رحلة في عالم من الأبعاد الإضافية – الحلقة الأولى
بحلول الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت الفيزياء أمام طريقين لا ثالث لهما؛ إما أن ينجح مشروع ألبرت آينشتاين في توحيد الكهرومغناطيسية مع الجاذبية كما تصفها النسبية العامة، وإما أن ينجح مشروع بول ديراك -ورفاقه- في توحيد الكهرومغناطيسية مع الكوانتم في إطار النسبية الخاصة. كان سبب انفصال وتشعب المسارين راجعًا إلى الاختلاف الجذري في المسلمات/المنطلقات الأولية والطبيعة الرياضية لكلا المنهجين. وبنهاية الستينيات، غرق مشروع آينشتاين في الرياضيات، بينما غرق مشروع ديراك في الاكتشافات. فمع ظهور النموذج العياري -كنتيجة للمشروع الثاني- بنجاحاته «الخارقة» في التنبؤ بدقة مرعبة بمواصفات الجسيمات الأولية، والتطابق المذهل بينها وبين التجارب العملية، بدا وكأن مشروع آينشتاين في طريقه للفشل حتى مع محاولات تعديله المتتالية بما فيها محاولات ديراك نفسه وخلفائه.
ظن الفيزيائيون أنهم على الطريق الصحيح لوصف العالم، غير أن قصة النموذج العياري لم تنته النهاية السعيدة المتوقعة، فقد ظهرت العديد من المفاجآت في النموذج العياري. ومع تقدم الرياضيات في المنهج الذي بدأه آينشتاين، اضطر الفيزيائيون إلى إعادة النظر في كلا المنهجين بغرض توحيدهما من جديد. كيف تم هذا؟ وما علاقة ذلك بالأبعاد الإضافية؟ وأين تقف الفيزياء المعاصرة؟ وما هو الفاصل بين الحقيقة والخيال في منهج الأبعاد الإضافية؟ هذا ما سوف نتعرف عليه في رحلتنا عبر تاريخ الفيزياء الحديثة في هذه السلسلة من المقالات.
بعض مشاكل النموذج القياسي
رغم اتفاق الأغلبية الغالبة من الفيزيائيين على ضرورة تعديل النموذج القياسي Standard Model -بغرض الإجابة على الأسئلة التي فشل النموذج في حلها- و/أو أهمية دمج النسبية العامة مع ميكانيكا الكم في نظرية الجاذبية الكمومية Quantum Gravity، غير أنهم لا يتفقون/يعرفون الطريقة المثلى لتحقيق حلم الفيزياء الأكبر في توحيد جميع القوى -الجاذبية مع القوى الكمية- بجانب السعي للإجابة على تلك الأسئلة.
أهم تلك الأسئلة هي إشكالية التسلسل الهرمي Hierarchy problem وهي معضلة تتعلق بمحاولة تفسير التباين في شدة ومدى تأثير القوى الفيزيائية بين الأجسام والمجالات وبعضها. فمن المعروف أن قوى الجاذبية يمكن أن تظهر بين الأجسام الفلكية بغض النظر عن المسافات بينها، في حين أن قوى الكهرومغناطيسية -على سبيل المثال- لا تحتاج إلى شحنات كهربية ضخمة ليظهر تأثيرها، غير أنها تذوي مع المسافات الكبيرة.
ثاني أهم تلك الأسئلة هو عجز النموذج القياسي عن تمثيل الجاذبية في صورة جسيم كما هو الحال في قوى الكهرومغناطيسية -وجسيمها الفوتون- والقوى النووية الضعيفة -وجسيماتها بوزونات W&Z- والقوى النووية الشديدة -وجسيماتها gluons- في إطار نظرية الكم للمجالات Quantum Field Theory. ولهذا يقترح العديد من الفيزيائيين تمثيل الجاذبية في صورة جسيم افتراضي graviton خارج النموذج العياري، غير أنهم لا يتفقون على كيفية توليد أو عمل ذلك الجسيم.
هذا بجانب مشاكل أخرى لا تسعفنا المساحة المتاحة سوى للمرور على ذكرها، مثل مشكلة شذوذ قياسات عزم ثنائي الأقطاب المغناطيسي لجسيم الميون Anomalous magnetic moment of the muon، أو مشاكل النيوترينوات كتذبذب النيوترينوات neutrino oscillation، وهل هي عديمة الكتلة أم أنها ذات كتلة صغيرة جدًا، ووجود النيوترينو الخامل sterile neutrino من عدمه، وغيرها من المشاكل.
تعتبر الأبعاد الإضافية أحد المنهجيات التي يُعتقد أنها قد تساهم في حل المعضلات السالف ذكرها من أجل تحقيق نظرية فيزياء موحدة لجميع القوى، إذ تقترح الفيزياء النظرية عددًا زائدًا من الأبعاد المكانية و/أو الزمانية على الأبعاد الرباعية المتعارف عليها؛ الطول، العرض، الارتفاع، والزمان التقليدي. ولكن حتى هذا الاقتراح لا يتفق جميع الفيزيائيين المؤمنين به على كيفية توظيفه لتحقيق الهدف الأسمى منه، ولذلك لدينا في سلة آليات عمل الأبعاد الإضافية عدة نظريات مثل:
1. نظريات كالوزا-كلاين Kaluza-Klein theories.
2. نظريات التماثل الفائق Supersymmetry والجاذبية الفائقة Supergravity والأوتار الفائقة Superstring theory.
3. نظرية الأبعاد الزمانية المتعددة Multiple time dimensions.
4. نظريات متعلقة بتعديلات هندسية على خواص الأبعاد الإضافية مثل: الأبعاد الإضافية الكبرى Large extra dimensions والأبعاد المعْوجّة Warped extra dimensions.
في هذه السلسلة من المقالات، سوف نقوم برحلة في تاريخ الفيزياء لنستعرض كيفية تطور فكرة وعمل الأبعاد الزائدة، ولكن قبل البدء يجدر بنا توضيح نقطة متعلقة بتصور الزمن داخل الفضاء الفيزيائي رباعي الأبعاد، وعلاقته بالمكان، وما تعنيه النظريات الحديثة بالزمكان.
ما علاقة الزمان بالمكان؟ وما هو الزمكان؟
مع تطور قياس الزمن عبر الحضارات الإنسانية، وبعيدًا عن اختلاف الإحساس الشخصي بمرور الوقت بحسب الحالة المزاجية، فلا يكاد يُذكر ارتياب الفلاسفة الطبيعيين -أسلاف الفيزيائيين- ولا الإنسان العادي في كون الزمن مطلقًا. حتى عند ظهور الخلاف على تعريف معنى ومسببات الحركة المادية -وعلاقتها بالزمن- بين المدرسة الأرسطية وأنصار نظرية الدفع Theory of Impetus -أسلاف جاليليو ونيوتن-، اتفقت المدرستان على كون الزمن غير متأثر بحركة راصدي الأحداث.
ومع زعزعة أركان الأرسطية ظهرت الحاجة إلى توظيف ملاحظات كوبرنيكس مع جاليليو في وصف الظواهر الفلكية والأرضية، وهنا تجلت عبقرية الميكانيكا النيوتنية في كونها أول وصف رياضي متكامل للحركة -بغض النظر عن كونها فلكية أو أرضية- في إطار الزمن والمكان المطلقين. فحسب تحويلات جاليليو التي تصف كيفية إضافة السرعات والمسافات والفواصل الزمنية وتتحكم في جميع الخبرات اليومية لرجل الشارع العادي على سطح الأرض، فإن الزمن يعتبر وعاءً منفصلاً عن باقي الأبعاد المكانية حيث يمكن التعبير عن كل الأحداث الفلكية أو الأرضية التي تقع في أماكن مختلفة في نفس اللحظة الزمنية، إذ إنها جميعًا ترى بعضها البعض وتؤثر في بعضها البعض خارج تلك اللحظة، وذلك لأن الميكانيكا النيوتونية -وقوانين الكهروستاتيكية- لا تفترض وجود سرعة قصوى لنقل المعلومات، وهو ما يُعرف بمبدأ التأثير-عن-بعد action-at-a-distance.
فلو فرضنا أنه يمكن وصف جميع أحداث الكون بهذه الطريقة، فإنه يمكن اختيار أي نقطة مكانية ووضع جهاز رصد بها قادر على جمع معلومات كل أحداث الكون في تلك اللحظة، وهذا ما يجعل الزمان مطلقًا absolute time، وهو ما يتفق عليه الحدس/البديهة الخاص بجميع البشر حتى وإن لم يعرفوا الوصف الرياضي لمثل هذا النموذج. وهذه البديهية تسمى تجانس الزمان والمكان Homogeneity of Time and Space.
مع ظهور معادلات ماكسويل للكهرومغناطيسية، واستعصائها على الانسجام مع تحويلات جاليليو، ثم اكتشاف ثبات سرعة الضوء، كانت ثورة إعادة تعريف علاقة الزمان بالمكان المعروفة بالنسبية الخاصة لآينشتاين. ففي ميكانيكا النسبية الخاصة، كل ما نعتقد أنه ثابت في ميكانيكا نيوتن هو في الحقيقة نسبي القياس بحسب سرعة الراصد. وهذا يستدعي استبدال تحويلات جاليليو بتحويلات لورنتز التي تحكم الخبرات المتعلقة بالسرعات القريبة من سرعة الضوء، باستثناء ما يتعلق بتأثيرات الجاذبية أو الظواهر التي تتم بسرعات دورانية قريبة من سرعة الضوء. ولذلك ترتب على تعريف سرعة الضوء بكونها السرعة القصوى في الكون عدة تبعات؛ كاستطالة الفترات الزمنية بين الأحداث، وانكماش الأطوال في اتجاه الحركة، وزيادة الكتلة مع حركة المادة.
غير أن أهم تلك التبعات هي إعادة تعريف الزمن بحيث يصبح غير منفصل عن المكان كما هو الحال في الميكانيكا النيوتونية، وإنما يرتبطان سويًا بحيث يُستبدل مبدأ التأثير عن بعد بـمبدأ المحلية Principle of Locality، بحيث يوجد لكل نقطة زمكانية نطاق محلي محدد من الأحداث الماضية في الكون يعمل كمسبب للحدث الذي يقع في تلك النقطة، ويوجد نطاق محلي آخر من الأحداث المستقبلية في الكون يعمل كنتيجة للحدث الزمكاني الذي وقع في تلك النطقة. أما الأحداث خارج تلك النطاقات فلا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تتأثر/تؤثر في الحدث الذي تمثله تلك النقطة الزمكانية، وهذا ما يعرف باسم التركيب السببي Causal structure في ميكانيكا النسبية الخاصة.
تنسج هذه الطريقة في وصف الأحداث خيوط الزمان مع المكان بحيث يصبحان -بشكل «بلاغي»- كنسيج القماش بحيث يستحيل فصل خيوطه الطولية عن العرضية، وذلك عكس الوضع في ميكانيكا نيوتن إذ إن الزمان موجود في خلفية الأحداث بشكل منفصل عن المكان، ويجري بشكل مستقل حتى لو غاب وقوع الأحداث عنه. وفي هذا الإطار يتم استبدال مسلمة تجانس الزمان والمكان الخاصة بميكانيكا نيوتن بتجانس الزمكان. وهذه المسلمة ليست مطلقة ولكنها مرتبطة بنطاق سببي -كما سبق ذكره- بحيث يمكن فيه للأحداث أن تؤثر على بعضها البعض بسرعات أقل من سرعة الضوء [1].
هذه النظرة لنسيج الزمكان تعتبر أساس عملية توحيد ميكانيكا الكم مع النسبية الخاصة فيما يعرف بنظرية الكم النسبية للمجالات Relativistic Quantum Field Theory والتي يستند عليها النموذج القياسي. صحيح أنه لا يمكن قياس هذا التخيل بشكل مباشر، غير أنه من الممكن قياس تبعات هذا الوصف على نظرية الكم النسبية للمجالات من خلال تطابق الوصف النظري لخواص الجسيمات التي يتنبأ بها النموذج العياري مع التجارب. وبالتالي فإن تقبّل أي تعديل على تعريف الأبعاد والزمكان مرهون بقدرة هذا التعديل على تحقيق تطابقٍ مع التجارب التي تفحص صفات الجسيمات التي تتنبأ بوجودها تلك النظريات ذات الأبعاد الإضافية التي مررنا على أسمائها سابقًا.
بعض مشاكل النسبية العامة
ولكن، ما علاقة هذا بالأبعاد الإضافية؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في حقيقة أنه بذكر معضلة توحيد القوى الفيزيائية، فإنه ليس من العدل صب كل اللوم على النموذج القياسي لوحده دون ذكر مشاكل عدم تناسق النسبية العامة مع الظواهر الفلكية والكوزمولوجية الشهيرة، كالمادة المظلمة والطاقة المظلمة والتضخم الكوني.
غير أن أحد أهم المشاكل النظرية -والتي قليلاً ما تُذكر مقارنة بالمشاكل السابق ذكرها- تكمن في حقيقة أن محاولة تعميم تحويلات لورنتز على نسيج الزمكان -مع نتائجها كمراعاة تغاير لورنتز Lorentz covariance- لا تتماشى مع النسبية العامة في كل الحالات، فليس من الضروري أن تحافظ النسبية العامة على عدم تغير قياسات الكميات التي تحافظ عليها النسبية الخاصة، لأن النسبية العامة تهتم بالحفاظ على عدم تغير شكل المعادلات نفسها مع تغير الجاذبية المرصودة، وهو ما يعرف بمبدأ التغاير العام General covariance. يظهر هذا التعارض عند التعامل مع ظواهر الجاذبية التي لا تُوصف من خلال مبدأ التكافؤ principle of equivalence بين قوى الجاذبية والقصور الذاتي، وهو المبدأ الذي صاغه آينشتاين بناءً على تجربته الذهنية الشهيرة المتعلقة بمِصْعد بناية في حالة سقوط حر، هذا يستلزم أن النسبية العامة لا تستوعب النسبية الخاصة إلا في حالات معينة.
كما أن مبدأ التكافؤ نفسه لا يعمل كما هو متوقع حينما تكون الأجسام المتفاعلة كبيرة وذات تكوين داخلي، كما هو الحال في تأثير المجرات -بالنجوم المكونة لها- على بعضها البعض بالجاذبية. ولهذا نشأ اتجاه نظري بداخل الفيزياء بغرض العمل على تأسيس نظرية جاذبية تتوافق مع تحويلات لورنتز في جميع ظواهر الجاذبية لتحقيق الغرض الأسمى، وهو توحيد الجاذبية مع الكوانتم [2].
تاريخيًا تم تأسيس أحد التيارات الفرعية في هذا الاتجاه على تطوير نظريات المجال القياسي الجذبوي Gravitational scalar field كما هو الحال في جاذبية نيوتن. ظهرت تلك النظريات كمحاولات لتوحيد الجاذبية بالكهرومغناطيسية قبل اقتراح آينشتاين للنسبية العامة. وقد يكون القادم مفاجئًا للقارئ، لكن حيرة آينشتاين بين التغاير العام وتغاير لورنتز جعله مشغولاً بين عامي 1907-1913 بتطوير نظرية للجاذبية يصفها مجال قياسي -كذلك المجال الذي يصف ميكانيكا نيوتن- وفي نفس الوقت تتوافق مع النسبية الخاصة، غير أن تلك المحاولة باءت بالفشل.
كانت تلك المحاولات تشغل بال فيزيائيين آخرين غير آينشتاين حتى ظهور النسبية العامة. وبالرغم من عدم توافق تلك المحاولات النظرية مع التجارب، إلا أن إحداها بقيت ملفتة للنظر، ليس فقط بسبب تناسقها الرياضي، وتوافقها مع تغاير لورنتز وتحويلاته، واحتوائها لميكانيكا نيوتن عند مراعاة التقريبات الحسابية، ولكن لأنها كانت أول نظرية فيزيائية تقترح -وبشكل ثوري- ضرورة وجود أبعاد إضافية. إنها نظرية نوردْشترُم للجاذبية Nordström’s theory of gravity، وهي النظرية التي سنناقشها في المقال القادم باعتبارها السلف الأول لنظريات كالوزا-كلاين [3].
- [ Whittaker, E. T., A History of the Theories of Ether & Electricity, Volume 1, The Modern Theories: 1900-1926. p.27-76.
- John D. Norton, General covariance and the foundations of general relativity: Eight decades of dispute, Reports of Progress in Physics 56 : 791-861 (1993).
- Norton, John D., Einstein, Nordström and the early demise of scalar, Lorentz-covariant theories of gravitation. Arch. Hist. Exact Sci. 45 (1992), no. 1, 17–94.
رابط المصدر: