيا، وفي المقابل لم تبدي تركيا اعتراضها على التسليح إلا بعد اكتشاف احتياطات كبيرة من الغاز والنفط في شرق المتوسط.
المجال الجوي
اشتد الخلاف بينهما في 29 أبريل 2022 بشأن تحليق طائرات عسكرية تركية فوق الأجواء اليونانية وبحر إيجة، وبررت الأولى الطلعات الجوية بأنها رد على انتهاكات جوية يونانية بالقرب من السواحل التركية يومي 26 و28 أبريل 2022 وانتهاكات أخرى فوق مناطق ” ديديم وداتشا و دالامان”. بينما اتهمت اليونان تركيا بانتهاك سيادتها وتقويض وحدة الناتو والأمن الأوروبي بعد تحليق مقاتلات تركية ” إف – 16″ فوق مناطق سكنية وشرق بحر إيجة ما دفعها لاستدعاء السفير التركي وتسليمه احتجاجا حاد اللهجة.أمن شرق المتوسط … هل من مواجهة عسكرية مابين تركيا و اليونان ؟ بقلم جاسم محمد
الهجرة
تحولت الحدود بينهما السنوات الأخيرة لمعابر أساسية للمهاجرين، و أعلن وزير حماية المواطنين اليوناني تاكيس تيودوريكاكوس في 6 سبتمبر 2022 اعتزام بلاده زيادة طول السياج المقام على حدودها الشمالية مع تركيا إلى 140 كيلو مترا لمنع دخول المهاجرين، وشُيد السياج عام 2012 وأضيف له آخر امتداد عام 2021 بعد إعلان تركيا أنها لن تمنع مرور مهاجرين ما أدى لمحاولة عبور عشرات الآلاف من المهاجرين من تركيا لليونان.
الحدود البحرية والمسألة القبرصية
يمتد التوتر بين أنقرة وأثينا إلى الحدود البحرية مع ظهور ثروات جديدة بالمتوسط بجانب الصراع بشأن قبرص الذي يعود إلى عام 1974 بعد سيطرة تركيا على أجزاء منها كرد على محاولات اليونان لضم قبرص بالكامل. وتدخلت تركيا في الجزيرة مستهدفة القبارصة اليونانيين وانقسمت قبرص إلى الجزء الشمالي للقبارصة الأتراك والجزء الجنوبي للقبارصة اليونانيين، وظلت الأوضاع كما هي حتى تجدد الصراع بين الطرفين في عام 1996 بعد خلاف حول إحدى جزر بحر إيجة، وفي عام 2020 احتكت سفن تركية بأخرى يونانية أُثناء التنقيب عن مصادر الطاقة بمناطق النزاع..شرق المتوسط ـ ماذا تغير في الموقف التركي الأوروبي ؟
موارد المتوسط
على مدار الـ 10 سنوات الماضية كثف الجانبان اليوناني والتركي عمليات التنقيب بالمتوسط، وفي 9 أغسطس 2022 أطلقت تركيا السفينة ” عبد الحميد خان” من مرسين جنوب البلاد لمهمة تنقيب عن الطاقة في المتوسط، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن “التنقيب تم ضمن مناطق سيادتنا وليس بحاجة إلى إذن من أحد” مؤكدا على وجود 4 سفن تنقيب وسفينتي مسح جيولوجي. وجاءت تصريحاته ردا على اتهامات اليونان وقبرص لبلاده بتأجيج التوتر بإرسال هذه السفينة.
أزمة تؤرق الناتو
يضع الخلاف التركي- اليوناني حلف الناتو في مأزق ولا يستطيع تفعيل المادة الخامسة من ميثاقه التي تنص على أن أي هجوم على أي عضو بالحلف بمثابة هجوم على جميع الأعضاء، فالخلاف هنا بين خصمين ينتميان إليه. ويتبنى الناتو في هذه الأزمة سياسة التهدئة والحياد بالتأكيد على ضرورة التقاسم العادل لثروات المتوسط وضمان حرية عمل الحلف في البحرين الأسود والمتوسط.
ودعا الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ في 14 يونيو 2022 البلدين إلى تسوية الخلافات في بحر إيجة بروح الثقة والتضامن بين الحلفاء، وفي 30 أغسطس 2022 تسببت تهنئة قيادة الناتو البرية “LANDCOM ” لتركيا بمناسبة الذكرى المئوية لمعركة دوملوبونار في غضب اليونان ما دفع القيادة لحذف التغريدة، واعتبرت تركيا التصرف نتيجة الضغوط اليونانية على الناتو. وتزايدت المخاوف على وحدة الناتو من تلويح أنقرة وأثينا بالتصعيد العسكري في لحظة فارقة يحاول أن يثبت فيها قوته أمام روسيا. ويرى الجنرال المتقاعد من القوات الجوية الأمريكية والقائد السابق بالناتو فيليب بريدلوف، أن الحلف مازال قادرا على إدارة هذه المهمة، محذرا من استغلال روسيا الوضع إذا وصل لحد القتال لاسيما مع اقتراب فصل الشتاء واندلاع أزمة الطاقة. أمن دولي ـ انعكاسات الصراع في شرق المتوسط على وحدة الناتو . بقلم داليا عريان
موقف الولايات المتحدة
احتوت الولايات المتحدة الأزمة في جميع مراحلها على مدار العقود الماضية بوقف بيع الأسلحة لقبرص واستئناف المباحثات بين أطراف الخلاف، ولكن توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة دفع الأولى إلى دعم أثينا برفع حظر بيع السلاح للقبارصة وزيارة مسؤولين أمريكيين لقبرص اليونانية وإدانة عمليات التنقيب التركية بالمتوسط. وفي أكتوبر 2021 زاد التعاون العسكري الأمريكي اليوناني بتحديث اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك وبناء قواعد أمريكية في جزيرة كريت اليونانية، ما رأته تركيا انحياز واضح لليونان.
وما طرأ على الساحة السياسية عقب الحرب الأوكرانية عمق انحياز واشنطن نسبيا لليونان، وفي 17 مايو 2022 أكد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس في خطابه أمام الكونغرس أن بلاده لن تقبل بحل الدولتين في قبرص مطالبا واشنطن بمراقبة الوضع في المتوسط ومبيعات الأسلحة المحتملة لأنقرة. وفي 15 يوليو 2022 اشترطت واشنطن بيع مقاتلات “إف – 16 ” لأنقرة بشرط عدم استخدامها في المجال الجوي لليونان. وفي 28 سبتمبر 2022 أكدت الولايات المتحدة سيادة اليونان على الجزر في بحر إيجة.
مستقبل العلاقة بين الحليفين داخل الناتو
أصبحت اليونان وتركيا عضوين في الناتو منذ عام 1952 وبتعدد الأزمات تحولت العلاقة بينهما إلى حليفين اسميا فقط. ويحرص الناتو ألا يتحول الخلاف إلى صدام عسكري في هذا التوقيت لذا يقف على مسافة واحدة بين الطرفين دون الانحياز لطرف رغم اتهامات تركيا لبعض أعضائه بدعم اليونان على حسابها. ورغم الحرب الكلامية المشتعلة بين تركيا واليونان إلا أن مناورات بحرية للناتو قبالة الساحل الغربي لتركيا جمعتهما مجددا، وحرص الحلف على مشاركة البلدين في المناورات في الفترة من 13 وحتى 22 سبتمبر 2022، والتقى وزيري دفاع البلدين على هامش اجتماع الحلف يوم 17 يونيو 2022 للتأكيد على مواصلة الحوار وتقليل حدة التوتر. أدوار حلف الناتو في شرق المتوسط بين الخلافات الداخلية و فعالية الأداء الميداني
وتعد اجتماعات الحلف وتدريباته العسكرية نقطة التلاقي الوحيدة للخصمين ما يعزز فرصة النقاش بين مسؤولي البلدين ويؤشر ليقظة الناتو في احتواء الأزمة حفاظا على وحدته. ولا يمنع التقارب اليوناني الأمريكي من لعب واشنطن دورا في تهدئة الأجواء فهي لا تريد تأجيج الخلاف بين طرفي الأزمة أو أن تتوافق أنقرة مع موسكو بعد قمة شنغهاي الأخيرة. وتعتمد واشنطن على سياسة ” شد الحبل” مع أنقرة للضغط في ملفات أخرى مقابل حل قضايا النزاع مع اليونان.
التقييم
رغم كثرة الخلافات بين تركيا واليونان وطول مدتها لكن حدة التوتر تتابين بينهما ولم تصل في أي مرة لمرحلة القطيعة ما يجعل مساحة التفاوض مفتوحة، وحملت زيارة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس في 13 مارس 2022 لتركيا ولقائه بالرئيس التركي، ولقاءات مسؤولي البلدين في اجتماعات الناتو وتصريحات اليونان الأخيرة عن انفتاحها للحوار في أي وقت مع تركيا بوادر لحلحلة الأزمة وتفادي الوقوع في فخ الحرب التي لا يستطيع أحد تحمل تداعياتها في الوقت الراهن.
وهناك عدة عوامل تحدد سقف التصعيد بين أثينا وأنقرة على المدى القريب: –
– تصاعد الموقف مؤخرا لاقتراب الانتخابات في تركيا واليونان ما يشير إلى احتمالية انخفاض حدة الأزمة مع الوصول لصناديق الاقتراع في البلدين.
-انشغال اللاعبين الرئيسيين في الأزمة من دول أوروبا والولايات المتحدة بالحرب الأوكرانية وتجنبهم فتح جبهة صراع جديدة مع تركيا ومحاولة ضمها لصفوفهم في مواجهة روسيا.
-عدم رغبة الدولتين في الدخول لحرب وتكبد خسائر عسكرية واقتصادية جسيمة في ظل تداعيات حرب أوكرانيا.
-اقتناع أثينا بأن التفوق العسكري سيكون لصالح أنقرة في حالة التصعيد العسكري.
-رفض تركيا التنازل عن دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية والانزلاق إلى حرب غير محسوبة النتائج لتخوفها من الدعم الأمريكي والأوروبي لليونان على غرار النموذج الأوكراني.
وفي الوقت نفسه ورغم وجود مؤشرات التهدئة إلا أن تشدد طرفا الأزمة في التصريحات والمواقف يمثل خطورة بالغة على تماسك وقوة حلف الأطلسي على المنظور البعيد.
الهوامش
NATO gaffe sign of bigger strife between Turkey, Greece
أردوغان يطالب بوقف تسليح جزر يونانية وينوي الترشح للرئاسة العام القادم
تركيا تتهم اليونان بتنفيذ “عمل عدائي” ضدّ طائراتها
تركيا: سنبحث السيادة على جزر إيجة ما لم تتخل اليونان عن تسليحها
اتهامات متبادلة بين تركيا واليونان بانتهاك المجال الجوي في بحر إيجة
إجراءات يونانية لصد المهاجرين على الحدود التركية
Turkey stoking tensions in eastern Med, say Greece, Cyprus
نقلاً عن المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات
.
رابط المصدر: