في الخامس عشر من الشهر الجاري، أصدرت دول أمريكا اللاتينية (الأرجنتين، المكسيك، كولومبيا وبوليفيا) بيانًا استنكرت فيه تعرض الرئيس البيروفي لما وصفته بـ “المضايقات غير الديمقراطية” والتي أدت إلى عزله عن منصبه، مطالبين المجتمع الدولي باحترام رأي الشعب في اختيار رئيسه. ودعا البيان جميع الفاعلين في الأزمة السياسية التي تمر بيها بيرو إلى “إعطاء الأولوية لإرادة المواطنين”. وطالب بيان آخر صادر عن وزارة الخارجية البرازيلية “بضمان حقوق الإنسان والمعاملة اللائقة للرئيس البوليفي “بيدرو كاستيو” والتكفل له بحماية قضائية بعد احتجازه من قبل سلطات الأمن في البلاد”.
ردًا على البيان، قالت وزارة الخارجية البيروفية إن الرئيس “كاستيو” قام باتخاذ إجراءات وقرارات مخالفة للنظام الدستوري في 7 ديسمبر الماضي، وهو ما أدى إلى قرار الكونجرس الإعلان عن شغور منصبه في إطار احترام صارم للدستور السياسي لبيرو”. وأضاف البيان أنه ووفقًا لأحكام المادة 115 من الدستور البيروفي “تولت نائبة الرئيس “دينا إرسيليا بولوارتي زيغارا” رئاسة الجمهورية”.
كانت “دينا بولوارتي” نائبة الرئيس وعضو الحزب اليساري قد أعلنت انقلابها على الرئيس “بيدرو كاستيو” وتوجهت للمحكمة الدستورية لحلف اليمين بالتزامن مع تنفيذ أمر احتجاز الرئيس “كاستيو”، ما أدى إلى توسع نطاق المظاهرات حتى وصل المتظاهرون الرافضون لقرار عزل الرئيس إلى السيطرة على عدد من المرافق الحيوية جنوب البلاد، وقام حزب اليسار بفصلها مباشرة بعد الإعلان.
وبعد إعلان توليها للمنصب، اندفع البيروفيون في مدن الجنوب الرئيسة كمدينة “أبوريباك وأريكيبا” التي تعد عاصمة الإقليم الجنوبي؛ لرفض القرار وإعادة الشرعية للرئيس “كاستيو” الذي يرى أغلب البيروفيين أنه يمثلهم؛ كونه زعيم التيار اليساري، ويأتي من بيئة ريفية متواضعة حاله كحال أغلب أفراد الشعب، ولكونه كان يعمل كمدرس قبل توليه المنصب الأرفع في البلاد.
واتسع نطاق المظاهرات ليشمل مدن الشمال ومدن جبال الإنديز التي تنحدر أصول “كاستي” منها، وصولًا إلى العاصمة “ليما” التي شهدت مظاهرات مؤيدة للقرار وأخرى رافضة له واشتباكات بين الطرفين نتج عنها قتلى ومصابين أدت إلى تدخل الجيش للسيطرة على الأوضاع في العاصمة وحماية الأماكن والمؤسسات الحيوية.
أصل الأزمة
تولى “بيدرو كاستيو” زمام الحكم في يوليو من العام الماضي بعد فوزه بالانتخابات التي توجه للمشاركة فيها على صهوة حصانه مرتديًا قبعة القش التقليدية، محاطًا بهالة شعبية بصفته أول رئيس من الطبقة البسيطة، ما حمله للفوز بالمنصب رغمًا عن النخب اليمينية صاحبة النفوذ الاقتصادي والسياسي في البلاد، والذين أدار الناخبون لهم ظهورهم بعد سنوات من الأزمات المتتالية وضيق الأوضاع وانغلاق الأفق لحلها؛ فخلال السنوات الأربع الماضية شهدت البلاد ستة رؤساء، ما يدلل على عمق الأزمة السياسية في البلاد، والانقسام الطبقي الحاد.
وعلى الرغم من توليه للمنصب، لم يتمكن “كاستيو” خلال مدة رئاسته التي استمرت لأقل من عام ونصف أن يمسك بزمام الأمور؛ بسبب تحكم قوى المعارضة اليمينية في مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية، والتي استمرت في رفضها للرئيس وسياساته الإصلاحية، وهو ما فطن له الرئيس “كاستيو” وحاول عزل البرلمان مرتين خلال الشهور الست الأخيرة، قبل أن يشرع في محاولة ” الانقلاب الذاتي” بمحاولة عزل البرلمان للمرة الثالثة والإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة، لكن تجاهل الكونجرس طلبه وأصدر قراره بعزل الرئيس واحتجازه بتهمة ” التآمر والتحريض على العنف في البلاد” ليُنقل الرئيس “كاستيو” إلى ذات السجن الذي يقيم فيه الرئيس الأسبق للجمهورية والمنحدر من أصول يابانية ألبرتو فوجيموري والذي يقضي عقوبة السجن لسبع سنوات ونصف عن جرائم تتعلق بحقوق الإنسان والاختلاس المالي خلال فترة حكمه مطلع الألفية بعد إلقاء القبض عليه في 2007.
بالعودة إلى الحاضر، كان الرئيس المعزول “كاستيو” قد نجا بالفعل من محاولة عزل له قبل أيام من تنفيذ أمر اعتقاله وعزله فعليًا، حيث لم تتوافر أغلبية الثلثين في الكونجرس لإقرار عزله، لكنه ووفقًا لمقربين منه قرر أن يمضي في “طريق اللا عودة” بعد قناعته بأن الكونجرس يعمل لعرقلة قراراته، بالإضافة إلى توالي الفضائح الإعلامية لدائرته المقربة، وعدم قدرته على تشكيل حكومة مستقرة تنقذ البلاد من الوضع المتردي في مختلف القطاعات والملفات.
يُعزى السبب وراء فشل “كاستيو” في تنفيذه لــ “انقلابه الذاتي” رغم شعبيته في الشارع وبالأخص مدن الريف -الأمر الواضح من خلال حجم المظاهرات فيها والتي أودت بحياة ما يقرب من 10 أشخاص حتى الآن ومئات المصابين- إلى عزلته السياسية؛ إذ تخلى عنه كل حلفائه السياسيين قبل قراره الذي اتخذه بعد شعوره بتهديد منصبه، واستمرار تضيق الخناق عليه من الكونجرس، بالإضافة إلى المؤسسات والهيئات القضائية التي أصدرت حكمًا يمنعه من السفر لحضور قمة في المكسيك، ما دفعه إلى الإقدام على الخطوة التي كتبت نهاية مغامرته الرئاسية.
في الشهر السابق، سعى “كاستيو” إلى الاستقواء على النخبة السياسية ومجابهة الضغوطات الداخلية من خلال الدعم الدولي له؛ إذ قام بإرسال سفراء لعدد من الدول اللاتينية لشرح الأوضاع لزعماء دول القارة وإيضاح حملة التضيق الداخلي عليه، لكن ذلك لم يكن كافيًا ليحظى الرئيس -الذي جاء من خارج دوائر السلطة التقليدية على أمل أن يكون المنقذ من أزمة سياسية ممتدة- بوقت أطول في منصبه والذي يرى البعض أنه أساء استخدامه بتعديه على الصلاحيات الدستورية، بجانب أنه فشل داخليًا في تحقيق أي إصلاح بعد خمس حكومات وخمسين وزيرًا تناوبوا على تقديم الاستقالات؛ في دلالة واضحة على انتفاء الحلفاء له، وانغلاق دوائر الثقة لديه، لدرجة أن حرسه الخاص هو من نفذ أمر احتجازه.
دور واشنطن.. إدارة المشهد من خلف الستار
كان المنافس الرئيس لبيدرو كاستيو على مقعد الرئاسة هي “كيكو فوجيموري” ابنة الرئيس الأسبق، والتي تربطها علاقات قوية بواشنطن استغلتها لمنع وصول “بيدرو” إلى الرئاسة، وسخرتها هي والنخب اليمينية للإطاحة به. فوفقًا لموقع “يوراسيا رفيو“، فإن “ديميرو مونتيسينوس” عميل المخابرات المركزية الأمريكية السابق أرسل برسالة إلى القائد السابق للجيش البيروفي “بيدرو ريجاس” طلب منه فيها التوجه إلى السفارة الأمريكية في واشنطن، والتعاون لمنع وصول اليسار إلى سدة الحكم في السباق الرئاسي في 2021.
ووفقًا لذات المصدر، عملت الولايات المتحدة من خلال سفارتها على التعاون مع النخبة اليمينية وجنرالات الجيش البوليفي على خلق الأزمات وتنفيذ خطة ضغط إعلامي ضد “كاستيو” الأمر الذي يفسر اختيار واشنطن للعميلة السابقة لوكالة المخابرات المركزية “ليزا كينا” سفيرة لها في “ليما”، ويعتقد أنها كانت وراء الضوء الأخضر لعملية عزل الرئيس “كاستيو” واحتجازه؛ إذ التقت بعدد من جنرالات الجيش خلال الأسابيع الأخيرة، والتقت بوزير الدفاع “جوستافو بوبيو” قبل يومين من تنفيذ أمر عزل “كاستيو”. وكانت سفارة الولايات المتحدة أول من اعترف بشرعية الحكومة الجديدة، واستنكرت في تغريدات لها على منصة تويتر التصرفات “غير الدستورية” للرئيس.
شخصية أخرى كانت ضمن اللاعبين الأساسيين في المشهد وهو ضابط المخابرات المركزية “ماريانو ألفارادو” الذي يشغل منصب الملحق العسكري لواشنطن في ليما؛ فوفقًا لتقرير لصحيفة ” لاإكسبتثيون” المكسيكية التقى الملحق العسكري الأمريكي بجنرالات الجيش والنخب السياسية في بيرو خلال الفترة الماضية، ويعد هو الرجل الرئيس في تنفيذ مخطط الإطاحة بـ “كاستيو” بأوامر من واشنطن.
تغريدة السفيرة الأمريكية في ليما “ليزا كينا” تنتقد فيها تصرفات الرئيس كاستيو “غير الدستورية”
البعد الأيديولوجي للأزمة وانعكاساته على مستقبل القارة اللاتينية
يعد المشهد الحالي في بيرو نموذجًا لما تمر به القارة اللاتينية التي تشهد صراعًا بين القوى اليسارية واليمينية، تستخدم فيه الأخيرة أسلوبًا جديدًا غير الأسلوب المعهود في مواجهة صعود تيارات اليسار حيث الانقلابات العسكرية هي الطريقة السائدة، وتشويه سمعة اليسار من خلال اتهامه بالشيوعية وخنق الحريات ومحاربته للدين. إلا أن تلك الأليات لم تعد تؤتي ثمارها؛ لتتحول القوى اليمينية إلى أسلوب جديد لمحاصرة موجة اليسار الآخذة في الاتساع في القارة اللاتينية، ووصول اليسار إلى سدة الحكم في كل من: هندوراس، وبوليفيا ، وكولومبيا، والمكسيك، والأرجنتين، وتشيلي، وأخيرًا في البرازيل بفوز “لولا دا سيلفا” في الانتخابات الرئاسية على اليميني “جيرالد بوليسوناريو”.
فقد بدأ اليمين بعدما اقتنع بفشل أسلوبه التقليدي بانتهاج نهج جديد، مبني على تسخير طاقات ضخمة لتشويه سمعة القوى والقيادات اليسارية والتقدمية، عن طريق الحملات الإعلامية وافتعال قضايا فساد ارتكازًا على القوة السياسية والاقتصادية والدينية للتيار اليميني؛ فمن المعروف ولاء الكنيسة في الدول اليمينية للتيار اليميني، وارتباطها بالكنيسة في الولايات المتحدة؛ الأمر الذي استغلته القوى اليمينية في حالة بيرو، وهو ذات النهج الذي أدى إلى وصول اليميني “بوليسونارو” إلى الحكم في البرازيل بعد ثلاث ولايات يسارية قبل أن يخسر في الانتخابات الأخيرة لصالح اليساري “لولا دا سيلفا”.
هذا النهج الجديد للقوى اليمينية بدعم من واشنطن استلزم من التحالف اليساري في دول أمريكا اللاتينية إلى إعادة التفكير في استراتيجياته وخططه للاستمرار في الصعود على مستوى القارة الأمر الذي نتج عنه ما يعرف بـ” التحالف اليساري الإقليمي للدول اللاتينية” والتي من المنتظر أن تصدر خطة مشتركة مطلع العام القادم لمواجهة الحصار اليميني المفروض والمدعوم من واشنطن. وسيأخذ الرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا” على عاتقه زمام المبادرة بالإعلان عن هذه الخطة بوصفه قائد التحالف اليساري الإقليمي، ويدعمه في خطته القادة في كل من كولومبيا والمكسيك اللتين تريان بيدرو كاستيو هو الرئيس الشرعي في البيرو.
ومن المتوقع أن تشهد الأشهر القادمة اتساع مساحة المواجهة بين تيار اليمين واليسار في القارة الأم، وتعد فنزويلا وهندوراس وبوليفيا أبرز المرشحين للانزلاق في الصراع؛ نتيجة للظروف الاقتصادية، وتعاقب الأزمات، والشواهد السياسية على استمرار الحصار اليميني المدعوم للموجة اليسارية في القارة اللاتينية.
.
رابط المصدر: