اتّجهت أنظار العالم في الآونة الأخيرة نحو الأزمة الروسية الأوكرانية، وتأثيراتها المحتملة على الاقتصاد العالمي. ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لاقتصادات الدول الإفريقية التي لا تزال تكافح للتعافي من آثار وباء كورونا؟ فضلًا عن مجموعة من الأزمات المتشابكة، بينها أزمة المناخ المتفاقمة التي تدفع الأفارقة إلى المزيد من الفقر والجوع. وعلى الرغم من عدم وجود إجابة مؤكدة لهذا التساؤل؛ إلا أن المعطيات الحالية للأزمة تشير إلى وجود طريقين رئيسيين يمكن أن تؤثر من خلالهما الأزمة الروسية الأوكرانية على اقتصادات الدول الإفريقية. أحدهما يحمل تهديدات كبرى على المدى القصير للاقتصاد، ولسبل عيش الشعوب الإفريقية. بينما يشتمل الطريق الآخر على فرص محتملة يمكن للدول الإفريقية اقتناصها لتحقيق مكاسب في عددٍ من المجالات.
أولًا- التهديدات المحتملة على الاقتصادات الإفريقية:
تنطوي الأزمة الروسية الأوكرانية على عدد من التهديدات لاقتصادات الدول الإفريقية، أبرزها:
- ارتفاع أسعار الوقود وزيادة تكاليف المعيشة:
واجهت أسواق النفط العالمية ضربة مزدوجة، أدت إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير إلى قرابة 120 دولارًا للبرميل الواحد بنهاية الأسبوع الأول من مارس 2022، حيث تأتي الأزمة الروسية الأوكرانية في وقت تواجه فيه الدول الأوروبية بالفعل أزمة طاقة منذ عام 2021، وسط مجموعة من العوامل، بما في ذلك الوباء ومحدودية العرض وتزايد التوترات الجيوسياسية، وهو ما ترك تأثيرات مباشرة على أسعار النفط في العالم بأكمله بما في ذلك إفريقيا، حيث بدأت التأثيرات بالظهور فعليًا في دول مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وزامبيا، بارتفاع مفاجئ في أسعار الوقود بالمحطات. ومع زيادة أسعار الوقود، فضلًا عن الاضطرابات في سلسلة التوريد، ستتجه تكاليف الإنتاج والنقل إلى الارتفاع، وبالتبعية ترتفع أسعار السلع في الأسواق المحلية، وهو ما يؤدي إلى مزيد من التضخم في دول تعاني أصلًا من معدلات تضخم مرتفعة تصل في بعض الدول إلى ما يزيد على 250% كما هو الحال في السودان على سبيل المثال. وعلى هذا النحو، سيؤدي مزيد من الارتفاع في الأسعار إلى مزيد من الارتفاع في تكاليف المعيشة للشعوب الإفريقية التي تعاني أصلًا من ظروف معيشية صعبة.
وعلى الرغم من توقع العديد من الاقتصاديين إمكانية تحقيق عوائد على المدى القصير من الارتفاع في أسعار النفط بالنسبة للدول المصدرة للنفط في القارة، إلا أن الجزء الأكبر من عائدات النفط في الدول الإفريقية تذهب لصالح الشركات متعددة الجنسيات، فضلًا عن كون دولة مثل نيجيريا التي تعد أكبر منتج للنفط الخام في إفريقيا قد لا تكون مؤهلة لتحقيق الاستفادة المرجوة، نتيجة عدم قدرتها على تكرير النفط محليًا واعتمادها على الواردات من النفط المكرر لتغطية احتياجاتها المحلية واستيرادها بأسعار أعلى من تلك المحققة من صادراتها من النفط الخام.
- التأثير على الأمن الغذائي:
بالنسبة للعديد من الدول الإفريقية، يشكل الاعتماد الكبير على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا مصدر قلق، فقد بلغت قيمة واردات إفريقيا من المنتجات الزراعية من روسيا في عام 2020، حوالي 4 مليارات دولار، 90٪ منها قمح، بينما بلغت الصادرات الأوكرانية من المنتجات الزراعية لإفريقيا ما قيمته 2.9 مليار دولار في العام نفسه، كان حوالي 48٪ منها قمحًا، و31٪ ذرة. وخلال الموسم الزراعي 2020-2021 اتجه 36% من إجمالي صادرات أوكرانيا من القمح إلى إفريقيا.
وفي سياق متصل، تُشير تقديرات برنامج الأغذية العالمي إلى أن منطقة شرق إفريقيا تعتمد على الواردات من القمح لتلبية 84 في المائة من الطلب المحلي للمنطقة، وتعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر مصدري القمح للمنطقة، حيث توفران معًا 90 في المائة من القمح المستورد في شرق إفريقيا، وتتراوح حصة صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا في المنطقة من حوالي 66 بالمائة في إثيوبيا إلى ما يقرب من 100 بالمائة في إريتريا. وفي ظل الأزمة الحالية، يمكن أن تؤدي الاضطرابات التجارية والعقوبات الاقتصادية على روسيا إلى تقييد التجارة مع المنطقة، مما يؤدي إلى نقص الغذاء وارتفاع الأسعار على المدى القصير.
وعلى ما يبدو فإن الأمر في دول شمال إفريقيا لا يختلف كثيرًا عن شرقها، حيث تعتمد كل من تونس والمغرب وليبيا والجزائر على الدولتين لتلبية ما يزيد على 50% من وارداتهم من القمح والحبوب، وتصل هذه النسبة في مصر إلى ما يزيد على 70%. ولسوء الحظ، يأتي جزء كبير من إنتاج القمح الأوكراني من المناطق التي تحولت إلى ساحة للصراع الروسي في أوكرانيا، وبالتالي من المحتمل أن يتأثر موسم الزراعة في البلدين بالنزاع، مما يؤدي إلى اضطراب في سلاسل التوريد مع البلدان المستوردة التي تبحث عن شركاء تجاريين بديلين. وبالنظر إلى حجم الطلب على القمح والاعتماد المفرط للدول الإفريقية على الواردات من روسيا وأوكرانيا، فمن المرجح أن تشهد القارة تأثيرات سلبية على أمنها الغذائي خلال الفترة القادمة، فعلى الرغم من توافر احتياطات من القمح كافية لتلبية احتياجات العديد من الدول الإفريقية لعدة شهور قادمة؛ إلا أن ارتفاع أسعار القمح عالميًا سيحدّ من قدرتهم على توفير بدائل استراتيجية لتلبية الاحتياجات المستقبلية من القمح في الأجل القصير. وحتى الدول الإفريقية التي لا تستورد القمح من أوكرانيا أو روسيا، وإنما تستورده من دول أخرى، ستتأثر بالأزمة تأثيرًا مباشرًا، خصوصًا بعد أن قفزت أسعار القمح في الربع الأول من عام 2022 إلى أعلى مستوى لها منذ 14 عامًا، إذ وصلت إلى 344 يورو للطن.
وبالإضافة لذلك، لا يتوقف تأثير الأزمة على واردات الحبوب للقارة الإفريقية، ولكن يتعداها إلى تهديد الأمن الغذائي في القارة ككل، التي يعاني عشرات الملايين فيها من انعدام الأمن الغذائي الحاد، نتيجة الضربات المتلاحقة، حيث تزامنت الأزمة الروسية- الأوكرانية مع عدد من المتغيرات، تؤثر جميعًا على وضع الأمن الغذائي في القارة، بما في ذلك أزمة كوفيد، والصراعات، والتغيرات المناخية، فضلًا عن ارتفاع أسعار السلع عالميًا بثلاثة أضعاف منذ عام 2020، وهو ما دفع ما يزيد على 50 مليون إفريقي في دول شرق إفريقيا ودول الساحل نحو الجوع، وحدّ من إنتاج الحبوب في القارة الإفريقية بنحو 30 مليون طن.
فمع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، تعاظم الارتفاع في أسعار الأسمدة في العالم، التي كانت مرتفعة أصلًا منذ نهاية 2021، بنسبة 30% و4% لكل من اليوريا والفوسفات -وهما مكونان رئيسيان للأسمدة- واستمرت الأسعار في الزيادة مع بداية الدخول الروسي للأراضي الأوكرانية في 24 فبراير، حيث تعد روسيا من أكبر مصدري الأسمدة في العالم، ومن المنتظر أن ترتفع الأسعار أكثر، وهو ما سيدفع العديد من المزارعين للاستغناء عن شراء الأسمدة هذا العام، نتيجة ارتفاع أسعارها، وبالتالي قد يتراجع إنتاج المحاصيل لمواسم قادمة، وهو ما من شأنه أن يضرّ بالنظم الغذائية في بعض الدول الإفريقية، ولا سيما تلك التي تعتمد -إلى حد كبير- على الزراعة ليس فقط لإطعام المواطنين، ولكن أيضًا لإدارة اقتصاداتها، حيث ستضطر حكومات الدول الإفريقية لتعديل ميزانياتها لزيادة مخصصات استيراد الغذاء، إلى جانب مخصصات الوقود وغيرها، وهو ما يُثقل كاهل الحكومات بمزيد من الديون، أو ينبئ بأزمة غذاء أشد قسوة، ويهدد الاستقرار السياسي في أنحاء المنطقة.
- تأثيرات محتملة على السياحة الإفريقية:
ألقت الأزمة الروسية الأوكرانية بظلالها على قطاع السياحة الإفريقي، الذي لا يزال يتعافى من تداعيات أزمة كوفيد-19، حيث تأتي اثنتان من الدول الإفريقية ضمن قائمة الوجهات العشر الأكثر جذبًا للسياح الروس في العالم، وهما سيشل ومصر، ويمثل السياح الروس 16% من إجمالي السائحين في سيشل، و7% من إجمالي السائحين في مصر، وفقا لإحصاءات “ForwardKeys”، إلى جانب نسب متفاوتة من السائحين الروس في كل من تونس والمغرب وتنزانيا وموريشيوس. وفي ظل الأزمة الحالية، توقفت حركة السياحة من وإلى الدولتين، وتم إلغاء كل حجوزات الرحلات الجوية تقريبًا خلال الفترة من مارس إلى مايو 2022، بعد أن كانت هذه الحجوزات قد شهدت تعافيًا بنسبة 275% في سيشل، و216% في مصر عن الفترة نفسها في 2020. وبالنسبة لدولة مثل سيشل سيكون لانهيار السفر الروسي عواقب وخيمة على اقتصادها المعتمد على السياحة. إلى جانب ذلك، من المحتمل أن تؤدي موجات ارتفاع الأسعار في العالم إلى انخفاض السياحة العالمية بسبب ارتفاع التكاليف، وبالتالي لمزيد من الانخفاض في تدفقات النقد الأجنبي للدول الإفريقية.
- التبادل التجاري والاستثمارات:
على الصعيد التجاري، نمت الصادرات الأوكرانية إلى إفريقيا بشكل مطرد، من 210 مليون دولار أمريكي في عام 1996 إلى أكثر من 4 مليارات دولار أمريكي في عام 2020، بينما وصلت الصادرات الروسية لإفريقيا إلى حوالي 20 مليار دولار في عام 2019، وهو ما يمثل حوالي 2% فقط من تجارة إفريقيا مع العالم، الأمر الذي يوحي بأن تأثير التجارة سيكون هامشيًا. ومع ذلك، فإن عددًا قليلًا من الدول سيتأثر بشكل أكبر من البقية، حيث تصل تجارة ملاوي مع روسيا إلى 8.1% من إجمالي تجارتها الخارجية، تليها أوغندا بنسبة 7.2%، ثم السنغال 4.4%، والنيجر والكنجو بنسبة 4% لكل منهما، بالإضافة إلى تأثر صناعة الشاي في كينيا، حيث تعد روسيا من بين أكبر خمسة مستهلكين للشاي الكيني.
وعلى الرغم من أن جزءًا كبيرًا من تجارة روسيا وأوكرانيا مع إفريقيا يأتي تحت مظلة المواد الغذائية التي يُفترض ألا تتأثر بالعقوبات؛ إلا أن ارتفاع الأسعار ونقص المعروض سيكون له تأثير كبير على الواردات، بينما قد لا يرغب بعض التجار الأفارقة في المخاطرة بالتصدير للدولتين في ظل عقوبات تشمل منع روسيا من أنظمة المدفوعات الدولية.
وبالإضافة لذلك، يتمثل جزء آخر من خسارة إفريقيا في الفرص الضائعة، حيث تعهدت روسيا في قمة سوتشي 2019 بزيادة التبادلات التجارية مع إفريقيا إلى 40 مليار دولار، وكانت المؤشرات الأولية تُشير إلى أنه من المنتظر أن يصل التبادل التجاري إلى هذه الحجم بحلول عام 2024، وهو ما قد يتأخر حدوثه قليلًا بسبب الأزمة الحالية، التي تطرح تساؤلًا عن إمكانية عقد القمة الروسية الإفريقية التي كان مقررًا عقدها بعد عدة أشهر في نوفمبر 2022.
وفيما يخصّ الاستثمارات الروسية في إفريقيا، والتي تتركز بشكل كبير في قطاعات النفط والغاز والتعدين والطاقة النووية، فمن المرجح أن تثبط العقوبات المفروضة على روسيا من تدفق الاستثمارات الروسية لإفريقيا قليلًا، فضلًا عن أن حالة عدم اليقين حول الاقتصاد العالمي تنقل بالتبعية التأثيرات إلى الاستثمارات الدولية الأخرى التي قد تشهد اضطرابًا على المدى القصير، ومع استقرار الأوضاع ستعاود التدفق من جديد.
علاوةً على ذلك، تقدم روسيا مساعدات لإفريقيا بمقدار 400 مليون دولار سنويًا، يتم توزيع نحو 60% منها عبر منظماتٍ دولية، مثل: برنامج الغذاء العالمي، ووكالة الأمم المتحدة للاجئين، وفي ظل التوترات الحالية بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة، على خلفية الأزمة الأوكرانية، قد تتأثر هذه المساعدات في الحجم وقنوات التوزيع.
- تراجع الدعم في مكافحة الإرهاب:
احتلّت الأزمة الأوكرانية موقع الصدارة من اهتمامات قادة العالم في جميع المحافل الدولية، على حساب الاهتمام بالقضايا الملحّة والصراعات والأزمات التي تواجهها القارة الإفريقية، وتتطلب اتباع نهج دولي في حلها، مع تصاعد احتمالات تخفيض المساعدات المباشرة والدعم العسكري المقدم من الدول الأوروبية إلى إفريقيا والموجه لمكافحة الإرهاب في القارة، وإعادة توجيه هذه الأموال لدعم ميزانيات دولهم، وتسليح جيوشهم، في محاولة موازنة مساهمتهم في الناتو لاحتواء العدوان الروسي على أوكرانيا، وهو ما يؤثر على الوضع الأمني في المناطق التي تعاني الإرهاب في القارة. فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الدفاع الدنماركي، يوم الجمعة 18 فبراير، مع انتشار أخبار حول نية روسيا غزو أوكرانيا، أن بلاده ستسحب فرقاطة عسكرية كانت متواجدة في مهمة لمكافحة القرصنة في خليج غينيا، بسبب التوترات المستمرة مع روسيا بشأن أوكرانيا، حيث ستُضاف إلى القوات التي وفرتها كوبنهاجن لحلف شمال الأطلسي في أوروبا، وهو الإجراء الذي من الممكن أن تتبعه دول أوروبية أخرى في ظل الأزمة الحالية.
وبالإضافة لذلك، من المحتمل أن يتأثر الدعم المقدم لقوات حفظ السلام في القارة إذا تطورت الأوضاع إلى الأسوأ، حيث تشارك روسيا بأعداد كبيرة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ويفوق عدد جنود حفظ السلام الروس في إفريقيا عدد أولئك القادمين من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ويبدو أن مصير هؤلاء الجنود وتواجدهم في المنطقة معلق بمصير الأزمة الروسية الأوكرانية، ومدى تطورها في الأيام القادمة.
ثانيًا- فرص محتملة لبعض الدول الإفريقية:
من جهة أخرى، وبالرغم من التهديدات التي تواجه إفريقيا نتيجة الأزمة الروسية الأوكرانية، إلا أن الأزمة ذاتها قد تحمل من وجهها الآخر فرصًا وفوائد محتملة للعديد من دول القارة الإفريقية، منها:
- إنعاش صادرات الوقود والموارد المعدنية الإفريقية لأوروبا:
ولّدت التوترات بين روسيا وأوكرانيا اهتمامًا متزايدًا لدى الدول الأوروبية بالبحث عن بديل آمن لإمدادات الوقود بعيدًا عن روسيا التي تستورد منها أوروبا (41% من الغاز الطبيعي) و(47% من الوقود الصلب) و(27% من النفط الخاص) وفقًا لإحصائيات عام 2019. وتبرز الدول الإفريقية، التي لديها مشروعات مُنَفّذه بالفعل لإمداد أوروبا بالوقود، كأحد هذه البدائل الممكنة على المدى القصير، حيث تأتي 8% من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي من الجزائر، وبالإضافة لذلك تأتي 8% من وارداتها من النفط الخام من نيجيريا، و6.2% من ليبيا، و2.5% من الجزائر، بينما تأتي 2.8% من واردات الوقود الصلب من جنوب إفريقيا. هذا إلى جانب مصر التي تأتي كثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي في إفريقيا، حيث بلغت صادرات الغاز المسال المصرية خلال 2021 نحو 6.5 ملايين طن.
كما تبرز دول إفريقية أخرى مثل السنغال والنيجر وموزمبيق وتنزانيا كبدائل للواردات الأوروبية من الوقود ولكن على المدى المتوسط والبعيد، حيث تحتوي هذه الدول على احتياطات كبيرة ولكنها في حاجة إلى استثمارات ضخمة لإخراجها. ومع ذلك، فإن وجود قنوات حالية لنقل الوقود لا يضمن زيادة التدفقات الإفريقية، حيث يتوقف الأمر على عوامل أخرى، من بينها امتلاك القدرة التقنية على زيادة الإنتاج والتي تفتقر إليها العديد من الدول الإفريقية في الوقت الحاضر، ولكن في الأجل المتوسط، وفي ظل مشروعات جارية لرفع القدرة الإنتاجية وتوفير قنوات تصدير اضافية، ستلعب الدول الإفريقية دورًا أكبر في السوق العالمية للطاقة.
في سياقٍ موازٍ، قد يفيد المزيد من العقوبات على روسيا مصدري الموارد الطبيعية الآخرين في المنطقة. فعلى سبيل المثال، تعد جنوب إفريقيا ثاني أكبر منتج للبلاديوم في العالم، وهو عنصر مهم في صناعة السيارات والإلكترونيات، وذلك بعد روسيا، وبالتالي قد تواجه طلبًا متزايدًا على البلاديوم في ظل العقوبات على روسيا. وبالمثل، ستشهد معادن أخرى مثل الذهب والبلاتين والنيكل، وغيرها من المعادن الثمينة، زيادة في الطلب العالمي، ومن ثم زيادة في الأسعار تمثل فائدة مؤقتة لاقتصادات الدول الإفريقية المصدرة لها.
- نمو صادرات السلع الزراعية:
إلى جانب الفوائد المباشرة، برزت فائدة إضافية غير مباشرة، وربما بدأت فعليًا قبل أزمة أوكرانيا بعام، حيث شهد عام 2021 انتشار أزمة نقص الطاقة في العديد من الدول الأوروبية، وارتفاع أسعار الوقود، مما أدى إلى قيام بعض المنتجين الأوروبيين بتخفيض إنتاجيتهم لترشيد استخدام الوقود، بما في ذلك تخفيض مواسم الزراعة، وهو ما أجبر المشترين على البحث عن بدائل من دول أخرى، لتلبية النقص في احتياجاتهم، وكان الخيار الإفريقي مطروحًا كبديل لنقص السلع الزراعية في أوروبا. على سبيل المثال، انتعشت صادرات كينيا من الزهور والفواكه لأوروبا خلال عامي 2020 و2021، ورغم القيود المفروضة على الشحن بسبب أزمة كوفيد، فإن الصادرات الكينية من الزهور والفواكه سجلت 1.4 مليار دولار لعام 2020، وهو ما يمثل حوالي ربع الواردات الأوروبية من الزهور. وفي ظل الأزمة الروسية-الأوكرانية، فمن المرجح أن يتجه سلوك المنتجين الأوروبيين لمزيد من الترشيد للطاقة، مما يفتح آفاقًا واسعة أمام السلع الزراعية الإفريقية المختلفة وإمكانية تصديرها للأسواق الأوروبية بأسعار مرتفعة.
من جهة أخرى، وبينما تعاني الأسواق الإفريقية من نقص إمدادات الأسمدة، تمتلك العديد من الدول الإفريقية إمكانات عالية لصناعة الأسمدة مثل مصر، التي توجه بالفعل جزءًا من صادراتها من الأسمدة للقارة الإفريقية، وبالتالي ستكون الأزمة بمثابة فرصة للدول المنتجة للأسمدة لزيادة صادراتها من للدول الإفريقية، وتحقيق مكاسب كبيرة، فضلًا عن تعزيز التجارة البينية للقارة.
- تعزيز فرص الاستثمار الزراعي، خاصة في القمح:
على الرغم من استيراد العديد من الدول الإفريقية جزءًا كبيرًا من احتياجاتها من القمح من الخارج، خاصة من أوكرانيا وروسيا؛ إلا أن إفريقيا تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة تقدر بحوالي 930 مليون هكتار، أكثر من نصفها غير مستغلة، حيث تضم القارة الإفريقية حوالي 60 بالمائة من الأراضي الصالحة للزراعة غير المستغلة في العالم، وبالتالي من المرجح على إثر الأزمة الروسية – الأوكرانية، أن تشهد إفريقيا انتعاشًا في الاستثمار الزراعي في الأجل المتوسط، خاصة مزارع إنتاج الحبوب، وبالفعل بدأت العديد من الدول العربية والأجنبية منذ سنوات في الاتجاه نحو مشاريع الاستثمار الزراعي في إفريقيا لتلبية احتياجاتها الغذائية، وتعزز الأزمة الحالية من فرص الاستثمار الأوروبي والعربي – الإفريقي في مشاريع استزراع القمح والحبوب في الدول الإفريقية لتغطية جزء من الاحتياجات الأوروبية والعربية، وهو ما دعت إليه إفريقيا أكثر من مرة في محافل دولية عدة، لكن الشريك الأوروبي لم يفطن حينها للأهمية الكبيرة لمثل هذه الاستثمارات، التي يبدو أن الوقت قد حان لها.
ويذكر أن مصر في ظل احتياجاتها المطردة من القمح والمنتجات الزراعية، لتلبية الطلب المحلي، كانت قد بدأت بالفعل في انتهاج استراتيجية المزارع المصرية في إفريقيا لتلبية جزء من هذه الاحتياجات، وكذلك لنقل الخبرة الزراعية إلى دول القارة، بما في ذلك 9 مزارع تم إنشاؤها بالفعل مع مخطط لإنشاء 21 مزرعة مشتركة.
ختامًا، لا تزال التداعيات الاقتصادية للأزمة الروسية الأوكرانية على إفريقيا غير مؤكدة. وعلى الرغم من الاستفادة المحتملة لبعض الدول الإفريقية من التحول في الأسواق العالمية بعيدًا عن روسيا بسبب الأزمة، فإن الآثار المحتملة قصيرة ومتوسطة المدى على سبل العيش الاقتصادية لدول القارة وأمنها الغذائي مقلقة بشكل خاص، كما أن حجم التأثير المحتمل للصراع، سواء بالسلب أو الإيجاب، سيعتمد على حجم الصراع وطول الفترة الزمنية التي سيستغرقها، ففي عام 2014 أثيرت مخاوف مماثلة بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ومع ذلك تمكنت الأسواق من الانتعاش بسرعة على الرغم من ارتفاع أسعار القمح بنسبة 25% في شهرين فقط، ولكن نظرًا لأن التوغل الحالي أوسع انتشارًا مقارنة بعام 2014، وتزامنه مع أزمة كوفيد-19، فضلًا عن الأزمات الأخرى التي تعاني منها إفريقيا، فمن المحتمل أن يكون التعافي أبطأ، والآثار أكثر حدة.
.
رابط المصدر: