دبلوماسية الرياضة والعلاقات الدولية: كأس العالم 2022 نموذجًا

د. آية عنان

 

جاءت أحداث كأس العالم في قطر 2022 لترفع الستار عن دور الرياضة في عالم العلاقات الدولية، فعلى الرغم من قدم العلاقة بين الرياضة والسياسة ووجود العديد من الأدبيات التي تناولت هذه العلاقة، إلا أن أحداث وتفاصيل هذه البطولة يمكن اعتبارها نقطة مفصلية في العلاقة بين الرياضة والسياسة، برز بوضوح من خلالها مصطلح” الدبلوماسية الرياضية” والتي تعتبر بدورها أحد روافد الدبلوماسية العامة، ونقطة التماس مع القوة الناعمة للدولة باعتبارها أحد أدوات هذه القوة، ومن ثم تتناول هذه الورقة البحثية مصطلح الدبلوماسية الرياضية، ودورها في العلاقات الدولية، وعلاقتها بالدبلوماسية العامة وبالقوة الناعمة، والعلاقة بين الدبلوماسية الرياضية والإمكانيات الاقتصادية للدول، وكيف استخدمت قطر دبلوماسيتها الرياضية لتنظيم كأس العالم من أجل تغيير الصورة الذهنية لها على الصعيد العالمي.

ماهية الدبلوماسية الرياضية

تعتبر الدبلوماسية أداة رئيسة من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية للتأثير على الدول والشعوب بهدف استمالتها وكسب تأييدها بشتى الطرق، حيث يُناط بالتعامل الدبلوماسي مهمة تعزيز العلاقات بين الدول وتطويرها في المجالات المختلفة والدفاع عن مصالحها ومصالح رعاياها، وتمثيل الحكومات في الأحداث والمناسبات، بالإضافة إلى جمع المعلومات عن أحوال الأمم والشعوب وجماعات الضغط وتقييم مواقف الدول إزاء القضايا الراهنة، أو ردود الأفعال المستقبلية تجاه قضايا معينة.

فالدبلوماسية بمعناها الواسع تعبر عن “عمليات تنفيذ وصنع وبناء وصياغة السياسة الخارجية باعتبارها عملية الاتصال أو التعامل بين الحكومات” كما يعرفها “جورج كينان” الدبلوماسي و الكاتب الأمريكي ” هذه الدبلوماسية يشار إليها في الوقت الحاضر بالدبلوماسية التقليدية، وذلك بعد ظهور أنواع ومستويات عدة منها، مثل الدبلوماسية الشعبية، الدبلوماسية العامة، والدبلوماسية الرقمية.

ويعود مصطلح دبلوماسية الرياضة إلى حقبة الحرب الباردة، عندما كانت هناك محاولات منهجية على كلا الجانبين من النظام الثنائي القطب – وخاصة الكتلة السوفيتية لنقل صورة أفضل لجمهور الكتلة الأخرى من خلال رياضات النخبة المنظمة في المسابقات الدولية.

وتقع الدبلوماسية الرياضية تحت مظلة الدبلوماسية العامة؛ حيث تعتبر الدبلوماسية العامة وفقًا لتعريف “جوزيف ناي” هي أداة تستخدمها الحكومات لتعبئة موارد الثقافة والقيم والسياسات للتواصل مع جماهير البلدان الأخرى واجتذابها، بدلًا من مجرد حكوماتهم. وتحاول الدبلوماسية العامة جذب الانتباه إلى هذه الموارد المحتملة من خلال البث ودعم الصادرات الثقافية، ولكن إذا لم يكن محتوى ثقافة الدولة وقيمها وسياساتها جذابًا، فإن الدبلوماسية العامة التي تبثها لا يمكنها إنتاج القوة الناعمة.

وتعد الدبلوماسية الرياضية أحد أدوات القوة الناعمة للدولة والتي يعرفها جوزيف ناي على أنها “القدرة على التأثير في الآخرين للحصول على النتائج المراد تحقيقها، وذلك من خلال وسائل الجذب وليس وسائل الإكراه”، وقد تم صك هذا المفهوم في عام 1990 على يد “جوزيف ناي” بعد تحليله للقوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية؛ حيث وجد أن المفقود في القوة الأمريكية هو القدرة على التأثير من خلال الوسائل الناعمة أو الجاذبة بدلًا من وسائل الإكراه.

إن استراتيجيات الاستقطاب (الجذب) هي موارد للقوة الناعمة تهدف إلى حمل الآخرين على القيام بما تريده بشكل سلمي، وكما يوضح والين (2013)، فقد برز مفهوم الدبلوماسية العامة باستخدام الموارد الثقافية كدبلوماسية ثقافية، وفي الحالة الخاصة للرياضة كدبلوماسية رياضية.

ومن ثم فإنه إذا كانت الموارد الثقافية جزءًا من سياسة الجذب الجديدة أو الدبلوماسية الجديدة فيمكن فهم الأحداث الرياضية الضخمة كجزء من استراتيجية القوة الناعمة. مما يجعلنا نفهم سعي دوافع الدول لاستضافة الأحداث الرياضية الكبرى، مثل استضافة البرازيل لكأس العالم فيفا عام 2014 وأولمبياد عام 2016 وأولمبياد الصين عام 2008 وكأس العالم عام 2010 في جنوب أفريقيا، واستضافة قطر لمونديال 2022، فيمكن النظر إلى استخدام القوة الناعمة على مستويات الاتصال والجذب، بل والتأثير، وترى الدول أن استضافة حدث رياضي ضخم على أراضيها هو نوع من الدبلوماسية العامة يعرض مدى قدرة الدولة على ممارسة وزيادة القوة الناعمة للدولة المضيفة. بعبارة أخرى، تُظهر استضافة مثل هذا الحدث قدرة البلدان النامية على تعزيز سلطانها في الشؤون العالمية وبالتالي تعزيز جاذبيتها العالمية.

ومن ثم يمكن اعتبار الدبلوماسية الرياضية على أنها” استخدام الرياضة من أجل التأثير الدولي وتحقيق نتائج مرغوبة في العلاقات الدولية، وتغيير الصورة الذهنية للدولة ونشر ثقافتها وهويتها” في هذه السياقات، برزت قضية العلامة الوطنية للدولة Nation Branding، في إشارة إلى جملة التصورات التي تُرسخ لدي المجتمعات والدول الأخرى عن دولة بعينها، بما يخلق لها وسمًا وصورة، وسمعة، بينما يراها آخرون السمة أو التجربة الفريدة التي تميز دولة عن أخرى، وتعطيها هوية تنافسية، وبدأ ذلك المفهوم تعبيرًاعن انتقال فكرة “البراند”، أو العلامة Brand، من مجال تسويق المنتجات التجارية، إلي الساحة السياسية.

وهو ما يشير إلى أن الدولة أصبحت تهدف إلى بناء تصورات إيجابية وتفضيلية عنها لدى الأخرين، ولاهتمام الدولة بصناعة العلامة الوطنية دوافع متعددة، قد تكون لزيادة قدرتها التنافسية في الساحة الدولية، ورفع معدلات السياحة، ودعم الاستقرار السياسي، وعلى الرغم من أن العلامة الوطنية تركز على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أنها تصب في تعزيز قوة الدولة وتحقيق أهداف سياستها الخارجية، في الوقت نفسه قد تصبح العلامة الوطنية مدخلًا لإعادة بناء تصورات الأخرىن Rebranding ولا سيما في أعقاب التحولات التي تمر بها الدولة، حيث تعدُّ العلامة الوطنية عاملًا يمكنه الإسهام في نجاح أو فشل هذا التحول، مستخدمة في ذلك وسائل القوة الناعمة والتي تعد من ضمنها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو الدبلوماسية الرقمية .

كأس العالم القطري نموذجًا

على مدى سنوات، اتبعت قطر سياسة خارجية “ناعمة” ساعدت في تكوين علاقات على الساحة الدولية، ويشمل ذلك إنفاق المليارات على مجالات متعددة من الأزياء والفن والرياضة إلى المؤسسات الخيرية والصناعة.

ولدى قطر أسباب وجيهة للقيام بذلك؛ حيث يتفق معظم الخبراء على أن قطر – وهي دولة صغيرة غنية بالموارد، تقع في منطقة بها العديد من التهديدات بين قوى عسكرية متنافسة مثل المملكة العربية السعودية وإيران، ولكنها تفتقر إلى “القوة الصلبة” أو بمعني أخر قوة عسكرية مجهزة لذا فهي تحتاج إلى تحسين مكانتها وعلاقاتها على المسرح العالمي من خلال أدوات القوة الناعمة.

وهناك دوافع أخرى لدفع القوة الناعمة لقطر أيضًا؛ وهي الأسباب الاقتصادية فهي من أكبر موردي النفط والغاز في العالم، إلا أنها على دراية بأن عملائها يتجهون نحو المزيد من الطاقات الصديقة للبيئة. للبقاء على قيد الحياة في المستقبل، ومن ثم فيجب عليهم التنويع في مصادر الاستثمارات، وهنا تأتي الاستثمارات في السياحة والرياضة والقطاعات الأخرى.

أسباب أخرى تتعلق بالسياسة الداخلية. حيث جادل المحللون بأنه مع تطور البلاد، لم يعد كافيًا لأفراد العائلة المالكة “شراء” ولاء القطريين الأصليين من الدخل من النفط والغاز. قال باحثون إن هذا هو سبب أهمية الرموز البارزة التي تمولها الدولة والتي تعزز الوحدة والتراث القطري. ويشمل ذلك متحف قطر الوطني ومتحف الفن الإسلامي وحتى كأس العالم لكرة القدم.

ومن ثم اعتمدت قطر “الرياضة” كبعد أساسي لاستراتيجية بناء الصورة الذهنية التي تتبناها كواحدة من استراتيجيات سياستها الخارجية للتعريف بها ولتعزيز مكانتها في المحافل الدولية، وهو ماظهر في تصريحات الأمير السابق لدولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أن “اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية أهم من اعتراف منظمة الأمم المتحدة لأن الجميع يحترم قرارات اللجنة الأولمبية الدولية”؛ وهذا يبرز أهمية الخيار الاستراتيجي المتمثل في الرهان على الرياضة.

لقد استثمرت دولة قطر في الدبلوماسية الرياضية من خلال رعايتها المنافسات والأندية الرياضية المحلية والدولية، إيمانًا منها بأن الاستثمارات الرياضية تحقق أهدافًا اقتصادية مثل التنويع الاقتصادي. كما سعت الاستثمارات القطرية في المجال الرياضي إلى تحقيق بعض الأهداف التي تتعلق بالمجتمع القطري أيضًا، لا سيما إبراز دور النساء في مجتمع محافظ وتنمية سياسة الصحة العامة في واحد من المجتمعات التي تسودها الوفرة من جهة أخرى.

نوع آخر من الاستثمارات الرياضية القطرية التي تتعلق بالإعلام الرياضي، وتجسده قناة الجزيرة القطرية التي تعد أول قناة إخبارية دولية في العالم العربي، ومنها تم إطلاق باقة “الجزيرة الرياضية” عام 2003، وتضم الجزيرة الرياضية اليوم عشرات القنوات الحاضرة في العالم العربي وأفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، وقد فرضت نفسها في البداية كأول محطة للبث الرياضي في العالم العربي.

أيضًا من الاستثمارات القطرية الرياضية هو شرائها حصص من النوادي الرياضية الأوروبية فقد تغيرت صورة قطر في فرنسا تمامًا منذ شرائها 70%، كمرحلة أولى، لنادي “باريس سان جيرمان” مقابل مبلغ 40 مليون يورو، وهو مبلغ متواضع جدًا إذا ما قورن باستثمارات قطر الأخرى في فرنسا. فقطر ودبلوماسية نفوذها لم تكن معروفة إلا لدى عدد محدود من النخبة الفرنسية المهتمة بالسياسة الخارجية، لكن اقتحام قطر لعالم الرياضة في فرنسا قلب الوضع رأسًا على عقب. فإدراك صورة قطر في فرنسا لم يعد بعد شراء “باريس سان جيرمان” كما كان قبله؛ فاليوم بات الجميع يعرف قطر ويعرف أين تقع. ومنذ شراء نادي كرة القدم الفرنسي الشهير حدثت طفرة في حضور قطر على أغلفة المجلات والتقارير التلفزيونية والأفلام الوثائقية والبرامج الحوارية. وقد أثار هذا الحضور القوي لقطر امتعاض البعض من الأوساط والتيارات السياسية لا سيما اليمينية منها لأسباب تتعلق بالإسلاموفوبيا، لكن الأوساط الرياضية -بما فيها المنافسون المباشرون لنادي “باريس سان جيرمان”- احتفت بهذه الخطوة.

كذلك اشترت مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، مساحة إعلانية على قميص نادي برشلونة، وهو أحد أكثر أندية كرة القدم شعبية في العالم، مقابل 30 مليون يورو في السنة ولمدة خمس سنوات. وكسرت هذه الرعاية تقليدًا تاريخيًا راسخًا يتمثل في كون قميص نادي برشلونة ظل إلى ذلك الحين خاليًا من أي إعلان، ومن الأمثلة ذات الدلالة أيضًا أن الخطوط الجوية القطرية أصبحت الناقل الجوي الرسمي لسباق فرنسا للدراجات، وقد طالبت قطر بأن ينطلق سباق فرنسا للدراجات من أراضيها.

وقد كان أحد أكبر النجاحات التي أحرزتها الدبلوماسية الرياضية القطرية هو الفوز باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022؛ فهذه البطولة العالمية هي أكثر الأحداث الرياضية جذبًا لاهتمام الإعلام في العالم، حيث تعتبر كرة القدم أكثر الألعاب شعبية في العالم.

وقد تجسد مونديال 2022 بنكهة عربية إسلامية برزت فيها الهوية والثقافة العربية والإسلامية فقد صدح القرآن الكريم في حفل الافتتاح، وصوت الأذان في الملاعب والمولات التجارية، ووقفت قطر في منع إشارات الشواذ من المونديال، وفرضت احترام الهوية والثقافة العربية، ورددت عبارات لا إله إلا الله محمد رسول الله في الملاعب، وقد أظهرت قطر جانبها الحضاري ساعدها في ذلك إمكاناتها الاقتصادية الهائلة فقد قدر حجم الانفاق على تنظيم كأس العالم وفقًا لتصريحات “ناصر الخاطر” المدير التنفيذي لكأس العالم، 8 مليار دولار ، إلا أن التقارير تشير إلي أن التكلفة وصلت إلي 220 مليار دولار وخرجت توضيحات أن هذا الرقم يشكل تكلفة البنية التحتية لقطر والتي تم تنفيذها لاستضافة المونديال مثل تجهيز الطرق و بناء أكثر من 100 فندق ومجتمع سياحي، ووفقًا وكالة متخصصة في الاستشارات المالية الرياضيةfront office sport”  أن التكلفة تساوي واحد وعشرين بطولة سابقة مجتمعة، وهو مايؤكد دور الإمكانيات الاقتصادية كأحد عوامل نجاح وفاعلية الدبلوماسية الرياضية.

أخيرًا، إن استثمارات قطر في الرياضة كانت بالغة الفائدة على مستوى السُمعة وستكون أيضًا، على المدى الطويل، وعظيمة المردودية على المستوى الاقتصادي، كل هذا يؤكد أن التغيرات في عالم العلاقات الدولية ككل أدخلت التغيرات في العديد من الظواهر الدولية والمفاهيم فلم تعد القوة العسكرية هي القوة الوحيدة للدول وكذلك الدبلوماسية لم تعد دبلوماسية وزارات الخارجية فقط، بل اتسعت لتشمل فواعل أخرى من غير الدول، وقضايا مجتمعية واقتصادية ولم تعد فقط تقتصر على العلاقات والقضايا السياسية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74784/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M