بدء الغزو … كيف بدأت موسكو عملياتها في أوكرانيا؟

 محمد منصور

 

رغم أن الأجواء المحيطة بشرق أوروبا منذ مطلع العام الجاري كانت دومًا تنذر بقرب اندلاع شرارة نزاع عسكري غير محدد المدى الزمني أو الحيز المكاني، خاصة بعد إقدام موسكو على الاعتراف بالجمهوريات الانفصالية في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، إلا أن نطاق الضربة الصاروخية والجوية الروسية على أوكرانيا، والتي شملت طول البلاد وعرضها، كانت بمثابة مفاجأة أولى في هذا التحرك؛ إذ لم تقتصر أهداف هذه الضربة على المناطق المتاخمة للحدود الإدارية لجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، بل شملت كافة المفاصل العسكرية الأساسية للجيش الأوكراني، في ظل ضعف واضح في قدرة القوات الأوكرانية على الصمود الميداني، والرد بشكل فعال.

الضربة الجوية والبحرية الروسية التي كانت الصواريخ الجوالة هي أداتها الأساسية ركزت بشكل أساسي -بجانب تقديم الدعم الجوي للقوات الانفصالية في دونيتسك ولوهانسك- على استهداف المواقع العسكرية الأساسية في كافة أنحاء أوكرانيا، وعلى رأسها تلك الموجودة في المدن الرئيسية، مثل العاصمة كييف، ومدينة خاركيف على الحدود الشرقية لأوكرانيا، بجانب مدينة “لفيف”، في أقصى غرب البلاد، ومدينة “لوستك” القريبة من الحدود البولندية.

وقد حمل استهداف كلا المدنيتين تحديًا واضحًا من جانب موسكو للغرب الذي كان يرى هذا النطاق بمنأى عن أي تحرك عسكري روسي. بشكل عام ركزت هذه الضربات التي شاركت فيها المروحيات القتالية -في المناطق الحدودية- على مراكز القيادة والسيطرة الخاصة بالدفاع الجوي، بجانب كافة المطارات والقواعد الجوية، والمواقع الأساسية لتخزين الذخائر والعتاد العسكري، وهو تكتيك قديم كان متبعًا على مدار عقود، ضمن ما يسمى “الضربة الإجهاضية الشاملة” التي تفقد الطرف الأخر القدرة على إدارة المعركة أو تقديم الدعم الجوي لقوات المشاة، وتوفر في نفس الوقت وسطًا آمنًا للطائرات القاذفة.

النقطة الأساسية في خطة التحرك العسكري الروسية كانت في اعتمادها على ثلاثة محاور رئيسة في التحرك الميداني، استهدفت في كل منها تحقيق أهداف مرحلية وتكتيكة مختلفة، فكان المحور الأول هو المحور الشرقي الذي تمت فيه العمليات البرية من اتجاهين متقابلين، الأول من داخل مدينة لوهانسك باتجاه الشمال، والثاني من مدينة “بيلوجراد” الروسية -إحدى أهم مراكز الحشد العسكري الروسية خلال الأيام الماضية- في اتجاه مدينة “خاركيف” الأوكرانية. أما المحور الهجومي الأساسي الثاني فكان المحور الجنوبي، من شمال جزيرة القرم باتجاه منطقة “خيرسون”، ونحو مدينتي “ماريوبول” و”أوديسا”، أما المحور الثالث فكان انطلاقًا من جنوب بيلاروسيا، وإن كانت التحركات الروسية فيه كانت أقل زخمًا.

الجبهة الجنوبية .. خيرسون

فيما يتعلق بالمحور الجنوبي -شبه جزيرة القرم- فقد بدأت القوات الروسية فجر اليوم عملية مركبة شاركت فيها وحدات الإنزال الجوي والقطع البحرية التابعة لأسطول البحر الأسود، بجانب وحدات المشاة الوحدات المدرعة، والمروحيات القتالية من نوع “كا-52” وقاذفات “سوخوي-25”. إذ أطلقت القطع البحرية الروسية وابلًا من صواريخ “كاليبر” الجوالة نحو نقاط المراقبة العسكرية على الضفة الأخرى من قناة “خيرسون” التي تفصل بين شبه الجزيرة والأراضي الأوكرانية، بما في ذلك مطار “خيرسون” الدولي، ومطار “ميكولايف” شمال غرب خيرسون، بجانب قصف قاعدة “أفانو فرانكفيسك” الجوية جنوب غرب أوكرانيا، والتي يوجد فيها اللواء الجوي التكتيكي 114 التابع لسلاح الجو الأوكراني. يضاف إلى ذلك شن قصف مركز للمرافق التابعة للبحرية الأوكرانية، داخل وحول مدينة “اوديسا” غرب خيرسون، ومدينة “ماريوبول” شرقها.

عمليات القصف الروسية العنيفة في هذا الاتجاه الهجومي، تسببت في عدم وجود أي قدرة لدى القوات الأوكرانية الموجودة جنوب منطقة خيرسون، في صد الأرتال الروسية التي عبرت الجسر الرابط بين شبه جزيرة القرم والمنطقة، وتوغلت في عدة مواقع بالمنطقة، منها منطقة “كاخوفا”، المطلة على نهر “دنيبر”. في حين نفذت وحدات الأنزال الجوي الروسية، إنزالًا قرب المرافق البحرية الأوكرانية الموجودة شرق مدينة أوديسا، وعلى رأسها ميناء “أوشاكيف”، حيث تستمر في هذه الأثناء المعارك بين الوحدات الأوكرانية المتحصنة داخل أحياء مدينتي “أوديسا” و”ماريوبول”، وبين وحدات المظليين الروس.

الجبهة الأهم … الحدود الشرقية لأوكرانيا

بطبيعة الحال كانت الجبهة الشرقية هي الأساس في العمليات العسكرية الروسية الجارية منذ فجر اليوم، والتي بدأ التمهيد لها منذ السابع عشر من الشهر الجاري. التحرك الروسي في هذه الجبهة كان عبر قصف مركز براجمات الصواريخ لمدينة “خاركيف” ومحيطها، انطلاقًا من المواقع الروسية في مدينة بيلوجراد، وشمل هذا القصف قاعدة “شوهاييف” الجوية، ومدينة “سومي” شمال خاركوف”، وقاعدة “ميرغرود” العسكرية غرب خاركيف.

بالتزامن مع هذا القصف، استهدفت الراجمات الروسية والمروحيات القتالية المناطق الأوكرانية المقابلة لخط وقف إطلاق النار في إقليم دونباس، فقد هاجمت الأرتال الأوكرانية والمواقع العسكرية الرئيسية، مثل المواقع الموجودة في مدينة “كراماتورسك” شمال دونيتسك، وقاعدة اللواء الميكانيكي الأوكراني الرابع والخمسين الموجودة في منطقة “باخموت” في دونيتسك، بجانب مخازن الذخيرة التابعة للجيش الأوكراني في مدينة “دنيبرو” شمال غرب دونيتسك.

حاليًا تستهدف القوات الروسية تحقيق توغل في منطقة “خاركيف”، إذ وصلت القوات حاليًا إلى منطقة “ليبتسي” الواقعة على بعد 20 كيلو متر شمال شرق خاركيف، بالإضافة إلى استمرار المعارك شمال مدينة لوهانسك في دونباس، بعد أن أطلقت القوات الانفصالية اليوم عمليات عسكرية في اتجاه “شاسيتيا” شمال مدينة لوهانسك.

المعارك الأهم والأعنف كانت في جبهة خاركيف، حيث تواجهت المدرعات الروسية مع المدرعات الأوكرانية، وخسر كلا الطرفين بعض الدبابات، بجانب إعطاب مروحية قتالية روسية من نوع “كا-52” نتيجة للدفاعات الجوية الأوكرانية، وسقوط قاذفة روسية من نوع “سوخوي-25” نتيجة عطل تقني، وفقد سلاح الجو الأوكراني عددًا غير محدد من مقاتلاته خلال الغارات الجوية الروسية على المطارات الأوكرانية، وكذلك تم إسقاط طائرة نقل تابعة له من نوع “أنطونوف-26”.

الجبهة الثالثة والأقل زخمًا كانت جبهة بيلاروسيا، حيث اقتحمت وحدات عسكرية روسية المواقع الحدودية الأوكرانية في منطقتي “سينكيفيكا” و”كومارين”، وتوغلت جنوبًا دون معرفة حدود هذا التوغل.

على المستوى التكتيكي، يمكن القول من حيث المبدأ، إن العملية الروسية -حتى الآن – هي محدودة وتركز على السيطرة على ما تبقي من إقليم دونباس “أربع مناطق في لوهانسك وخمسة في دونيتسك”، وتأمين منطقة “خاركيف” المحاذية للحدود الروسية الأوكرانية، بجانب تعزيز حظوظ سيناريو “الاتصال البري” بين القرم وجنوب دونيتسك، وكذا السيطرة ناريًا على ما تبقى من الساحل الأوكراني المطل على بحر آزوف والبحر الأسود.

حقيقة الأمر أن القوة العسكرية الأوكرانية قد تعرضت لضربة قوية، شملت نحو 80 مركزًا عسكريًا أساسيًا، و11 قاعدة عسكرية، ونحو 18 نقطة دفاع جوي، في استخدام فعّال للغاية للصواريخ الروسية الجوالة “كي أتش-31” التي أصابت أهدافها بشكل شبه كامل. ولم تتمكن الدفاعات الجوية الأوكرانية من تحقيق أية نتائج ضد هذه الصواريخ، ناهيك عن شل قدرة سلاح الجو الأوكراني على التصدي للتحركات الروسية.

وإلى أن تنجلي ملامح التحرك الميداني الروسي البري، يمكن القول إن إقليم دونباس هو الهدف المرحلي الأساسي لموسكو، وهذا بدا واضحًا منذ اعتراف روسيا باستقلال جمهوريات الإقليم، فقد اعتبرت موسكو حدود جمهوريتي لوهانسك ودونيستك هي الحدود الإدارية الأصلية لكلا المنطقتين، وليست الحدود الحالية المرسومة عبر خط وقف إطلاق النار بين القوات الانفصالية والجيش الأوكراني عام 2015.

احتمالات توسع هذا التحرك أكثر تبدو غير قليلة، بالنظر إلى حديث أوكرانيا عن تحركات روسية داخل الأراضي الأوكرانية انطلاقًا من بيلاروسيا، لكن هنا يجب العودة بالذاكرة إلى النزاع حول أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008، بين روسيا وجورجيا، حيث تضمن التدخل العسكري الروسي حينها احتلالًا لمناطق داخل العمق الجورجي، انسحبت منها موسكو لاحقًا.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67646/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M