انعكاسات عالمية: مآلات فرض الصين قيودًا تصديرية على المعادن النادرة

بسنت جمال

 

باتت ظاهرة استخدام “السلع الأساسية” كأسلحة، أداة محورية في الحروب التجارية بين الدول وبعضها بعضًا خلال السنوات الأخيرة، خاصة عقب اندلاع الحرب الأوكرانية التي عززت من اللجوء لمثل هذه الأدوات لتحقيق مكاسب على حساب الأطراف الأخرى. وتتمثل أحدث الخطوات المُتخذة في هذا الشأن في القرار الصيني بحظر صادرات 8 منتجات من الغاليوم و6 منتجات من الجرمانيوم بحلول الأول من أغسطس لحماية أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، إلا أنّ الدافع الرئيسي قد يكمن في محاولة بكين لمواجهة جهود واشنطن المتصاعدة للحدّ من التقدم التكنولوجي للصين، حيث جاءت تلك الخطوة عقب قرار الولايات المتحدة بفرض قيود جديدة على تصدير الرقائق الدقيقة المتقدمة تقنيًا إلى الصين بعد سلسلة من القيود المماثلة على مدار السنوات القليلة الماضية.

ولم تتوقف جهود مواجهة هيمنة الصين التكنولوجية على الولايات المتحدة فقط؛ إذ أعلنت هولندا في مارس الماضي وقف عمليات تصدير التكنولوجيات لصناعة الشرائح الإلكترونية لدوافع أمنية، كما اتخذت اليابان خطوة مماثلة تمنع تصدير معدات تصنيع الرقائق الإلكترونية إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

هيمنة صينية طويلة الأمد

استطاعت الصين خلال السنوات الماضية أن تتحكم في المعادن الأرضية النادرة سواء على مستوى الإنتاج أو التصنيع أو معالجة المواد الخام وتكريرها وتصديرها. وجاء ذلك مدفوعًا بالسياسات الحكومية التي اتخذتها منذ حوالي ثلاثين عامًا باعتبار المعادن مادة استراتيجية بهدف إزاحة الولايات المتحدة من الطريق باعتبارها المنتج الرائد في العالم حينذاك، ومن أبرز مظاهر تلك الهيمنة الآتي:

• احتكار ممتد: لا تتمثل هيمنة الصين على المعادن النادرة فيما يُعرف بـ “جغرافيا الاحتياطات” فحسب، رغم استحواذها على حوالي 38% من احتياطيات العناصر النادرة، واحتلالها المركز الأول في قائمة أكبر منتجي الأتربة النادرة حول العالم بنسبة تتجاوز 60%؛ إلا أن أسباب هيمنتها ترجع إلى استغلالها لقوتها العاملة منخفضة التكلفة نسبيًا والقوانين البيئية غير المشددة للحصول على ميزة تنافسية في السوق العالمية، فضلًا عن ضخها استثمارات ضخمة في هذا القطاع، مع تطوير شبكة لتكرير المواد الخام، وتأميم صناعة الرواسب المعدنية الأرضية النادرة، بالإضافة إلى قيامها بتوقيع عقود التنقيب عن هذه المعادن في الدول الغنية بها لاستخراجها ومعالجتها، ثم تصديرها إلى بقية العالم.

ولم يكن الدعم الحكومي لتلك المعادن حديث النشأة؛ إذ يعود إلى منتصف الثمانينيات حينما أصدرت السلطات الصينية خصومات ضريبية على صادرات المعادن الأرضية مما خفض من تكاليف شركات التعدين الصينية، بالتزامن مع منع الشركات الأجنبية من أنشطة التعدين داخل الصين، وفرض قيود على مشاركتها في مشروعات معالجة التربة النادرة، إلا في حالة التعاون مع المؤسسات المحلية مما مكّن الأخيرة من اكتساب المعرفة الأجنبية من خلال تلك الشراكات.

وبالنظر إلى البيانات والإحصائيات، يتضح أن ثاني أكبر اقتصاد في العالم يستحوذ على نحو 38% من احتياطي المعادن النادرة عالميًا بإجمالي يبلغ 44 مليون طن، يليها فيتنام بنسبة 19%، والبرازيل بحوالي 18.1%، ومن ثم روسيا والهند بحوالي 10.4% و6% على الترتيب، كما يتبين من الرسم الآتي:

الشكل 1- احتياطي المعادن النادرة حول العالم (مليون طن)

وعطفًا على ذلك، تُعد الصين أكبر منتج للأتربة النادرة في العالم، حيث تضاعف إجمالي إنتاجها خلال الخمس سنوات الماضية من 105 آلاف طن في عام 2017 إلى 210 آلاف طن بحلول عام 2022. وهكذا، أصبحت الصين المورد الرئيسي لهذه المعادن حيث اضطرت معظم الشركات إلى إرسال إنتاجها من التربة النادرة ليتم تكريره في مصانعها. وترتيبًا على ما سبق، يتوقع معهد أكسفورد لدراسات الطاقة أن هيمنة الصين على مجال إنتاج ومعالجة العناصر الأرضية النادرة ستظل قائمة حتى عام 2030 على الأقل نظرًا لحجم الصناعة وموقعها في سلاسل التوريد العالمية.

وبالتركيز على عنصرين، الغاليوم والجرمانيوم، يتضح أن الصين أيضًا تُعد أكبر مصدر لكلا المعدنين؛ إذ تشكل 94% من إمدادات الغاليوم و83% من الجرمانيوم، اللذين يحظيان بأهمية اقتصادية كبيرة نظرًا لاستخدامهما في صناعة الرقائق ومعدات الاتصالات والصناعات الدفاعية وكذلك الإلكترونيات والهواتف المحمولة والألواح الشمسية والرادارات. ولهذا، فقد استغلت بكين الأهمية الاستراتيجية للمعدنين إلى جانب احتكارها لإنتاجهما وتصديرهما من أجل التأكيد على قوتها وهيمنتها على قطاع المعادن النادرة وأشباه الموصلات.

• التحكم في النطاق السعري: انطلاقًا من هيمنة الصين على احتياطات المعادن النادرة وإنتاجها، فقد استطاعت أن تسيطر على الأسعار بشكل كبير، حيث تهدف الحكومة إلى ضمان ارتفاع أسعار المعادن الأرضية النادرة. وقد حدث ذلك حينما فرضت قيودًا على صادراتها من المعادن إلى اليابان –التي كانت تستورد 50% من إمدادات الصين من الأتربة النادرة- في أواخر عام 2010 ردًا على تصادم بين قارب صيد صيني وحرس السواحل الياباني مما أدى إلى ارتفاع متوسط سعر واردات معادن الأرض النادرة العالمية من 9.461 ألف دولار للطن المتري في عام 2009 إلى ما يقرب من 66.957 ألف دولار في عام 2011. وقد تكرر الأمر بحلول عام 2019ـ، حينما هددت الصين بفرض قيود تصديرية على بعض منتجات المعادن النادرة في ظل الضغوط التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” على شركة الاتصالات الصينية “هواوي”، وهكذا تستطيع الصين التحكم بسهولة في المعروض من المعادن النادرة وهو ما يؤثر مباشرة على نطاقها السعري.

• تسليح المعادن النادرة: لطالما لوحت الصين بإمكانية استخدام سلاح المعادن النادرة لمواجهة أيّ ضغوط سياسية واقتصادية قد تتعرّض لها من القوى الغربية وأظهرت استعدادها للاستفادة من ثقلها في صناعة الأرض النادرة العالمية في السعي لتحقيق أهدافها الخاصة، مما أدى إلى دق ناقوس الخطر في العديد من البلدان الكبرى، كما أنها هددت في الكثير من المناسبات بإيقاف الصادرات من هذه المعادن إلى باقي الدول مما قد يؤثر سلبًا على اقتصاداتها القائمة على الصناعات التكنولوجية الحديثة. وعلى الرغم من توافر المعادن في تلك البلدان، إلا أنها تواجه العديد من التحديات خلال عملية إنتاجها كالتكاليف المرتفعة والمخاوف البيئية من إنشاء ذلك النوع من الصناعات المحلية.

انعكاسات عالمية

يعتبر القرار الصيني أحدث خطوة في سلسلة التنافس التجاري والتكنولوجي بين أكبر اقتصادين في العالم، وهو بطبيعة الحال ما سيترتب عليه عدد من التداعيات الآنية وطويلة الأجل من الممكن استعراضها تاليًا:

• احتدام حرب الرقائق العالمية: من شأن اتخاذ كبار اللاعبين بسوق المعادن النادرة قرارات بفرض قيود على الإمدادات بهدف مواجهة التقدم التكنولوجي في الدول الأخرى دون النظر في تبعات قراراتهم على الاقتصاد العالمي أن يفاقم من حرب الرقائق التي يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة؛ إذ تقوم كل دولة باتخاذ ردة فعل حمائية نتيجة لقرار لمنافستها بحظر تصدير المنتجات الحيوية لصناعة أشباه الموصلات. فعلى سبيل المثال، أوقفت الولايات المتحدة أكتوبر الماضي صادرات المعدات المستخدمة في إنتاج بعض أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا إلى الصين لترد الصين على هذه الخطوة بحظر استخدام منتجات شركة ” Micron”، أكبر منتج لرقائق الذاكرة في الولايات المتحدة، في شركات البنية التحتية المعلوماتية المهمة في البلاد. وفي المقابل، تحاول الإدارة الأمريكية الحالية تحفيز كبرى شركات أشباه الموصلات العالمية (“سامسونج” و”شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات TSMC”) بالتوسع في إنتاج المصانع بالولايات المتحدة. وترتيبًا على ما سبق، قد يساهم فرض قيود على تصدير المعادن الصينية في اضطراب سلاسل الإمداد والتأثير سلبًا على حجم إنتاج السلع المعتمدة على تلك المعادن كالسيارات والهواتف الذكية.

• أضرار أمريكية: قد تتضرر صناعة الدفاع الأمريكية من حظر صادرات الغاليوم الذي يعتبر مكونًا رئيسيًا في تطوير القدرات العسكرية الأمريكية، حيث تعتمد واشنطن على “نيتريد الغاليوم” في تصنيع أكثر الرادارات تقدمًا، وكذلك في تطوير نظام الدفاع الصاروخي “باتريوت”. وما يدلل على أهمية المعدنين للولايات المتحدة هو إدراجهما في قائمة المعادن الحرجة لعام 2022 كمواد ضرورية للأمن القومي، ولا سيما في ظل اعتمادها على الإمدادات الصينية لتأمين حاجاتها من هذين المعدنين؛ إذ استوردت من الصين نحو 53% من احتياجاتها من الغاليوم بين عامي 2018 و2021، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية. ولا تقتصر الأضرار على الولايات المتحدة، حيث عبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه إزاء القرار الصيني نظرًا لاعتماده على بكين في 27% من إمدادات الغاليوم و17% من الجرمانيوم، مع توقعات بأن ينمو الطلب الأوروبي على الغاليوم بنحو 17 ضعفًا بحلول عام 2050.

• مكاسب للدول المنافسة: لم تكن الصورة قاتمة بالنسبة لجميع البلدان حول العالم على قدم المساواة، حيث استطاعت بعض الدول المُصدرة حول العالم تحقيق مكاسب طائلة نتيجة لحرب الرقائق؛ إذ استفادت سنغافورة من الخلاف الأمريكي-الصيني بشأن مبيعات أشباه الموصلات من خلال ارتفاع مشتريات بكين من معدات تصنيع الرقائق إلى أعلى مستوياتها منذ أغسطس بقيمة 407 ملايين دولار من سنغافورة خلال أبريل الماضي، بارتفاع 9.6% مقارنة مع الشهر السابق لتستحوذ بذلك على المركز الثاني كأكبر مورد لآلات تصنيع الرقائق إلى الصين بحصة تبلغ نسبتها 17% عقب اليابان التي تستحوذ على النصيب الأكبر البالغ 39% من إجمالي الشحنات. كما تحاول سنغافورة لعب دور أكثر تأثيرًا إقليميًا من خلال إبداء رغبتها في الوساطة بين الولايات المتحدة والصين من أجل إصلاح الخلافات التكنولوجية بينهما للتخفيف من حدة تداعيات نزاع أشباه الموصلات الدائر بين الدولتين.

• تعزيز مصالح الشركات الصينية: قفزت أسعار الغاليوم والجرمانيوم العالمية فور إعلان الصين عن حظر تصديرهما؛ حيث أظهرت بيانات بورصة شنغهاي للمعادن وصول سعر الأول إلى 1775 يوان (245 دولارًا) للكيلوجرام، وهو أعلى مستوى منذ السادس عشر من مايو، فيما سجل سعر سبيكة الجرمانيوم حوالي 9150 يوان (1264 دولارًا) للكيلوجرام. وكنتيجة متصلة بذلك، قفزت أسهم شركة “يونان لينسانغ شيونان جرمانيوم إندستريال” بنحو 10%، وهو الحد الأقصى المسموح به للصعود لليوم الواحد في بورصة شنجن، ليغلق عند أعلى مستوياته في 15 شهرًا، في حين صعدت أسهم مجموعة “تشوتشو سميلتر” إلى سقف 10%، وكذلك أسهم شركة “يونان لوبنغ زنك آند إلكتريسيتي” بنسبة 5%.

• مواجهة دولية: تسعى غالبية دول العالم في الوقت الراهن إلى تحجيم الاعتماد على الصين في توريد المعادن النادرة، والبحث عن طرق لخفض اعتمادهما على مُورّد واحد للمواد الخام من تلك العناصر، حيث دفعت التهديدات الصينية بإمكانية قطع الإمدادات عن القوى الغربية للشعور بالقلق تجاه تأثير أي تعطيل بسيط لسلاسل التوريد الخاصة بهم لمثل هذه المنتجات على الصناعات الرئيسية.

ففي الولايات المتحدة، أطلق باحثون في البنتاجون مشروعًا يستهدف استخراج المعادن الأرضية النادرة ذات الأهمية الحيوية للتقنيات العسكرية من مصادر محلية باستخدام مُعدات متناهية الصغر، كما ساعد البنتاجون في تمويل سلسلة من المشروعات الهادفة لتطوير عمليات المعالجة في الولايات المتحدة، كما وقع الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” قرارًا تنفيذيًا يهدف إلى زيادة الإنتاج المحلي من المعادن النادرة. وخلال عام 2018، أضافت الحكومة التربة النادرة إلى قائمة المعادن التي تعتبر ضرورية للاقتصاد الأمريكي والأمن القومي. وبالتزامن مع ذلك، أضاف الاتحاد الأوروبي العناصر الأرضية النادرة إلى قائمة المواد الحيوية مما يستوجب تقليص الاعتماد على الواردات عن طريق تعزيز الإنتاج المحلي، كما أطلق استراتيجية خاصة لضمان الوصول إلى المواد الخام، لترتكز الاستراتيجية على ثلاث نقاط: ضمان استيراد المواد الخام من الأسواق العالمية، وضمان الإنتاج المستدام للمواد الخام من داخل الاتحاد الأوروبي، وإعادة التدوير والاستخدام.

ومن أجل تحقيق تلك الأهداف، أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع ” EURARE” بهدف تطوير صناعة تنقيب وتنقية العناصر الأرضية النادرة في القارة العجوز بطريقة مستدامة ومجدية اقتصاديًا وصديقة للبيئة، كما أسس شبكة الخبرة الأوروبية للعناصر الأرضية النادرة “ERECON” بهدف وضع خطط لتجاوز التحديات التي تواجه صناعة المعادن النادرة، وتحديد أهم المناطق الأوروبية الصالحة لاستغلالها في تلك الصناعة. ومن ناحية أخرى، تخطط كوريا الجنوبية لتنويع مصادر إمداداتها من العناصر الأرضية النادرة وتقليل الواردات من الصين، بالتوازي مع زيادة وارداتها من اليابان، فضلًا عن ابتكار طرق جديدة لتقليل استهلاك العناصر الأرضية النادرة.

ترتيبًا على ما سبق، يُمكن القول إن حرب الرقائق اشتدت وتيرتها بين الولايات المتحدة والصين بعد حظر الأخيرة تصدير معدن الغاليوم والجرمانيوم دون الحصول على ترخيص، وهو ما يعتبر دليلًا على مدى هيمنة بكين على سوق صادرات المعادن النادرة وأشباه الموصلات، وقدرتها على التأثير سلبًا على الصناعات ذات الصلة بالرقائق كالسيارات والهواتف الذكية والصناعات الدفاعية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/35518/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M