كمعادل للعنوان الروسي عن الحرب في أوكرانيا تحت مسمى “العملية الخاصة”، باتت أوكرانيا تتداول نفس المصطلح تقريبًا في ضوء ضعف عملية “الهجوم المضاد” التي تشنها القوات الأوكرانية على مواقع السيطرة الروسية، وبالتالي تشكل “العملية الخاصة” الأوكرانية بديلًا مرحليًا مناسبًا لخطة كييف الرامية إلى قصف الأهداف الاستراتيجية البعيدة التي يمكن أن تشكل نقطة ضعف أيضًا لموسكو، حيث تشن هجمات متتالية على جسر “كيرتش” الاستراتيجي الذي يشكل خط الإمداد العسكري الروسي الرئيسي من منطقة العمليات الجنوبية إلى منطقة العمليات في أوكرانيا، بالإضافة إلى شن هجمات على مواقع أخرى في العمق الروسي منها بيلجورود والعاصمة موسكو.
في المقابل لذلك، تقوم موسكو بخطة معادلة هي الأخرى حيث تشن هجمات على الأهداف الأوكرانية البعيدة كمنطقة “أوديسا” بعد قرار إغلاق البحر الأسود، وتجميد صفقة الحبوب، وبالتالي تسعى إلى رفع كلفة الهجمات الأوكرانية على القرم بشكل انتقامي، وفي الحالتين الروسية والأوكرانية لا يعتقد أن كلًا منهما يمكنه القفز على خطوط السيطرة الحالية، بمعنى أن أوكرانيا لا يمكنها استعادة “القرم” بتلك الضربات، وبشكل واقعي تفسر استهداف جسر “كيرتش” باعتباره هدفًا حيويًا عسكريًا بالنظر لدوره في الحرب، وكذلك لا تستطيع روسيا مد قوتها بريًا إلى أوديسا، لكنها تحول حصارها إلى ورقة ضغط على أوكرانيا.
هل تُسقط أوكرانيا خيار “الهجوم المضاد”؟
على الرغم من ضعف فرص الهجوم الأوكراني المضاد في ظل القيود التي تواجهها أوكرانيا بسبب إشكاليات التسليح ولا سيما التسليح الجوي، إلا أنها لم تستبعد هذا الخيار مهما كانت فرصه محدودة. وفي هذا السياق، يمكن تناول عدد من النقاط التوضيحية لهذا الخيار:
تقديرات إشكالية لفاعلية الهجوم المضاد: على ما يبدو فإن الولايات المتحدة تعارض وجهة النظر التي تقر بمحدودية فاعلية الهجوم المضاد، فقد صرح وزير الخارجية أنتوني بلينكن بأن الهجوم الأوكراني المضاد مكّن كييف من استعادة قرابة نصف المساحة التي سيطرت عليها روسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا (فبراير 2023)، ويدعم معهد دراسات الحرب الأمريكي (ISW) التوجه ذاته، فبعد يوم من تصريحات بلينكن أعلن المعهد في 23 يوليو الجاري أنه طور آلية تعتمد على الخرائط الميدانية للانتشار تشير إلى استعادة نحو 53% من مساحة السيطرة الأوكرانية. لكن في واقع الأمر يصعب التسليم بصحة هذه التصريحات والتقديرات، فحتى قبيل انعقاد قمة حلف شمال الأطلنطي في ليتوانيا خلال شهر يوليو الجاري، كان الأمين العام للحلف ينس سلتنبيرج يتحدث عن تحديات الهجوم المضاد، وقال في لقاء مع “بوليتيكو”، في 6 يوليو، إن هناك مشكلات خطيرة تواجهه.
تكتيك “القضم المضاد”: على الأرجح وفي أفضل السيناريوهات بالنسبة لواقع الهجوم المضاد الأوكراني، يمكن القول إن أوكرانيا تعتمد تكتيك “القضم المضاد”، حيث تتحرك في ثلاثة محاور رئيسية، منها محور “باخموت” الذي كانت قوات “فاجنر” قد استولت عليه بداية الصيف الحالي، ومحور زابورجيا، ثم محور خيرسون. وبطبيعة الحال لم تتمكن القوات الأوكرانية من التمدد البري في كل تلك المحاور. فعلى سبيل المثال، تقاوم القوات الروسية عبور القوات الأوكرانية لجسر “أنتونوفسكي” الرابط بين شطري خيرسون الشرقي والغربي على نهر الدينبر، وبالتالي لا تزال القوة الروسية تسيطر على الأرض في هذه المنطقة، بينما تتعرض لقصف جوي من الضفة الأخرى، وتتقدم وفقًا لهذا التكتيك في حدود عمق 10 كلم في زابورجيا، بينما تعمل القوات الروسية بشكل موازٍ على قضم مساحات محدودة في منطقة سفاتوف في محاولة منها للتقدم على محور كريمنيا الاستراتيجي الذي تكابد للسيطرة عليه منذ أكثر من عام.
ترقب نقلة نوعية في التسليح: خلال شهر يوليو الجاري كانت صفقة القنابل العنقودية الأمريكية هي الصفقة الجدلية لأوكرانيا، ومع ذلك تجاوز حلفاء أوكرانيا هذا الجدل وبدأت أوكرانيا بالفعل في استخدامها، وتقول التقارير الروسية إنها بدأت في عملية الاستخدام في منطقة بيلجورود ضمن إشعارات أوكرانيا للعملية الخاصة، مع أنه من المتصور أن أوكرانيا لن تركز فقط على تلك المنطقة، في الوقت الذي قد تُشكل فيه هذه القنابل أولوية في استهداف الخنادق والمدرعات الروسية في مناطق الدونباس وخطوط التماس، لكن تركيز موسكو قد يكون على خلفية استدعاء المبرر لاستخدام واسع للقنابل العنقودية من جانبها هي الأخرى. لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذا الجدل حول القنابل العنقودية (المحرمة دوليًا) يستتر خلفه صفقة أكثر أهمية، منها تسليح ذخائر “باتريوت” على سبيل المثال وهو ما يعني أنه تم إصلاح المنظومة التي استهدفتها موسكو في منتصف مايو الماضي، بالإضافة إلى زيادة أربع منظومات “ناسامز” وذخائر منظومة “هيمارس”، ومع ذلك تشير أوكرانيا إلى أن قائمة التسليح لا تزال دون المستوى لتحقيق الأهداف المطلوبة.
فاعلية العملية الخاصة الأوكرانية
قد يكون استخدام أوكرانيا للصواريخ والطائرات دون طيار أكثر فاعلية في استنزاف روسيا وتقويض عملية الاستجابة السريعة للدفاع في مناطق الانتشار بسبب ضعف الإمدادات العسكرية في كل مرة يتم فيها استهداف (كيرتش)، لكن لا يعتقد أن بمقدور أوكرانيا تحطيم الجسر وإخراجه عن الخدمة بشكل نهائي، وبالتالي فإن الضربات تشكل عملية إعاقة مؤقتة، كذلك لم تتسع مساحة الضربات الأوكرانية خارج نطاق بيلجورود، وهو ما سيفرض على أوكرانيا تطوير مساحة الأهداف البعيدة. وبالفعل طالب الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي واشنطن بأسلحة بعيدة المدى، فيما تقول الأخيرة إنها حذرة تجاه هذا الأمر على وجه التحديد. وبهدف تطوير الأهداف في العملية الخاصة ألمحت أوكرانيا إلى أنها قد تستهدف القطع البحرية الروسية في البحر الأسود بعد قرار الإغلاق، والضربات الروسية على أوديسا، لكن في المقابل لا يمكن تجاهل أن القوة البحرية الروسية هي الأخرى قد ترد على عملية من هذا النوع بضربات نوعية مضادة في العمق الأوكراني من البحر، وسبق ووجهت بالفعل ضربات من هذا النوع.
شكليًا يمكن تصور أن واقع العملية الخاصة محدود الفاعلية هو الآخر، لكن ذلك قد يختزل اعتبارات أخرى في حسابات هذه العملية، منها -على سبيل المثال- أن فاعلية الأهداف البعيدة في إطار العملية الخاصة قد تساهم في هز الصورة العسكرية والعامل المعنوي للجانب الروسي، فاستهداف (كيرتش) قد يكون وقعه أكثر تأثيرًا من التقدم في حدود 10-15 كلم في العمق في الدوبناس، كما يحتمل الأمر أيضًا أبعادًا سياسية مهمة، فقد أظهرت نفس الضرية على جسر “كيرتش” انكشافًا سياسيًا روسيًا بعد أن وعدت موسكو بتأمين الجسر الذي سبق واستهدفته أوكرانيا في أكتوبر من العام 2022، وبالتالي كانت الفترة ما بين الاستهداف الأولي والثاني الذي جاء بعد أكثر من ثمانية أشهر كافية للقيام بعملية التغطية الدفاعية وهو ما لم يحدث.
وعطفًا على ما سبق، تتقلص مساحة التأييد القومي للحرب في داخل روسيا، خاصة من العسكريين المتقاعدين. فعلى سبيل المثال، برزت مؤخرًا قضية “إيجور جيركين” وهو ليس مناهضًا للحرب فقط، بل سعى إلى اتخاذ موقف ضد الحرب، ومع طول أمد الحرب لن يكون في صالح الكرملين الرهان على التأييد المناسب، خاصة في ظل الحديث عن التحديات التي تواجه القوات الروسية في الحفاظ على مناطق السيطرة في أوكرانيا، ومهما كان هناك تباطؤ في الهجوم الأوكراني المضاد فلا يمكن اعتباره فاشلًا على النحو الذي تروج له روسيا. فضلًا عن أن الكرملين لم يتعافَ بعد من أزمة “تمرد فاجنر”، وبانتقالها إلى بيلاروسيا فإنها قد تخلق تحديات جديدة لموسكو، فهي لن تتجاوب بطبيعة الحال مع الحرب الروسية في أوكرانيا مجددًا، لكن يعتقد أن دورها في تعزيز وضع بيلاروسيا في المعادلة أو في مواجهة خصمها بولندا قد يأخذ معركة الكرملين إلى طريق فرعي.
كاستنتاج رئيسي، من المتصور أن “العملية الخاصة” الأوكرانية لا تشكل البديل المستدام لخيار “الهجوم المضاد” محدود الفاعلية، لكنها تشكل بديلًا مرحليًا لحين تحسين وضع “الهجوم المضاد” الذي يتطلب قدرات عسكرية نوعية مختلفة ربما ستتأخر عملية دخولها ساحة المعركة حتى الربيع المقبل. وعلى الجانب الآخر، تتنامى التحديات العسكرية والسياسية التي تواجهها روسيا في الحرب في أوكرانيا، لكن لا يزال من الصعوبة بمكان إلحاق الهزيمة بها رغم تلك التحديات، وبالتالي تستمر معضلة الحسم العسكري لأي من الطرفين.
.
رابط المصدر: